تشكل اللغة المادة الأساس للعمل الأدبي، باعتبارها أحد أطوع تقنيات القص الفني تعبيرا عن رؤية الكاتب، فهي وعاء لأحاسيسه وأفكاره وأخيلته، وصورة اللغة في الرواية هي التي "تلملم سمات مجموع مكونات النص وترتبط بها بعلاقة التأثير المتبادل وخير مكان تنتعش فيه اللغة هو الرواية، التي تغدو كحلبة تتصارع فيها اللغات والأصوات، وتلك خاصية وسمت لعبة النسيان، والتي تعتبر إحدى الروايات التي نجحت في استثمار التعدد اللغوي لأجل تشخيص حركة العبور المتبادل بين الواقع والمتخيل في تمظهراتها المتبادلة، واحتضان رغائب الذات وإحباطاتها معتمدة في ذلك على تعالق لغات متعددة، وتمفصل أوعاء وأصوات متنوعة منتظمة داخل التعدد اللساني الذي يرشح بخطابات ورؤى عديدة، ومحمولات إيديولوجية ويقص هذا التعدد صوت الكاتب المهيمن في النص. وهذا الأخير –التعدد- نلمسه من خلال الأساليب التالية: الحوار والخطاب المباشر؛ الحوار الداخلي وأقوال الشخصيات التي تضيء الجوانب المعتمة من مسار المتحدث عنه. لغة الحوار المباشر: وهي التي يكثف بواسطتها الهادي وسي إبراهيم والطايع عن توجهاتهم، طبائعهم وطروحاتهم الفكرية.
كما تتضمن تقييما لمرحلة تطور الوعي بفرنسا وثورة الطلاب سنة 1968 "عشت بكل كياني ثورة مايو 1968، كنت أحضر التجمعات في باحة السربون وأناقش وأستشهد بسارتر" ، كما تتخلل النص كلمات فرنسية تم تلهيجها وهي تؤشر على حضور اللسان الفرنسي الخالص الذي يبرهن على الازدواجية بين اللغة العربية واللغة المهيمنة سياسيا واقتصاديا إلى لغة المعمر الأجنبي مثل: J`aime la Justice toi tu mérites . كما يتسلل الوهج الشعري إلى هذه البنية السردية ليكسر رتابة وبطئ هذا الخطاب السردي ويفجر فيه حركية وجدانية، وتتمثل في القول الآتي: "شعشعت الخمرة في مسامنا وفتتنا جسدك الهامس بحركاته المتسقة المتناسلة اللاحق في يأس كل اعتزازات جسدك محاولا اختزانها وأنا أردد بيني وبين نفسي شعرا قديما: قلت وكم يهواك من عاشق قالت ومن يهواني فقد كفر هكذا، فقد وردت اللغة في النص عموما، كشكل تعبيري عن فكر الذات والمجتمع خصوصا حين تتخذ طابعا شعبيا (الدارجة) يموج بين النقد الساخر والضحك. وبصيغة الحوار الداخلي: تبوح الشخصية، تناجي نفسها ومن خلال تمفصلاتها النفسية، يحضر الصوت الآخر لها إما تصارعا أو مماثلا لها، "وأنت مأخوذ بما ترى تظل مع ذلك مشدودا إلى العيون الوسيعة الواشية بابتسامة خلف اللثام" ، فالمنبهر بهذا الجمال هو الهادي حين عودته إلى فاس والمخاطب هو الطفل الذي يمثل الهادي نفسه. أما أقوال الشخصيات: فهي تضيء جوانب الشخصية وتقوم بتأثيرها " أزواجنا وأولادنا يحبونه ويعجبون بشخصيته وحسن معاملته وهذا ما كانوا يشيرون إليه من وراء حجاب" . هناك التعبير الشفهي المستقى من الخطاب اليومي "إيو لالة قومو انكملو شغالنا ما بقى للرجال غير ادخلو" ، ويشير لنا هذا المقطع إلى المرأة المغربية التقليدية التي تظل قابعة في البيت محتملة لأعبائه. كما يتضح الخطاب الشفهي أيضا حين يتحدث سي إبراهيم بالدارجة أو اللهجة السوسية "مناي نجيت للرباط المر الأولى عند ولد عمي كان تيبيتني في الهري اديالو حدى جامع مولاي سليمان حتى جمعت شوي د لفلوس" . ثم هناك الخطاب التعبيري المكتوب والمتمثل في أحاديث نبوية وآيات قرانية، أدمجت في صلب الحكي وتم تحويلها إلى حوافز سردية لكن دون المساس بجوهرها المتعالي، وذلك لتدعيم الخطاب الديني الذي يدعم بدوره الخطاب الاجتماعي والتاريخي والسياسي، كمثل قوله جل في علاه: {تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير} ،
{الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا} ، {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله}. وقيل في كل ساعة ترذل". كما تستدرج الرواية الخطاب الأدبي بشتى أشكاله وتمظهراته، مدمجة إياه ضمن تشعبات السرد، بشكل يضفي على النص الروائي جمالية خاصة، ومنه الخطبة أو الخبر الصحفي الذي يفضح انتهازية السلطة زمن الاستقلال، وذلك باحتكارها لماء "عين تفرانت" وتحويله لخدمة المخازنية، حيث يجيء عهد الاستقلال و ظن الجميع أن كل شيء سيتغير وأنه عهد جديد، عهد الحق والعدل والفضيلة، لكن خاب ظنهم فما لبث أن تحولت مياه العين كلها لري حدائق رجال المخازنية. ثم هناك الرسالة والتي تبدو كلماتها "مزدوجة الصوت شأنها شأن الردود في الحوار، موجهة إلى إنسان محدد، تأخذ في اعتباره ردود أفعاله المحتملة وجوابه المتوقع" وهو ما نلمسه في رسالة الفتاة المغتربة في باريس الموجهة إلى الهادي والتي تتضمن كثيرا من العلامات الدالة على ذلك. وعليه، فالتنوّع اللغوي هو سمة رواية محمد برادة لعبة النسيان، وبحسب ما يذهب إليه باختين(1895ـ 1975م): "لا توجد في الرواية لغة واحدة، بل لغات تقترن فيما بينها في وحدة أسلوبية خالصة، وليس في وحدة لغوية إطلاقا" .

ـــــــــــــــــ

  • محمد برادة (ولد في 14 مايو 1939، بالرباط)، روائي وناقد مغربي يكتب القصة والرواية، كما يكتب المقالة الأدبية والبحث النقدي، وله في هذه المجالات جميعها العديد من الدراسات وبعض الكتب ذات الأثر اللافت في المشهد الثقافي والأدبي والنقدي العربي. سافر إلى مصر للدراسة في جامعة القاهرة، حيث نال فيها سنة 1960 الإجازة في الأدب العربي في سنة 1962 حصل على شهادة الدراسات المعمقة في الفلسفة بجامعة محمد الخامس في مدينة الرباط. كما نال درجة دكتوراه من جامعة السوربون الفرنسية عام 1973 نشرت أول قصة له عام 1975 بجريدة العلم المغربية وكانت تحت عنوان " المعطف البالي" وشارك في تأسيس اتحاد كتاب المغرب وانتخب رئيسا له في المؤتمر الخامس سنة 1976 والسادس سنة 1979، والسابع سنة 1982. حصل على جائزة المغرب للكتاب، في صنف الدراسات الأدبية، عن كتابه النقدي (فضاءات روائية).

    • محمد برادة، لعبة النسيان، دار الأمان للنشر والتوزيع، ط1، 1995. محمد برادة:سئلة الرواية اسئلة النقد،ط1،1996،بمطابع النجاح الجديدة، الدار البيضاء،ص38. الرواية ،ص:104. محمد برادة، لعبة النسيان، ص:59-64-65. نفسه، ص:101. نفسه، ص:101. لعبة النسيان، ص:20. نفسه، ص:8. نفسه، ص:50. سورة الملك، الآية: 1. سورة الملك، الآية:2. سورة الزمر، الآية:53. محمد برادة، لعبة النسيان، ص:109. أحمد فرشوخ: جمالية النص الروائي، مقاربة تحليلية اللعبة النسيان، ص 120،دار الأمان للنشر والتوزيع، ط1،1996. ميخائيل باختين، الكلمة في الرواية، ترجمة يوسف حلاق، ط1، وزارة الثقافة، دمشق، 1988، ص: 220.

الرواية نت

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم