في نهاية عام 1936 التقى جورج أورويل في باريس بهنري ميللر. كانت الحرب الأهلية الإسبانية محتدمة، وجموع من المثقفين الأوروبيين، وكذا سواهم من قارات أخرى، قد التحقوا بصفوف القوى الشعبية المقاومة قوات الجنرال فرانكو، المسنود من الفاشي موسوليني. كان العالم وقتذاك، وأوروبا خصوصاً، قد بدأ بالانحدار المتسارع صوب حرب كبرى، والجميع يترقب الأسوأ.

يكتب أورويل عن لقائه بميللر في تلك الحُمّى، مشيراً إلى أن الأخير لم يُبْدِ اكتراثاً أو اندفاعاً حيال ما يجري، بل علّق على حالة "الالتزام" السائدة والدافعة للمشاركة في تلك الحرب الأهلية، واصفاً إيّاها بالحماقة! كانت رواية ميللر "مدار السرطان" قد نُشرت قبل سنة من اللقاء، راسمةً نصّاً مختلفاً عن سواه من روايات تلك الحقبة المكتوبة بالإنكليزية؛ إذ انشغلت بمجريات الحياة اليومية "العادية"، لشخصيات "عادية"، تعيش أوقاتاً "غير عادية" تعصف بأوروبا.. لا بالعالم أيضاً! تفاصيل شوارع باريس الجانبية، والتصعلك الباحث عن وجبة طعام أو فرصة عمل، والسكن الجماعي مع أصحاب عبقريات متوهمة، وارتياد المواخير، إلخ. كأنّ أمراً جللاً لا يحدث! كأنّ ميللر يتحرك ويكتب دون ملاحظة ما يجري حوله، وأنّ أهوالاً على الطريق!

غير أنّ المسألة لم تكن كذلك في نظر ميللر، كما كتب أورويل؛ حيث رأى فيه كائناً انفلتَ من وصفة "الحيوان السياسي"، والتزم باليوميّ الهامشي في حيثياته البائسة، رامياً خلف ظهره كلّ الصيغ ذات النسوغ الوطنية بشعاراتها البرّاقة. واللافت أنّ ميللر، كما رآه أورويل، كان صادقاً من جهة، لكنه (بحسب قراءتي المتواضعة للسياق) كان "مكترثاً" جداً في الوقت نفسه.. إنما وفق رؤيته الذاتية الخاصّة. لقد أعلن عن هويته منذ زمن، مدرجاً إيّاها خارج المسميات التي رفضتها نشرة دورية تُدعى "المشجع The Booster" كان أحد محرريها: غير سياسية، وغير تعليمية، وغير تقدمية، وغير تعاونية، وغير أخلاقية، وغير مبدئية، وغير معاصرة.

إذَن، هنري ميللر، مثلما تحدد تلقائياً، شخصاً يعيش وروائياً يكتب، أوجد لنفسه حيّزاً بدا ناشزاً بالتأكيد إبان عصره (ربما أيضاً في كافة العصور)، ودافعه في ذلك: زيف ورياء مجموعة القِيَم الكبرى الذاهبة نحو التحلل، والنأي عن الوهم ببناء مستقبل أفضل. أكانَ متشائماً؟ ربما، ولعلّ كلمة "تشاؤم" ليست دقيقة هي نفسها. لكنه بالتأكيد لم يكن متفائلاً بتخلق عالم نظيف. لم يكن آملاً بشيء إيجابيّ إلى درجة يقينه من استحالة تلافي الآتي، فلم يبقَ له إلّا أن "يستسلم"، معترفاً بعجز البشرية عن مقاومة الدمار الآتي!

نعم، إنه لموقف سلبيّ جدير بالتفحّص. لكنّ وجوباته المسببة له، عند رجل لم يؤمن يوماً بكافة صور الفراديس المأمولة، إنما تمنحه سِمَةَ الحِكْمة، بمعنىً ما، وطيراناً فردياً حُرّاً خارج الأسراب. وهذا ما وضعه، بحسب وصف أورويل المجازيّ، "داخل الحوت" (عنوان مقالته المخصصة لميللر). في بطن الحوت الهائل، حيث بإمكانه تلافي الاشتباك المباشر مع مباذل العالم المتوحش؛ تلك التي ليس بمقدوره تصويبها أو التحكم بها، والركون الآمن فيه كأنما عاد جنيناً محميَّاً من حروب الخارج!

والآن، إذا ما قُرئ هذا الـ "هنري ميللر"، على هيئة نصّ روائي عربي حديث كُتب في أتون الحرائق العربية الراهنة، والمآلات البائسة للمجتمعات العربية وإنسانها المخذول، وتشوهات الأنظمة المستبدة الفاشلة، وجرائم السلفيات الدينية وغير الدينية، ووقاحة الأكاذيب المنصبّة فوق رؤوسنا على مدار الساعة وعرض الشاشات متعددة الانتماءات، وتحلل "القِيَم العربية الأصيلة" وإبدالها بتهجينات عجيبة.

أسأل: إذا ما قُرئت رواية عربية تنشغل بـ"هوامش" حياة كهذه نعيشها ونوافلها، فكيف ستكون محاكمتها على أيدي سلالة النقّاد "الملتزمين الأخلاقيين"؟

(كاتب وروائي أردني)

عن صحيفة العربي الجديد

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم