يتحدث مارلون جيمس، صاحب الـ44 ربيعاً، بلغة المتفاجيء من حصول روايته الأخيرة «لمحة تاريخية عن سبع جرائم قتل»، على كل هذا التقدير، وفوزها بجائزة «مان بوكر». ويتجلى هذا واضحاً في ردّه على سؤال حول ماذا سيفعل بمبلغ 50 ألف جنيه استرليني. إذ يجيب بأن لا «خطط لديه» كونه لم يخطر له مطلقاً أن يكون الفائز، سيما وأن روايته الأولى «شيطان كرو» رفضت 78 مرة وانتهت ممزقةً.

يشير جيمس في حديث أجرته معه صحيفة «فاينانشال تايمز» الأميركية، أخيراً، إلى أن محاولة فهم مرحلة السبعينيات من القرن الماضي، «المشهودة» برأيه، دفعته إلى وضع رواية «لمحة تاريخية عن سبع جرائم قتل»، ويتكلم عن مبدأ ارتباط مفهوم الهوية الجامايكية بالقتل، مقارنة بتربيته الهادئة التي كادت تلامس حد الضجر. أما علاقته بجامايكا الوطن الأم ومسرح أحداث روايته الأخيرة، فيصفها بغير المريحة.

وعلى الرغم من أن الحكام وصفوا الرواية بأنها «آسرة، غارقة إلى حدّ الاختناق بالعنف والخوف والترهيب والفقر المدقع والسياسة والجريمة»، يعتبر جيمس نفسه «متأثراً بأسلوب ديكنز في عدد من جوانب رواية القصة». ويقول «لا أزال أؤمن بعناصر الحبكة والمفاجأة والتشويق. ولا زلت أعتقد بأنه يجب دفع القارئ إلى الضحك والبكاء والانتظار. إني روائي قديم الطراز في عدد من النواحي».

وفي محاولة الوصول إلى لبّ الموضوع يُطرح السؤال على جيمس عن سبب وضع الرواية، فيقول: «لأنني كنت أحاول أن أعطي معنى لمرحلة السبعينيات من القرن الفائت، لطالما كنت مسكوناً بذاك العقد من الزمن، الذي شهد ولادتي، لكنني لا أملك أدنى فكرة عما كان يجري، عن حجم المخاطر، وما كان يحصل فعلاً».

آفة وأحداث

ويشير جيمس إلى أنه في حال كانت رواية «لمحة تاريخية عن سبع جرائم قتل» تتحدث عن شيء، فإنها تحكي كيف «يمكن لحدث شبه آني أن يولد عواقب تدوم لعقود»، من ضمنها، كما تشير أقسام الكتاب الأخيرة ظهور آفة تجارة الكوكايين في أميركا في الثمانينيات من القرن نفسه.

ويصف جيمس فترة السبعينيات بـ«المشهودة» بالنسبة لجامايكا، حيث «برزت المطالبات بإجراء إعادة تقييم نقدية: بعد 10، 12، 14 سنة أو كم من السنوات عقب الاستقلال. زمن كان يعني لكثيرين اللامكان».

وجاءت عملية إطلاق النار على الشخصية المحبوبة مارلي على يد الطبقة الدنيا من «المعذبين»، والأقل تقديراً من بعض أوساط الطبقة المتوسطة، حسب كلام جيمس، بمثابة «علامة استفهام» طبعت المرحلة، التي عكرتها سلسلة أعمال الإجرام المترابطة، والعداوات السياسية وخداع الحرب الباردة المؤلفة لمتن الرواية.

إلا أن جيمس يعترف بوصفه ابن عائلة من الطبقة المتوسطة لأم تحرية بوليسية وأب محامٍ، أنه كان معزولاً عن أسوأ مشكلات البلاد، حيث قال: «كانت الطبقة المتوسطة في جامايكا تعيش حالة ثبات حقيقية، كانت هناك نواقص طبعاً، ومخاوف، لكن الحال كانت مستقرة جداً».

وتخترق تلك الفروقات صفحات الرواية، التي يلعب أبطالها بحذاقة على وتر التماهي بالأنماط الغربية في بلدهم، حيث يجعل جوزي ويلز لغته العامية غليظة، مثلاً، ليخدع رجال «سي آي إيه» الذين يشتري منهم السلاح، ليقللوا من قدره. ويقول جيمس في هذا الإطار: «أعتقد أحياناً أن هناك نظرةً تفترض أنه إن كنت جامايكي، فلا بدّ أن تكون شهدت عملية قتل واحدة على الأقل، لكن تربيتي ما كان يمكن أن تكون أكثر ريفية لدرجة تلامس حدّ الضجر».

أمضى جيمس عقداً من الزمن، بعد تخصصه في مجال الكتابة الإبداعية، قبل ان تشتعل فيه رغبة الكتابة، ويشرح الأمر على النحو التالي: «كنت أقرأ الكثير من الكتب، وكلما قرأت ازدادت رغبتي بالكتابة. كنت أظن أن هناك الكثير من القصص التي أهتم لها وأرغب بقراءتها، غير موجودة».

علاقة متوترة

وتحدث جيمس خلال حفل تسلم الجائزة كيف أدى رفض الناشرين لأعماله جعله يمزق مسودة روايته الأولى، التي بررها بالقول: «كنت مستاءً وأشعر بالغضب. لكن اتضح لي فيما بعد أنه أحياناً يمكن للغالبية أن تكون مرادفاً لوجود الأشخاص الخطأ على ضفة واحدة».

وعلى الرغم من أن جامايكا تحتل روح العمل، وأن جيمس كان أول جامايكي يحتفى بفوزه بجائزة «مان بوكر»، فإن علاقته بالجزيرة غير مريحة، حيث بدا وصفه لها في روايته الأخيرة أقل من مشرق. وربما تأنى في اختيار كلماته بعناية حين سئل عن تحديد نوع علاقته ببلده. فقال: «أكن حباً عظيماً للوطن، لكني أعتقد أيضاً بأنه خانق، وضيق أحياناً، اضطررت إلى مغادرته ككاتب وإنسان».

أما بالنسبة للخطوة المقبلة لجيمس، فنستشف من ما ذكر في شهادة الشكر التي تستهل روايته الأخيرة، أن نتاج أبحاث «لمحة تاريخية عن سبع جرائم قتل» ستثمر في رواية مقبلة، لكن جيمس يبدو مكتفياً من جامايكا لبرهة. ويقول: «في الواقع، الكتاب المقبل لن يحصل، وسأعود بأحداث روايتي التالية إلى العصور المظلمة، العصور الوسطى، لكني لست ذاهباً بها إلى أوروبا».

ويضيف انه يخطط بدلاً من ذلك لإبقاء الأحداث في إفريقيا «حيث العصور المظلمة لم تكن ظلامية»، ويشير إلى أنه في مرحلة البحث المعمق حالياً، كجزء من عملية الانغماس التي يعتبرها حيويةً. ويقول: «إنه الشعور الذي أحتاجه لأكتب، أحتاج لأن أعرف المساحة التي سأكتب فيها وأمتلكها، وأنا بالكاد وطأتها قدماي».

"7 جرائم قتل " رواية بوليسية تأخذنا إلى آفق التاريخ

تحكي رواية «لمحة تاريخية عن سبع جرائم قتل» التي وصفها مايكل وود، رئيس لجنة تحكيم جائزة «مان بوكر» بأنها «رواية بوليسية تتخطى عالم الجريمة لتأخذنا إلى أفق التاريخ الحديث الذي لا نعرف عنه إلا القليل»، قصة محاولة اغتيال المغني العالمي بوب مارلي، الذي يعود إليه جيمس على امتداد الرواية على أنه «المغني»، وما ترتب عليها من آثار.

لكن الأهم يبقى ربما، في أن الرواية تحكي قصة جامايكا السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، حين كانت البلاد تغرق في الأسلحة، وعناصر الـ«سي آي إيه» يحتلون البيوت، والجزيرة برمتها تعيش واحدةً من أعنف لحظات الحسم في تاريخها. إنها رواية تستحق أن تحكى، قصة عن جامايكا لا تتوالى أحداثها في جامايكا وحسب.

مؤثرة وصعبة

وتعتبر «لمحة تاريخية عن سبع جرائم قتل» رواية مؤثرة أكثر منها ممتعة، إنها نوع من الكتب الصعبة. وذات بنية تتسارع أحداثها أو تبطيء، وتتراوح بين التوقف والانطلاق، بحيث لا تجتاحك على نحو ما تفعل الشخصيات الروائية المنفردة التي طغت على الروايتين السابقتين للمؤلف.

ووصفت مؤسسة باختين للفلسفة، الرواية، بمتعددة النغمات التي تدمج وتؤلف بين عدد من الأصوات المتنافسة. ويبدو جيمس متأثراً بهذه الفلسفة مسترسلاً فيها، لنجد أن «لمحة تاريخية عن سبع جرائم قتل» رواية قائمة على تنافر الأصوات، بمجموعة من الشخصيات التي تعدّ منذ بداية الكتاب 75 شخصيةً يقفز معظمها ليخبر قصته، فتجتمع مختلف التجارب الجمايكية، بما لا يرادف بالضرورة القول إنها محلية الطابع أو محدودة الأفق.

مسار عكسي

تتدرج رواية جيمس من أسفل إلى أعلى بدلاً من أن تتبع المسار الطبيعي، فضباط «سي آي إيه» مجرد عناصر ميدانيين وليسوا مسؤولين رفيعي المستوى..

حيث الكاتب يبدي اهتماماً بالمسلحين الفرديين، موازياً لزعماء عالم الجريمة، وحيث يطل بوب مارلي بشخصية تبقى النقطة الثابتة في قلب دوامة الأحداث، مع ان كل شيء يدور حوله، لا نسمع له رأياً ولا يذكر اسمه مرةً، بل يحمل اسم «سينغر»، الشخصية التي تثير الخوف والمخيلة أكثر من ما تجسد الشخصية الرئيسية.

وصف خجول

ومع ان جيمس يصف «لمحة تاريخية عن سبع جرائم قتل» بـ«الرواية المدفوعة بشخصية وحيدة»، نلاحظ أن وصف «وحيدة» هنا يبدو خجولاً في بحر تعدد الشخصيات المتنوعة، والإصرار المحسوب الذي دون عبره جيمس كلام شخصيات روايته ويبقيها مع ذلك متقدة مليئة بالحياة، واللغة السياسية المعتمدة على امتداد مشاهد الرواية.

نبدأ من بام-بام، أحد صغار المجرمين المشاركين في عملية الاعتداء على سينغر، الذي يلاحظ كيف يتعامل الرجال البيض المسلحون بسخرية مع المتواطئين الجامايكيين، بما يغضب جوزي المجرم المخضرم المتماهي، الذي يشعر بالإحباط لقصور تعليمه عن منحه المستوى عينه من الثراء اللغوي..

لكنه ينجح مع ذلك في استعمال معرفته للإنجليزية للسيطرة على مواطنيه. ويساعد الإلمام المعرفي عينه نينا برغس على العثور على منصب جيد في نيويورك بعد أن هربت من جامايكا اعتقاداً منها بأن العصابة تبحث عنها لكونها شاهدة على محاولة قتل سنغر.

إسقاط

وتمنح المعرفة اللغوية كل من نينا وجوزي رؤية تكشف كيفية نجاح البيض، إذ تقول نينا: «أحب طريقة الأميركيين في وصف الأشياء من منظور شعورهم حيالها مهما كانت، على الرغم من أنها ليست كما يقولون بالدليل القاطع. تماماً كلعبة كرة قدم تدوم للأبد، مع ان أحداً لم يحرك قدميه».

ويمتد هذا الإسقاط ليطال جامايكا نفسها، ويدفع جوزي للقول إن البيض مخولون تاريخياً لأن يشعروا بحرية قول أو فعل ما يشاءون:«إلا ان شخصيات البيض، كما مخرج الأفلام الهاوي مارك لانسينغ، تمعن في ادعاء أنها ابنة الثقافة الجامايكية».

لكن شخصيات جيمس الجامايكية نفسها ترتبط بعلاقةٍ أكثر غموضاً مع منتجات الرأسمالية الأميركية، فيعبر ديموس عن أحلامه بالقول بلغة إنجليزية متكسرة: «أريد مالاً يكفيني حاجتي للمال، يتيح لي الاستحمام خارجاً لأني أريد ذلك، والبقاء في أميركا، وجعلها تعلم مع ذلك أنه يسعني الذهاب ساعة أشاء».

سيرة شفوية متخيلة

لا يسع شخصيات جيمس دوماً، أن تعاين مهندسي ظروفها الخانقة، إلا أن صراعاتهم للوصول إلى المحيط أو أميركا، أو حتى إلى لحظة نسيان من خلال تعاطي جرعة كوكايين أو ومضة رصاص، تظهر مدى هول وفظاعة العالم.

وتتخذ رواية «لمحة تاريخية عن سبع جرائم قتل»، المستوحاة من حدث شبه خرافي، شكل السيرة الذاتية الشفوية المتخيلة، يروي أحداثها شهود وأشباح وقتلة وبرلمانيون وتجار مخدرات ومبتزون وملكات جمال وعملاء «إف بي آي» و«سي آي إيه»، ومراسلون وصحافيون، ذلك في قصة تخترق المشهديات الغريبة والشخصيات الغامضة، وتعاين الدوافع وتطرح التساؤلات.

عن صحيفة البيان

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم