ليس بلا معنى ودلالة قيام روائي عربي معاصر، وبعد عامين على صدور روايته، بحذف ثمانين صفحة تقريبا، لغاية إعدادها لطبعة ثانية، فإذا ما عاود بعض أصحابه قراءة الطبعة الجديدة لم يلحظوا اختلافا أو نقصا بين الطبعتين، لكأن الصفحات الثمانين السابقة من السرد كانت لغوا فائضا عن حاجة النص وموضوعه، فحُذفت! وإذا ما عرفنا أن الرواية، في طبعتها الأولى، لم تتجاوز الثلاثمائة صفحة، اتضحت نسبة الصفحات الثمانين، والمساحة التي كانت تشغلها في العمل ككل، الأمر الذي يشير إلى أن حذف هذه الكمية ـ من دون أثر ملحوظ أو نقص ظاهر لدى من عاود قراءتها ـ إنما يؤكد بطلان ضرورتها في الطبعة الأولى، خصوصا وأن الحذف لم يتم بطلب أو اشتراط من رقابة المطبوعات، وإنما لرغبة الكاتب فقط. توقفت مع هذه الواقعة، لطرح موضوع الحجم الضخم لبعض الروايات العربية، ومدى ضرورته للعمل الأدبي، ودرجة اللغو في النص، أو لزوم التزيد في الكلام والسرد في تلك الأعمال؟ إذ ثمة ما يثير حيرة القارئ -أو حيرتي الشخصية على الأقل- إزاء غاية المؤلف من تسويد كل هذه الصفحات، بحيث يبلغ عمل روائي واحد أربعة أو خمسة أجزاء ضخمة، وأحيانا أكثر من ذلك. عصر السرعة يجري هذا في ظل تكرار القول: إن عصرنا هو عصر السرعة، وإن قارئ اليوم لا وقت لديه لقراءة المجلدات والمطولات مهما كان موضوعها ومحتواها من الأهمية بمكان، وإن الزمن الذي كان فيه القراء يخصصون الوقت الطويل لمطالعة المجلدات قد مضى وانقضى، ولعل هذا ما أسس ودفع إلى ظهور الروايات القصيرة أو القصص الطويلة، والتي لا تتجاوز إحداها مائة أو مائتي صفحة. ومن المفارقات أن المسألة لا تخفى عن الكتّاب أنفسهم، وهو ما حدث حين بادر روائي -له عمل بعدة أجزاء- أصدقاءه بالقول: لا أخفي عنكم أنني شعرت، بعد صدور الرواية، بإمكانية الاكتفاء بجزأين أو ثلاثة على أبعد تقدير، ولكن هذا ما حصل الآن، فهاتوا ما عندكم! بالطبع، ما من اشتراط مسبق ولا من عدد محدد لصفحات العمل الروائي، أو الأدبي عامة. الأمر رهن بما يرتئيه الكاتب وحده. غير أنني كثيرا ما تساءلت عن الدافع لكل تلك الوقائع والأحداث والشخصيات، وعن ضرورة كل تلك التفاصيل، بل وتفاصيل التفاصيل، التي يمسك بعضها برقاب بعض -كما يقال- وتتوالى كسيل جارف في تتابع وتزاحم وغزارة، لا يضيف وجودها شيئا ذا أهمية، ولا ينقص حذفها -وهو الأهم في موضوعنا- من الرواية شيئا أو يحجم من موضوعها ورؤيتها. فإذا كانت القصة القصيرة، مثلا، هي فن التكثيف والاقتصاد في الشريط اللغوي، والتقاط الومضة أو اللحظة الهاربة، والتمركز حول بؤرة واحدة مشعة وموحية.. وإلى ما هنالك، فهل تكون الرواية -على النقيض المعاكس- المزيد والمزيد من الإسهاب والاسترسال وفيض السرد والوقائع وحشد الشخصيات والتوقف مع المنمنمات متناهية الصغر.. ما شاء لكاتبها الهوى، وما امتلك من المقدرة على السرد بلا قيود ولا حدود؟!

نَفَس طويل صحيح أن الرواية تعنى بالتفاصيل، وبتقديم شخصيات وعلاقات وأحداث وأزمنة وأماكن وحيوات وتحولات في المصائر.. وغير ذلك، بيد أنه لا بد من أن تكون للتفاصيل حدود تحدها، ومعايير تضبطها، وإلا تداخلت مع الثرثرة، وتمازجت مع فيض اللغو، فبات مجرد استيقاظ شخصية من النوم، أو عرض لأنواع النباتات في حديقة، أو وصف لأثاث بيت، يستغرق ثلاث صفحات أو يزيد، وحال الناتج في المعنى والدلالة لا يتجاوز حدود الاستيقاظ أو تصوير نباتات أو عرض لأثاث بيت. والسؤال: هل من موضوع أدبي، مهما كان فريدا، بات يحتاج في عصرنا إلى مجلدات أو أجزاء كبيرة لتناوله وتقديمه عبر عمل روائي واحد؟ هل من سارد له أن يقدم ما لم يسرد من قبل؟ هل من فتوحات كبرى -بعد- بإمكان كاتب أن يدعي اجتراحها؟ ناهيك عن كون الكتّاب هم الأكثر معرفة بأن ما يقال بالعديد والغزير من الصفحات يمكن قوله بالمحدود منها. غير أن أمر التطويل والاسترسال والإسهاب غالبا ما لا يكون ضرورة للرواية وموضوعها ورؤيتها، كما يبدو لي، بقدر ما يعكس الطبع والميل والهوى لدى الروائي نفسه. وهو ما يمكن التمثيل عليه لدى صديقنا -صاحب رواية الأجزاء الخمسة- إذ وبعد كل ما قيل وكتب من القراء والنقاد وأصحاب الكاتب حول كثرة الأجزاء غير الضرورية لموضوع روايته ومقولتها، ومصادقته على ذلك.. نراه يعود، بعد سنوات قليلة، إلى إصدار رواية أخرى بأجزاء عدة، أعترف بأنني ما قرأتها، ولا كان لدي الجَلَد الكافي لمحاولة ذلك!

كاتب وقاصّ سوري عن موقع الجزيرة نت

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم