تخيّرت هذا النعت «المغاربي» قاصدا متقصّدا، لسبب لا أحبّ ان أخوض فيه كثيرا وهو هذا السجال القديم المتجدّد بين أهل المشرق وأهل المغرب. وقد سبق ان أشرت إليه في مواضع أخرى. ثمّ وجدت ابن بسّام ( علي الشنتريني ت.543 هـ) صاحب «الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة» يعدّل من رأيي في الأدب المغاربي، ويعيدني إلى سجال قد يخاله بعضنا ولّى وذهب. يقول في مقدّمته: «وما زال في أفقنا هذا الاندلسي القصي، إلى وقتنا هذا من فرسان الفنّين، وأئمّة النوعين… نثر لو رآه البديع [بديع الزمان الهمذاني] لنسي اسمه، أو اجتلاه ابن هلال [ ابن البوّاب] لولاّه حكمه، ونظم لو سمعه كُثيْر [المعروف بكثير عزّة] ما نسب ولا مدح، أو تتبّعه جرول [الحطيئة] ما عوى ولا نبح، إلاّ ان أهل هذا الأفق، أبوا إلاّ متابعة أهل الشرق، يرجعون إلى أخبارهم المعتادة، رجوع الحديث إلى قتادة [أبوالخطاب السدوسي]، حتى لو نعق بتلك الآفاق غراب، أو طنّ بأقصى الشام والعراق ذباب، لجثوا على هذا صنما، وتلوا ذلك كتابا محكما…» على ان حديثي هاهنا، حتى لا يحجزني عنه الاستطراد، يتعلّق بالأدب الروائي المغاربي الذي أخذ منذ حوالي عقدين، يطاول قرينه في شرق البلاد العربيّة، ويجاذبه مكانته. وإذا كان مؤرّخو الأدب العربي الحديث «يجمعون» على ان رواية «زينب» لمحمّد حسين هيكل، المنشورة في مستهلّ العقد الثاني من القرن العشرين هي باكورة الرواية العربيّة بالرغم من ان صاحبها لم يضع اسمه عليها، في طبعتها الأولى، ولا هو قدّمها باعتبارها «قصّة» أو «رواية»، وانما هي بعبارته» مناظر وأخلاق ريفيّة» بقلم «مصريّ فلاّح»، فان من التونسيّين، تعصّبا لأهل المغرب، من يرى ان «الهيفاء وسراج الليل» لصالح السويسي القيرواني (1874 ـ 1941) هي باكورة الأدب الروائي الحديث عند العرب. وهي في تقديري حكاية أكثر منها رواية، نشرت في مجلة خير الدين (1903) ثمّ في مجلة «قصص» التونسية (1968)، وأعادت طبعها الدار العربية للكتاب – تونس، ليبيا 1978. ان مدوّنة الأدب الروائي المغاربي اليوم متنوّعة جدّا، وكتّابها في المغرب والجزائر وتونس وليبيا، كُـثْر، ولبعضهم شهرة تكاد تكون عالميّة أو هي كذلك. وبعضهم مثل واسيني الأعرج أو ابراهيم الكوني أو الحبيب السالمي، من الأصوات المرموقة في ما يمكن ان نسمّيه «أدب المهجر الأوروبي». فقد افتتح السالمي مدوّنته الروائيّة بـ «جبل العنز» وأتبعها بأعمال أخرى مثل «متاهة الرمل» و»نساء البساتين» و»روائح ماري كلير» و»حفر دافئة»، وسعى منذ بداياته إلى ان يكون كاتبا استثنائيّا، فلا يقتحم الأبواب المفتوحة، ولا يحمّل المتن الروائي ما لا يحتمل من قضايا ومشاغل مجالها التاريخ والفلسفة والسوسيولوجيا. وأظنّه أدرك منذ «جبل العنز»، ان الرواية، مثلما بيّن غير واحد من كبار منظّريها في الغرب، لا يمكن ان تؤخذ من حيث هي وثيقة أو تاريخ حياة وعصر وجيل، أو حتى تاريخ حالة أو اعتراف، إنما هي شكل فنّي ينضوي إلى القول الشعري بالمعنى الواسع للكلمة، دون ان يسوق ذلك إلى القول ان صلتها بالحياة منقطعة أو تكاد، أو هي مفصولة عن السياسة والإيديولوجيا. والرواية أدب، والأدب يظلّ ـ مهما يكن الموقف منه ـ تخيّرا نوعيّا من الحياة، على قدر ما يظلّ عملا تخييليّا. وهذا ممّا يسوّغ قولهم «واقعيّة العمل التخييلي»، كلّما أذكى الكاتب الإيهام بالواقع، وكان لذلك أثره في القارئ، حتى لَيبدو التخييل أقلّ غرابة من الحقيقة وأكثر تمثيلا، بعبارة رينيه ويليك وأوستين وارين. وانا لا أقصد هنا « أدب الكيتش» أو الأزهار البلاستيكيّة، أو ما سمّاه الكاتب الجزائري الراحل عمّار بلحسن «الجمباز اللغوي»، وقد بدأ ينتشر في سائر انحاء البلاد العربيّة، دون ان يدرك أصحابه ان التمييز لا يقوم في الرواية بين واقع وتخييل، وإنما بين مفاهيم عن الواقع مختلفة، وطرائق من التخييل متنوّعة. فرواية «حفر دافئة» مثلا، تنشئ عالما ولا تعالج قضيّة. والروائي المتمكّن يملك هذا العالم الذي يفيض عن عالم الحياة، أو هو يداخله من أكثر من جهة من جهاته. ومن هذا المنظور يمكن ان نطابق عالم ديكنز مع لندن، وعالم كافكا مع براغ القديمة، وعالم نجيب محفوظ مع القاهرة، وعالم محمّد شكري مع طنجة، وعالم الطاهر وطّار مع الجزائر، وعالم السالمي مع باريس الغربة، حيث «الحفرة» تعبير كنائي عن البيت من حيث هو امتداد لذات الإنسان، أو هو موجود في داخله. بَيْد انه ليس تداخلا بالمطابقة، إذ ليس ثمّة مشابهة أو مماثلة، وانما مجاورة أو إرداف، كلّما عدل الكاتب استعاريّا من «عقدة» إلى جوّ أو إطار عامّ، ومن شخصيّات إلى إقامة في المكان وفي الزمان. من ذلك ان السالمي في روايته هذه يقوّض «الأنا» الثابتة أو «أنا الشخصيّة»، ويحيل شخصيّاته إلى عناوين وأرقام تلفون في مفكّرته الصغيرة المهترئة. ومن هذه المفكّرة تتولّد الرواية في تأصّل وتفرّع، وقد استيقظ الراوي في قلب الليل، وأخذ مستانسا بمفكّرته، يستحضر أسماء الذين أحبّهم في عالم الغربة. وإذا النصّ أشبه بقراءة الراوي في مفكّرته قراءة تغني الشخصيّات والأحداث المسرودة، في سياق من «التنظيم الذاتي» الذي يحول دون انزلاق النصّ إلى الاقتباسات العشوائيّة، كما هو الشأن في بعض الروايات التي تتذرّع بالذاكرة أو باليوميّات، فيعرُوها الخلل من أكثر من جانب. كاتب تونسي منصف الوهايبي عن صحيفة القدس العربي

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم