في محاضرة بديعة ضمن سلسلة تيدكس يتحدث أستاذ الدراسات الإسلامية بجامعة الملك فهد الدكتور مصطفى الحسن عن صناعة العقل. ولأنني سبق أن استمعت للحسن وهو يتحدث عن عدد من الأمور الهامة والمعقدة بطريقة ملفتة، كتأويل النص القرآني، الذي أصبح مؤخراً يقدّم فيه مادة دراسية على منصة رواق عبر الإنترنت، أقبلتُ على المحاضرة بنهم، لأجد مصطفى الحسن كعادته يختار أقصر الطرق وأفضلها لإيصال ما لديه.

بدا ملفتاً لي أن يتحدث الرجل عن القراءة في معرض شرحه لكيفية عمل الدماغ، بل اختار الروايات تحديداً، وهنا ما أعنيه بالأسلوب المبتكر. فمن الطبيعي أن تحتشد أي محاضرة عن كيفية عمل الدماغ بمواضيع غارقة في التعقيد، ولا تذهب باتجاه الترويح. بالطبع هذا تصور ستنسفه الأسطر المقبلة.

يقول مصطفى الحسن في مادته الثرية إن التصور الشائع أننا نقرأ من أجل المعلومة وهذا يجعل العلاقة في اتجاه واحد فقط، من الكتاب إلى العقل، وهذا بسبب تصور آخر يتعلّق بماهية المثقف لدينا وهو الشخص الذي نعتقد أنه يعرف أكبر قدر من المعلومات. وهذا أدّى في نهاية المطاف إلى تصنيف شائع بشكل كبير لدرجة أهمية الكتب تبعاً لمدى تقديمها للمعلومة حصرا. هذا التصنيف يجعل الكتب العلمية في أعلى القائمة وفي أسفلها الصحف والمجلات. كما يجعل الروايات قريبة من ذيل القائمة، كونها تُرّوح عن النفس، ولا تقدّم القدر الكافي من المعلومات.

ويواصل الحسن أنّ هذا التصور طبع سلوكنا القرائي، فأصبح الشخص يسابق الزمن كي يقرأ أكبر قدر من الكتب وبالتالي يحصل على أكبر ما يمكن من المعلومات، كما ازدهرت الدورات التي تُعلّم القراءة السريعة. وظلّت الشكوى الدائمة هي أن الذهن لا يحتفظ بالمعلومة لوقت طويل، والعلماء في هذا يؤكدون أن العقل لا يحتفظ بأكثر من 2% من المعلومات المقروءة.

لكن ما يعرضه مصطفى الحسن في مقابل كل ذلك أنّ جمع المعلومات ليست الغاية الأهم بل بناء التصوّرات، وهذا يجعل العلاقة تبادلية بين العقل والكتاب. فالقراءة تجعل نظرة العقل للأمور أكثر نضجاً بحيث يستطيع التعامل مع المشكلات على اختلافها. وهنا يضيف الحسن بأنّ عصر المعلوماتية الذي نعيشه عبر غزارة المعلومات وسهولة الوصول إليها خدعة كبيرة لأنه ما من زمن عانى من شحّ المعلومة، فقد قامت الحضارات بما توافر لديها من معلومات. هذا يعني أن وفرة الملعلومات لا تؤدي تلقائيا لوفرة التصورات، بل على العكس قد تؤدي تلك الوفرة إلى الغرق فيها.

هذه الفكرة من شأنها أن تُغيّر من طريقتنا في القراءة مثلاً، فعوض الإسراع في القراءة لإنجاز أكبر قدر من الكتب تُصبح القراءة التأملية البطيئة هي الأعلى فائدة لأن العقل فيها يمارس أعلى درجات حضوره. وتبعاً لذلك أيضاً، سيتغيّر تصنيفنا للكتب كثيراً. فالروايات بهذا الشكل ستتقدم في سلّم الترتيب لتلي الكتب العلمية في الأهمية. هذا الكلام لا يقوله روائي ينتصر لمجاله، بل أستاذ للدراسات الإسلامية متنوّر وإنسانيّ الأفق. عن صحيفة الوطن

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم