مهمتي أن أبقي الحقيقة طيّ الكتمان، وسأحدثكم عن شيء من هذا بعد قليل.

أما الآن؛ فيوقظني هذا الشيخُ الطاعن في البياض، المادد كفّيه لوناً واحداً في بهجة الصباح، يجذبني من يدي، يدفع بوجهي نحوَ زجاج النافذة لأرى. "تريد أن تعرف كيف وصلتُ إليك؟ حسناً، كلانا كان بحاجة لهذا. ألست القائل يوماً إن الشغف أشبه بالخريطة! يكشف بخبث مسالك صاحبه ونواياه". يهمسُ لي.

معه حق! ربما قلت شيئاً كهذا من قبل لكني لم أعد أتذكر الآن. لكن بيني وبين نفسي وحتى هذه اللحظة، لم أتبين مراده بعد.

يلسعني هواء بارد فاقتربُ من النافذة أكثر. أتنفسُ بسرعة بينما تُكوّنُ بقايا أنفاسي بخاراً على الزجاج البارد. ماذا يريد مني هذا العارف؟ الواقف خلف النافذة ببهاء؟ يلوّح لي فأسرع الخطى. أرتدي معطفي، وشاحي الأزرق، قفازي الجلدي، أنتعلُ حذائي الثقيل، أضع بعض نياشيني كما اعتدت أن أفعل دوماً، أبحث عن مفتاح الباب، وأنسل هارباً من البيت قبل أن تراني منى. أصفق الباب ورائي، وأمضي نحوه كمن يعبر غبش الحكايا لأول مرة.

"اقتربْ أكثر، مابك؟ لم أعهدك هكذا! لا تخف". يقول لي الشيخ الأبيض وقد صار صوته أكثر ألفةً. "هاكَ ثلجاً عمره ساعات.. سأصنعُ المزيدَ لأجلك إن أحببت".

شيء ما يجذبني نحوه، أشعر بدوار خفيف لكن لا ألقي بالاً لهذا. أحاول أن أصفّي رأسي من الأصوات الكثيرة التي تتردد في جمجمتي، فأمضي مسرعاً حتى أقترب من عباءته الوثيرة. المسافات مثل الشائعات تمتد بخدر في الجهات الأربع، وكل شيء حولي صامت وخاشع، لم أشعر بشيء البتة، قشعريرة عابرة أيقظت شعيرات ساعدي الأيسر، ثم تبدد أثرها إلى غير رجعة. كنتُ مأخوذاً بالبياض، أو ربما بسكينة الخلق في أعمق تجلياتها.

الصمتُ أقرب ما يكون إلى القداسة، والفضاءُ شاسعٌ لا يمكن الظفر بمداه... أما هو فيقف على بعد بضع خطوات من درجات البيت الحجرية.

بيني وبين نفسي، كنتُ مستعداً لأقايض الدفء بالدهشة، فمع تضاؤل مساحة الدفء في جسدي، يزادد بريق الدهشة وفتنتها. نزعت قفازي ومددتُ يدي لمصافحته، لكني لم ألتقط شيئاً، غاصت أصابعي عميقاً في بياض هشّ! لم أجفل، بقيت أنتظر ما سيصدر عنه، فلسعني بمكر، وندفَ فوق رأسي قطناً ثقيلاً، ثم قال لي بصوت خفيض: "خفت ألاّ تأتي.. ألاّ تسيحَ روحك فوق هذا المدى، ما أخافني أكثر أن تكتفي كما بت تفعل مؤخراً، بمراقبتي بحذر من وراء حطب مشتعل".

افترت شفتاي عن ابتسامة دافئة، ورحتُ كطفل صغير، أُكوّرُ ثلجاً تحت قدميه. قلت له: "جئتك مخلفاً ورائي شمساً لا تصدق، ورملاً يغلي في العروق، لم أندم يوماً على مشاكستك، كيف لرجل شتائي أن يجفل من هيبتك! أنت تعلم أنني أترصد حضورك، منذ رأيتك تجلس تلك الليلة وحيداً على طرف سريري، أنا يا سيدي أتحرق لتلك اللحظة التي أعبر فيها اللون الأصفر، لأستقر عندك في عمق البياض.. لكن ما يمنعني عنك أحياناً أشياء لا طاقة لي بها. أنت ولا شك تعرف مقاصد الكلمات ومراميها".

تبسّمَ وقال وهو يغرس عصاه الخشبية في بلورات الثلج: "عليك أن تعلم أنني شيء، وهذا البياض الممتد حولك شيء آخر. كفاك خلطاً للأمور، كم مرة قلت لك هذا! ثم تذكرّ أن عليك البحث عن الحقيقة، فهي وحدها من ستقوم بتحريرك. لكن انتبه، من قال لك إنه يملك الحقيقة، فقد أضاف لسجل كذبه،كذبة جديدة. لنمش قليلاً ما رأيك؟". قال لي وخطا أمامي قبل أن يسمع مني الجواب.

سرنا صامتين. الهواء البارد يلفح وجهي، وصوت الثلج المهروس تحت أقدامنا يضفي على خطواتنا إيقاعاً جميلاً. أصابتني كرة ثلج صغيرة قذفها نحوي صبية يلهون بمرح، أما الشيخ الأبيض فلم ينله شيء! نظر نحو الصبية المنشغلين بلعبهم وتمتم بكلمات لم أفهم كثيراً منها.

مقل هو في الحديث، لكن حين يتدفق، يصعب على بسيط مثلي مجاراته.

حاولت نهر الصبية بنزق، فتطلع إلي بحدة وأسكتني بنظرة واحدة. كثيراً ما أشعر بأن جريان الوقت معه ممتع وساحر، وأستطيع القول أنني أجدت بقربه حسن الإصغاء، وتقليب الماضي على مهل، علني أهتدي لطريقة تعينني على إصلاح خطاياي.

كنت بشوق كبير له، أحملُ له الكثير من القصص التي تتزاحم في داخلي، في الوقت الذي أخبئ فيه حفنة من الأسرار التي لا تلبث أن تسقط من قبضتي لحظة أن أصير بحضرته. كنتُ أنصت له برهبة، وأدهشُ وأنا أرى أصابع يديه الطويلة، تخطُ البياضَ والحكمة فوق رؤوس الأشجار. قال لي: "لا تلتفت لهم. صغار لم تقرصهم الحياة كما يجب، أمامهم الكثير ليتعلموه.. أما نحن فلا أحد يتقن فن التحايل على عقله مثلنا، أتعلم الفرق بيننا وبين من يتحايلون بخبث على عقولهم؟".

عاجلني سائلاً، وحين أخذت وقتاً طويلاً في الإجابة، عاود الحديث قائلاً: "نحن حتى بعد أن نتذكر أين أخفينا عقولنا، نظل نملك الشجاعة لنقول ألاّ حاجة لنا بها". سرّتني عبارته الأخيرة على وجه الخصوص.

سرنا طويلاً ثم غافلني قائلاً: "ما بك جنرال؟ اعتقدت أنك ستقابلني ووجهك يتهلل فرحاً، ما الذي حدث؟". أجبته وأنا أبطئ المسير: "أشعر بضيق شديد، متعب أنا ومرتبك يا سيدي، لم أعد أعرف نفسي. من أنا وماذا أريد وماذا أفعل هنا! من أين يأتي كل هؤلاء الذين اعتقدت أنني صرت بمنأى عنهم؟ ولماذا يختفي من كانوا بقربي بهذا الشكل الغريب! عقلي مشتت ومكتظ بالتفاصيل، والقلق هو الشعور الأكثر حضوراً ونهشاً لي. شيء لا أعلم ما هو يكاد يخنقني.. عطِشٌ أنا يا سيدي. عطِش وكل هذا الثلج حولي لا يبدو قادراً على إروائي".

مسّدَ لحيته الطويلة بوقار، وأخذَ نفساً عميقاً، فابتلعَ ما تبقى من زرقة السماء.

سألني إن كنت قد أطلعت أحداً على أمر صداقتنا، فقلت له بارتباك أفشيت أمرها لمنى. بان الضيق على وجهه وقال لي هذا مناف لما اتفقنا عليه. كان قد طلب مني أكثر من مرة أن أبقي أمر علاقتي به طي الكتمان، ليس هنالك ما يدعوني لأن أطلع أحداً على ما يجري بيننا، فكما قال لي ذات مرة، لست بحاجة لذريعة جديدة أقدمها للاخرين ليسخروا مني، قلت له أعذرني، أنا كما تعلم أحاول قدر استطاعتي التقليل من أخطائي، وعدتك بهذا أكثر من مرة". هدأ قليلاً، أشرق وجهه فاقترب وسألني هامساً: "يزعجك كثيراً ما يقال عنك أليس كذلك، يبدو الأمر واضحاً مهما حاولت إخفاءه". أجبته: "لا أدري، لم يعد الأمر يهمني كثيراً".

حسناً سأتدبرُ أمرك، قال لي، ثم لفّ عباءةً من الإسفنج حولنا، فانشقَ البياض عن ضوء فاتن، وبانت ثلاث غيمات بيضاء كثيفة، مدّ يده برفق، وتناولَ الغيمات وطافَ بهن بعيداً، وحين عاد، كانت تستقرُ براحة كفه بلوريةً صافية، ومغمورةً بالبياض. وضع الغيمات في فمي، وخاطَ بالثلج شقاً كان في الصدر، وقبلَ أن يلملمَ فتنتهُ ويرحل، قبّلته وتركت على خده دهشة لا تفتر.

تركني مشوشاً ومضى، ربما أضاء في داخلي قنديلاً لم يبلل الزيت فتيلته منذ زمن بعيد.

قال لي وهو يتبخر كبقايا ضباب من أمامي: "لا أعلم ما الذي جرى لك، لكن إن كنتَ قد أصبت بهذه الحالة الغريبة، فمعنى هذا أن ثمة سبب منطقي لذلك، وإلاّ لما حصل. الشيء الوحيد الذي يزعجني في كل ما جرى، هو خوفي من أن تصبح في يوم ما خطراً على من هم بقربك، على من تحبهم.. هذا أكثر ما يقلق في الأمر".

لم أفهم عبارته تلك. أعدتها على نفسي مرات ومرات، ثم التفت حولي فوجدتني وحيداً، البرودة تتسلل لداخلي وتفتك بما تبقى من دفء في جسدي، التجأت لمقعد خشبي وجلست عليه. دققت النظر حولي فلم أره، رحت أفكر بكل ما جرى معي، ماذا يكمن وراء كل هذه التفاصيل التي تعيد ترتيب نفسها كل يوم بشكل مغاير! تولدت لدي رغبة بمساءلة تلك الحالات التي صرت أسيراً لها، جرفني التفكير ونسيت نفسي. نسيت كل شيء حولي.

دبيب كلماته ما يزال يسري في عروقي.

فيما بعد، أخبرتني منى، أنها وجدتني، بعد أن يئست من عودتي للبيت، جالساً على مقعد أنهكته البرودة، في فالي ريدج بارك، وقد أزرقّ وجهي وكساني الثلج تماماً. قالت لي إنني بقيت أهذي وأرتجف، وأتحدث مع شخص لم يكن له وجود، حتى أعادتني إلى البيت، وبدلت لي ملابسي المبللة، ووضعتني كطفل صغير في الفراش.


ــــــــــــــــــــــــــــ

  • الرواية صادرة عن دار فضاءات في عمان - الأردن 2018م.
  • روائيّ اردنيّ.

الرواية نت - خاصّ.

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم