تأتي آنا ماريا ماتوتي في طليعة كتاب إسبانيا الذين أثروا الحياة الأدبية الإسبانية طوال أكثر من نصف قرن، فهي تنتمي إلى الجيل الذي أطلق عليه النقاد «أطفال الحرب» وهم كتاب جيل الخمسينيات الذين عاشوا طفولتهم في ظل أجواء الحرب الأهلية الإسبانية (1936 - 1939) وما خلفته من فرقة بين أبناء الشعب الواحد، ودمار لإسبانيا وإزهاق أرواح الآلاف، وهو نفس الجيل الذي عانى بعد ذلك في شبابه سيطرة الرقابة التي فرضها نظام فرانكو على كل مظاهر الحياة الثقافية في إسبانيا.

صدرت لها مختارات قصصية في القاهرة، ترجمتها إلى العربية نجوى عنتر، وهي تمثل خلاصة تجربة العالم السردي لماتوتي، هذا العالم الذي اشتغل على الطفولة وما يعكسه عالمها من تناقضات كثيرة، لما يحمله هذا الإنسان الصغير من مشاعر حنان وقسوة وشفقة ولا مبالاة وعطف، الطفل بوصفه شخصية محورية هو بطل العديد من مجموعات ماتوتي القصصية.

رغم أن ماتوتي تنتمي إلى الطبقة البرجوازية إلا أن التزامها نحو قضايا مجتمعها جعلها تهتم بالأطفال الذين بلا مأوى، وأطفال الطبقات الاجتماعية المهمشة، وتتسم هذه القصص بالعمق الكبير، وتعكس قدراً كبيراً من المعرفة الوافية لنفسية الطفل، ويمكن أن تثير في نفسية المتلقي مشاعر طيبة أو مزعجة تدفعه إلى التأمل، وفي هذه المختارات سوف يقطع القارئ والقارئة رحلة غنية بالتجارب والمشاعر الإنسانية، ويجوب عوالم شديدة الثراء والتنوع والتعقيد.

ولدت ماتوتي في 26 يوليو 1925 بمدينة برشلونة، لإحدى العائلات البرجوازية لأب من كتالونيا، يملك مصنعاً للمظلات، وأم من كاستيا، وهما المدينتان اللتان تدور فيهما معظم أحداث عالم ماتوتي، وكانت طبيعة عمل والدها تضطره إلى الانتقال ما بين بلدان العالم، فكان يعود وفي جعبته الكثير من الحكايات والتجارب، ليكشف لها عن عالم من المعجزات، إما شديد الواقعية، أو بعيد كل البعد عن الحقيقة.

مرارة الحرب

لكن هذا العالم الحالم لم يدم طويلاً، فقد اشتعلت نيران الحرب الأهلية، وهي لا تزال في ربيعها العاشر، وكانت تجهل معنى الجوع والتجرد من كل شيء، قبل أن تذوق مرارة الحرب، وصورت أعمالها عن تلك الفترة ذاك العنف الوحشي بدقة وبراعة، لذا عرفت لدى البعض بأنها أفضل روائية لفترة ما بعد الحرب الأهلية الإسبانية، وأتمت تعليمها وسط أطفال لا يخضعون لسيطرة أحد، تملؤهم الكآبة والصمت، أطفال بلا طفولة، يعيشون معاناة جعلتهم يكبرون قبل الأوان، وأصبحوا فيما بعد أبطالاً لحكايات حفرت في وجدان الأدب.

بدأت ماتوتي تنشر أعمالها عام 1943 بكتابة «مسرح صغير» ثم قامت بعدها بكتابة «آل هابيل» المستوحاة عن قصة آدم وحواء وهي رواية تعكس روح الصراع الدامي للحرب الأهلية في إسبانيا برؤية ما عاصرته طفلة في مثل عمرها آنذاك، ووضعتها تلك الرواية في المشهد الإسباني بقوة، حتى إنها نالت عنها جائزة مهمة.

الأبناء الموتى

أما أطول روايات ماتوتي فهي «الأبناء الموتى» وفيها تصور إسبانيا منقسمة إلى جبهتين تتقاتلان في صراع مخيف فيما بينهما، وشهدت فترتا الخمسينيات والستينيات غزارة إنتاجها الأدبي، وحكاياتها أشبه بسلسلة لا بداية ولا نهاية لها، يشعر قارئها في أحايين كثيرة بأنه يسمعها تحدثه، بذلك الصوت اللامبالي، فهي تؤلمنا مئات المرات، وتقلقنا وتثقلنا هما.

يقول خوليو كورتاثر إنها تتخطى الأحداث من كونها مجرد قصة لتحولها إلى صورة استعارية لأحوال الإنسان وما يعايشه من ظروف، خلقت هذه السمة الرمزية عالماً مملوءاً بالمتناقضات والازدواجية، انعكست على أعمالها الأدبية، فنجد بعض أعمالها تبدأ بعالم غنائي رقيق للغاية، لتنتهي باصطدامنا بأكثر جوانب الواقع قسوة، كما لو أنها ترمي إلى أن ينتفض قارئها فزعاً، وهي تسأله إن كان قد خيل له أن الحياة ستظل بمثل ما يتراءى له من جمال.

ونظراً لما تتمتع به ماتوتي من مكانة لا تقتصر فقط على إسبانيا، ففي غضون فترة قليلة ترجمت أعمالها لأكثر من عشرين لغة، وفي عام 1996 اختيرت عضواً في الأكاديمية الإسبانية الملكية، لتكون بذلك ثالث سيدة تنضم إلى الأكاديمية في فترة 300 عام، وقد خصصت جامعة بوستن ركنا خاصا بأعمالها يسمى «مجموعة آنا ماريا ماتوتي» وتوفيت في 25 يونيو عام 2014 بمدينة برشلونة مسقط رأسها عن عمر يناهز 88 عاماً وفي سبتمبر من العام نفسه نشرت روايتها الأخيرة «شياطين العائلة» بعد رحيلها.

عن صحيفة الخليج 

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم