باريس- وصف الروائي الجزائري كمال داود، الحائز على جائزة غونكور الأدبية لعام 2024، قصة المدّعية الجزائرية سعادة عربان بأنها "قصة عامة"، وسط جدل متصاعد حول روايته الأخيرة "حوريات". تأتي هذه التصريحات في أعقاب دعويين قضائيتين رفعتا ضد الكاتب، إحداهما من عربان والأخرى من جمعيات لضحايا الإرهاب.

قضية "حوريات": سرد أم استغلال؟

اتهمت سعادة عربان، التي نجت من محاولة اغتيال مروّعة على يد جهاديين خلال الحرب الأهلية الجزائرية في التسعينات، الكاتب وزوجته الطبيبة النفسية باستغلال تفاصيل من حياتها الشخصية لكتابة رواية "حوريات" دون موافقتها. أشارت عربان، في مقابلة عبر محطة "وان تي في" الجزائرية، إلى أن بطلة الرواية تعكس بدقة تجربتها المأساوية في عام 1999، وذكرت أن كمال داود كان على علم بهذه التفاصيل من خلال زوجته التي تولت علاجها.

وأوضحت عربان: "الجميع يعلم أنني لا أرغب في الحديث عن هذه القصة، لأنها تسببت باضطراب كبير في حياتي".

رد داود: نفي وتشكيك في الدوافع

في مقابلة مع محطة "فرانس إنتر", نفى كمال داود هذه الاتهامات بشدة، مؤكداً أن روايته لا تذكر اسم عربان ولا تروي حياتها الشخصية. واعتبر أن القصة التي تثير الجدل "معروفة في الجزائر، وخاصة في وهران"، واصفاً إياها بأنها "عامة" ومتاحة للجميع.

وأضاف داود: "أنا آسف، ولكن لا يمكنني أن أفعل شيئاً لمجرد أنها وجدت نفسها في رواية لا تتناول تفاصيل حياتها، ولا تحتوي على أي أسرار طبية".

وأشار الكاتب إلى أن والدة عربان بالتبني، وزيرة الصحة الجزائرية السابقة، قد تحدثت علناً عن هذه القصة في العديد من المناسبات، مما يعزز، بحسب رأيه، الطابع العام للتجربة التي يسردها.

تشكيك في الخلفيات السياسية

ألمح داود إلى وجود دوافع سياسية خلف القضية، قائلاً: "كنت أعلم أن هذا الأمر سيحصل. كنت أدرك أنني لا أستطيع تجنّبه". وأشار إلى أن الصحف الحكومية الجزائرية بدأت منذ الأسبوع الأول لنشر الرواية في أغسطس الماضي في الترويج لفكرة وجود "مؤامرة".

وأكد داود: "عندما تُمنع روايتي في الجزائر، وتُرفَع دعوى قضائية ضدي، يبدو أن السيناريو يتكرر بالطريقة نفسها".

الجدل حول "حوريات" والسياق الجزائري

تعكس قضية "حوريات" واقعاً معقداً في الجزائر، حيث يمثل الحديث عن "العشرية السوداء" تحدياً حساساً في مجتمع ما زال يتعامل مع آثار تلك الحقبة الدامية. خلال السنوات التي امتدت بين 1992 و2002، عاش الجزائريون حرباً أهلية شرسة راح ضحيتها ما يقرب من 200 ألف شخص، وتركزت فصولها الأكثر عنفاً في المناطق الريفية، حيث كانت سعادة عربان من بين الناجين.

القانون الجزائري الحالي، الذي يحظر نشر أي عمل أدبي أو فني يتناول تلك الفترة، يعكس محاولة رسمية لتحجيم السرد العام عن تلك الحرب. غير أن الحظر لا يوقف الإبداع الأدبي الذي يتحدى تلك القيود، كما يتضح من رواية كمال داود. بينما يراه البعض محاولة جريئة لتوثيق الماضي، يعتبره آخرون استفزازاً واستغلالاً لمعاناة الآخرين.

هذه الخلفية تجعل من قضية سعادة عربان أكثر تعقيداً. إذ تتجاوز القضية صراعاً شخصياً بين المؤلفة والمدّعية، إلى صراع أكبر يتعلق بحرية التعبير والحق في سرد القصص الفردية ضمن إطار أدبي.

أسئلة مشروعة وإجابات غائبة

يثير وصف كمال داود لقصة سعادة عربان بأنها "عامة" تساؤلات عميقة حول الحدود الأخلاقية للإبداع الأدبي. متى تصبح قصة حياة فردية متاحة للإبداع؟ وهل يمكن اعتبار الألم والمعاناة التي عاشها شخص ما ملكاً مشاعاً لمجرد تداولها علناً؟

تشكيك داود في خصوصية القصة يفتح الباب لنقاش أكبر حول الخطوط الفاصلة بين الأدب والواقع. فمن جهة، يحق للكاتب استلهام أفكار من الواقع وتوظيفها ضمن عمل إبداعي. ومن جهة أخرى، يحق للأفراد الذين عاشوا هذه التجارب المطالبة بحماية خصوصيتهم، خاصة إذا كانت تلك التجارب تتعلق بصدمات شخصية ومعاناة عميقة.

هذا التوتر بين الإبداع وحقوق الأفراد يثير أسئلة حول آليات الحماية القانونية للقصص الشخصية، وحول ضرورة موافقة الأطراف المعنية قبل تضمين تفاصيل حياتهم في أعمال أدبية. في الوقت ذاته، يظل السؤال الأكبر: هل يساهم الأدب في تسليط الضوء على معاناة الأفراد، أم يستغلها لتحقيق أهداف إبداعية وتجارية؟

الأدب الجزائري بين قيود الداخل وآفاق الخارج

قضية "حوريات" ليست مجرد صراع قانوني أو أخلاقي؛ إنها رمز لتحديات أوسع تواجه الأدب الجزائري في الوقت الراهن. في الداخل، يقف الكتاب أمام قوانين صارمة تحد من تناول مواضيع سياسية واجتماعية شائكة. وفي الخارج، يواجهون الحاجة إلى تفسير تلك القضايا لجمهور عالمي ربما لا يعي تماماً تعقيدات السياق الجزائري.

كمال داود، الذي بات يمثل أحد أبرز أصوات الأدب الجزائري على الساحة الدولية، يعكس هذه التحديات في أعماله. رواياته تتناول موضوعات حساسة مثل الهوية، العنف، والدين، مما يجعله شخصية مثيرة للجدل بين جمهوره المحلي والدولي. غير أن قضية "حوريات" تطرح تساؤلاً حول الثمن الذي قد يدفعه الكاتب عندما تتقاطع أعماله مع قضايا شخصية وسياسية معقدة.

رغم الحظر المفروض على الرواية في الجزائر، يظل السؤال قائماً حول قدرتها على اختراق هذا الحصار عبر القنوات الدولية، وما إذا كان هذا سيعزز مكانة الأدب الجزائري على الساحة العالمية، أم سيضيف إلى التوترات بين الكتاب الجزائريين والسلطات المحلية.

هذه القضية، بجميع أبعادها، تعكس كيف يمكن للأدب أن يكون في قلب معارك أوسع، ليس فقط بين الكاتب والقارئ، ولكن أيضاً بين الفرد والنظام، والخصوصية والإبداع، والمحلي والدولي.

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم