لندن - في سابقة تُعدّ الأولى من نوعها على هذا النطاق، أعلنت هيئة الإذاعة البريطانية (BBC) بالتعاون مع ورثة الكاتبة البريطانية الراحلة أغاثا كريستي عن إطلاق دورة إلكترونية تعليمية مبتكرة بعنوان «كتابة أغاثا كريستي»، تهدف إلى إحياء إرث الكاتبة الأشهر في أدب الجريمة من خلال تقنيات الذكاء الاصطناعي والمؤثرات البصرية والوثائق الأرشيفية النادرة.

تتيح هذه الدورة الجديدة، التي تم تطويرها بإشراف مجموعة من الخبراء المتخصصين في أعمال كريستي، للكتّاب الطموحين والمهتمين بفن السرد البوليسي فرصة فريدة لاستكشاف «الورشة الخفية» لواحدة من أكثر الكاتبات مبيعاً وتأثيراً في التاريخ الأدبي الحديث. إذ لا تكتفي الدورة بعرض تقنيات الكتابة المجردة، بل تسعى إلى إعادة خلق التجربة الإبداعية لكريستي نفسها، بدءاً من لحظة الفكرة الأولى وحتى صياغة النهايات المدهشة التي طالما أسرت قلوب القرّاء حول العالم.

بحسب ما أفادت وكالة الأنباء البريطانية (PA Media)، جرى العمل على الدورة باستحضار صوت كريستي من تسجيلات أرشيفية أصلية، واستخدام تقنيات معالجة صوتية ومرئية متقدمة، تم من خلالها توليف نبرة صوتها وحركاتها اعتماداً على الممثلة البريطانية فيفيان كين، التي جسّدت حضورها باستخدام أساليب الأداء الرقمي الممزوج بالذكاء الاصطناعي.

وقد أُعيد بناء حوارات الدورة وأسلوب عرضها استناداً إلى نصوص أصلية وأفكار مستخلصة من خطابات ومقابلات نادرة أجرتها كريستي في حياتها. أما المشاهد التفاعلية، فصُمّمت بأسلوب يمكّن المشاركين من الشعور وكأنهم يجلسون في قاعة تدريس تشرف عليها الكاتبة بنفسها، مستعرضة تقنياتها السردية، ومناهجها في التشويق، وأسلوبها في إدارة تفاصيل الحبكة وتطوير الشخصيات.

ما الذي تتضمنه الدورة؟

يحتوي البرنامج على مجموعة من المحاور الموزعة على وحدات تعليمية، تتناول كل منها جانباً من جوانب الكتابة السردية. من بين المواضيع المطروحة:

  • كيفية توليد فكرة جريمة مقنعة دون الوقوع في النمطية
  • بناء الشخصيات ذات الطابع المزدوج (الضحية/القاتل)
  • إدارة المفاجأة وتغيير مسار الحبكة
  • توظيف المكان كعنصر درامي (كما في قصر مغلق أو قطار معزول)
  • معالجة الحوار بأسلوب خفي يُخفي أكثر مما يقول

كما توفر الدورة أدوات تحليل تفاعلية، تتيح للمشاركين إدخال نصوصهم واختبار مدى مطابقتها لأسلوب كريستي من حيث الإيقاع والوضوح والتشويق. وتعمل أنظمة الذكاء الاصطناعي على تقديم ملاحظات فورية، تقترح تعديلات، وتتيح مراجعة العناصر السردية بما يشبه «مراجعة فنية رقمية» بأسلوب المؤلفة نفسها.

تكمن أهمية هذه المبادرة ليس فقط في بعدها التعليمي، بل في كونها تشكل جسراً بين زمنين: زمن الكتابة بالقلم والحبر في أوائل القرن العشرين، وزمن تقنيات الذكاء الاصطناعي في القرن الحادي والعشرين. إذ تُعيد هذه التجربة تقديم أغاثا كريستي بوصفها كاتبة ما تزال تلهم، لا عبر طبعات جديدة فقط، بل بصوتها وتعاليمها الحية التي تُستحضر اليوم بدقة ووفاء.

ومن الجدير بالذكر أن إرث أغاثا كريستي لا يزال حتى اليوم مصدر جذب للقراء الجدد والنقاد على حدّ سواء. فقد باعت مؤلفاتها أكثر من ملياري نسخة حول العالم، وتُرجمت إلى أكثر من مئة لغة، وتحوّلت العديد من أعمالها إلى أفلام ومسرحيات ومسلسلات، أبرزها رواية "ثم لم يبق أحد"، التي تُعدّ من أكثر الكتب مبيعاً في التاريخ بعد الإنجيل وأعمال شكسبير.

ترى مؤسسات أدبية عديدة أن هذه الدورة تمثل تحولاً جوهرياً في طريقة تعليم الكتابة، إذ تفتح المجال لتجارب مشابهة مع مؤلفين آخرين، حيث يمكن استعادة أصواتهم ورؤاهم وتقديمها للأجيال الجديدة. وفي هذا السياق، علّق أحد المشرفين على الدورة بالقول:

"ليست المسألة مجرد دورة في تقنيات الكتابة، بل محاولة لصياغة تواصل عابر للزمن، حيث يُمكن للكاتبة التي رحلت منذ عقود أن تستمر في إلهام الكتّاب، وتدريبهم، بل والحديث إليهم مباشرةً."

بهذا المشروع الطموح، تتحول أغاثا كريستي من كاتبة عظيمة في الذاكرة الأدبية إلى «مدرّبة سرد» حقيقية في الفضاء الرقمي، تُحاضر في فنها، وتكشف أسرارها، وتمنح دفعة جديدة لمفهوم تعليم الكتابة، عبر التقنية التي لا تلغي الإبداع بل توسّع أدواته وتمنحه حياة أخرى.


0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم