عفيف قاووق – لبنان 

إن كان الموت أمراً حتمياً، فلا مفر سوى أن تموت بشرف وأن تُقاتل لتحمي هذا الوطن الذي لن يُحرر فقط بالدُعاء أو البُكاء فلسّنا في زمن المعجزات، فقط من يعمل ويسعى ويُجاهد لأجل الوطن، هو وحده من عليه انتظار النصر والفرج."
مضمون هذه الفقرة يُمثل القضية الأساس التي عالجتها رواية "عطر البارود" لمؤلفها الأريتري هاشم محمود. رواية تُلخص بشكل ما فترة مقاومة الإحتلال الإثيوبي لأريتريا، ويبدو أن المؤلف عاين عن قرب تلك الفترة فجاءت روايته تنقل الواقع آنذاك كما هو وبأسلوب سردي سهل ممتنع بعيداً عن التعقيدات والطلاسم اللغوية. شرح لنا وبإسهاب تلك المعاناة التي تعرض لها الشعب من تهجير وتشرد في مخيمات اللجوء لكن هذه المعاناة لم تستطع إخماد شعلة المقاومة التي تختلج في الصدور، والتفكير والعمل الجاد من قبل شباب أريتريا لتحرير وإستعادة الوطن.
اللافت في رواية عطر البارود هذه البطولة الجماعية لشخوص الرواية، بمعنى لا توجد شخصية محورية او بطل رواية كما نعهده في روايات أخرى، إذا ما إستثنينا ان الوطن هو البطل الحقيقي الذي دفع بخمسة من الشبان ليتعاهدوا على الإنضواء في فصائل المقاومة وهذا إن دلّ على شيء فإنما يدُل على ديمقراطية المؤلف بحيث لم ينحاز إلى شخصية بعينها ويُظهّرها على حساب الشخصيات الأخرى، ويدُل أيضا على أن فعل المقاومة والتحرير هو عمل جماعي يذوب فيه الفرد في الجماعة.
رواية عطر البارود نجحت إلى حد بعيد في توثيق حالة المقاومة والروح الوطنية التي إجتاحت الشباب الأريتري الذين آمنوا أن بسواعدهم فقط يمكن التخلص من براثن المُحتّل يحذوهم الأمل بغدٍ أفضل هذا الأمل الذي عبّر عنه المؤلف من خلال حُسن إختياره لعنوان روايته "عطر البارود" ليقول لنا أنه بالإمكان أن يكون للبارود عطراً إذا أحسنا استعماله فلا بد أن ينتج هذا البارود تحرراً واستقلالاً وهل هناك عطر أكثر فخراً وزهواَ من عبق الانتصار والإستقلال.

في رواية عطر البارود لم تغب المرأة الإريترية عن ساحة النضال، فكان لها الدور المساند والداعم لرجال الثورة، نجد مثلا أم إبراهيم تبارك إلتحاق ابنها ورفاقه بالثورة قائلة خيرا تفعلون، أما زوجة إبراهام فلم تتأخر لحظة في تقديم دمائها للمصابين، وفقدت الكثير من الدماء من أجل إنقاذ الجرحى والمصابين، ولن ننسى عافيت أخت إبراهيم تلك الفتاة التى أصرت على إتمام دراستها في بريطانيا لتعود متسلحة بالعلم والمعرفة لخدمة بلدها وشعبها. وفي هذا يقدم الكاتب نموذجا من تغني الشعراء بالفتاة الإريترية:

" يافتاتي في غد سوف نجتاح السدود

فالشباب إذا أصر فليس توقفه القيود

يافتاتي عن قريب قد تعشقت الجموع

سوف نمضي واثقين نحو مجتمع سعيد

فانشري الوعي قويا بين هاتيك الربوع

وابعثي الفرحة فيها وادفعي عنها الخنوع".

وبأسلوب رشيق وانسيابية ملحوظة لم يفت الكاتب الإشارة ولو بشكل موجز إلى جغرافية ارتيريا مقدما للقارئ الذي بلا شك يجهل الكثير عن هذا البلد معلومات وتفاصيل تجعله حاضراً ومتنقلا بين مدن وقرى أرتيريا، من أسمرا إلى مصوع وكسلا وغيرهم من المواقع.

وفي إشارة منه الى الترابط بين البلدان العربية وتشاركها في الثروات الطبيعية يذكر لنا الكاتب نهر القاش العظيم الذي ينبع من منطقة أمباطقرا فى ضواحى عرزا ليستكين فى مدينة تسنى حيث يستفاد من مياهه في ريّ المشاريع الزراعية الموجودة في هذه المناطق، خصوصا مشروع (على قدر) المشهور بإنتاج القطن، ليواصل الجريان داخل الأراضي السودانية وهناك يسقى مشروع دلتا القاش الزراعي، وهو أحد المشاريع الزراعية الكبيرة في شرق السودان ويهتم أيضا بزراعة القطن، وكأن الكاتب يريد القول اذا كانت السياسة تُفرق فإن الجغرافيا لا بد وان تجمع.

أخيرا نلاحظ ان المؤلف إبتعد عن السوداوية في روايته بالرغم من المآسي والمعاناة التي تطرقت إليها الرواية، لذا نراه أوجد حالات حب وتعاضد إجتماعي نشأت في مخيمات اللجوء، ولكون الغاية هي التحرر والإستقلال أصرَّ المؤلف ان تحمل روايته الكثير من الإيجابية والدعوة إلى التمسك بثقافة الحياة الكريمة، لذا لم يشأ أن ينهي روايته نهاية مؤلمة بل جاءت نهايتها سعيدة أعادت لم شمل الشبان المقاوم ليبدأ كل منهم حياته المستقبلية الهانئة في ظل وطن حر ومستقل .
رواية عطر البارود حتما ستجد مكانها ومكانتها في مكتبتنا العربية، فشكرا للأديب هاشم محمود على ما أجاد به فكره وقلمه.

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم