صدرت حديثاً رواية "أوان الرحيل" للكاتب والروائي المغربي محمد بروحو.

عن الرواية:

حين قَرُبَ أجل الملك ماتان؛ حاكم مدينة صور، أوصى باقتسام الحكم بين أليسار، وبجمليون. شقيقان ترعرعا وعاشا معا في قصر أبويهما. غير أن رهطًا من أتباع وأشياع الأمير بجمليون، استنكروا اقتسام الحكم بين الشقيقين، وعارضوا بشدة فكرة مشاركة الأميرة أليسار شقيقها بجمليون الحكم، باعتقاد أنها امرأة لا تستحق هذا التكليف. فعمدوا إلى زعزعة الثقة بين الشقيق، وشقيقته، والحيلولة بينها وبين كرسي الحكم بشتى الوسائل. فحرضوا شقيقها على الفتك بها، والاستفراد بالحكم. وبما أن شقيقها بجمليون كان شخصًا غريب الأطوار، كره النساء، ولم يتزوج. وعاش وحيدًا، هائما في حب تمثال نحته بيده، وأما شقيقته أليسار، فقد تزوجت من الكاهن الأعظم. وقد حاز من الكنوز ما تنوء به البغال، إلى جانب كنوز المعبد التي كانت تحت تصرفه، ما فتح شهية بجمليون للاستيلاء على هذه الثروة العظيمة. فقتل زوج شقيقته أليسار، ثم حاول قتلها هي الأخرى. وما أن تفطنت أليسار لخطة شقيقها بجمليون، وغدره بها، حتى فكرت في الهروب إلى أقصى ربع يسعها رفقة شعب وأتباع، بايعوها وأخلصوا لها. وبالحيلة والدَهاء، أقنعت شقيقها، وأنقذت حياتها. وعلى ظهر سفينة عظيمة، ركبت البحر، غادرت إلى أن رست بسواحل بسيطة في أقصى شمال إفريقيا. يحكمها حاكم بربري، منحها أرضًا، أقامت فوقها مدينة سمتها (قد أشتار). لكنه حاول امتلاكها. عرض عليها الزواج، وبما أنها كانت قد قطعت على نفسها عهدا، أن لا تمنح نفسها لغير زوجها، وأن لا تتزوج رجلا آخر بعده، امتنعت عن تحقيق رغبة الحاكم، الذي أصر على أن تُصبح أليسار ملكا له وبأي ثمن. ضايقها بالزيادات في الضرائب، والإتاوات، وامتثلت لأوامره، وظل يشدد خناقه حولها كي تخنع وترضى، إلى أن أجهدها تعنت الحاكم، فلم تجد وسيلة أجدى من الانتحار، فقتلت نفسها.


من رواية أوان الرحيل:

مع غروب شمس أصيل رطيب، وصل الطبيب على عربة بأربع عجلات يجرها حصانان؛ أحدهما أدهم والآخر برنزي. لجم الحوذي الحصانين فتوقفت العربة، فرجَّا رأسيهما نافضين عنهما تعب السفر. وترجل الطبيب حاملًا بين يديه حقيبة تطبيب وسعت لوازم فحص وجس، وبلا تردد داس عشبًا مخضلًا وفيرًا، نما في أحضان حديقة القصر الفسيحة وأرجائها الظليلة، ومتكئًا على عكاز وبخطى سريعة مشى يجر قدمًا متورمة غُمرت في بوت مدفون من جلد البقر الصقيل، زقزق حين دس الحصى، أو حين لامس حشائش أطلت من تحت الغبراء، أو وهو صاعدًا أدراج باحة القصر متوجهًا إلى غرفة فسيحة حيث رقد الحاكم ماتان ملك صور على فراش واسع رحيب، يصارع مرضًا خبيثًا، سترت جوانبه ستائر منسوجة من جلود البعير. تمدد حين أعاقه التنفس على الجلوس والاسترخاء، مراقبا ما يدور حوله بتوجس ووجل. وحين ولج الطبيب الغرفة اقترب من الحاكم، وألقى عليه التحية دون أن يدري أسمعه العليل أم تغافل، وآنذاك جلس إلى جواره وفتح حقيبة التطبيب، ثم أخرج أدوات الفحص وباشر إسعافه بهدوء وروية.

ومن إحدى شرف القصر البديعة، راقبت ابنة الحاكم أليسار الجياد العاديات، وهي عائدة إلى الحظائر في صفوف متراصة متناسقة، عَدَتْ على الربوات المحاذية للقصر، ومن أنوفها المنفرجة زفرت بخارًا حارًا، كأنها في غارة، يعوزها أسراج تزينها، وفرسان يركبون أظهرها ويحملون سيوفًا ونبالا، تحمسهم طبول دُقت ومزامير عُزفت، استعدادا للحظة الرحيل.

والطبيب يجس نبض العليل، على الهضاب المتموجة خطت محاريث تنابذ وتنازع حفر شناءة وشقاق، وغدر وغلول. وخافقة الجناح فوق رؤوس الأعداء كنوارس مهاجرة، حلقت غيوم ثأر وانتقام، مثقلة بذَحَل وقصاص. وعلى جدار زمن وطن في ذاكرة شقيقة غريمة، رشق بجمليون أمير صور شقيق الأميرة أليسار أيقونة، بعدما بدد حلمه نشوة وسعادة روت ينابيع أسرار مجدها. لن يُثنيه بأس عن إنجاز قصد، وهو الشيطان نفسه في صورة مَلَكٍ، عشق الفن وكره النسوة. ومداد الأب متان حاكم مدينة صور نضا وتجفَّف، وما عاد يرتوي إلا من نذر قليل من ندى أيام باتت على وَشْكِ الاندثار.

ومدينة صور بفتنتها ونضرتها نفح طيبها وانتشر. أطلت بشموخ على الساحل المتوسطي، طوقها سهل ساحلي ضيق ممتد بين البحر؛ غبراء ثرية بمياه عذبة، روى جنانها الفيحاء ينابيع سحَّ ماؤها، تدفقت من جبال شامخة عالية عهيدة. وأم الحضارة القديمة العظيمة، وظلت متماسكة مترابطة بمجد حكامها الذين ساسوا أمور الناس بالحق، وسلالة شعب عظيم وفرسان انذعر من مغالبتهم جيران أحرار. وأوصدوا أبواب عناد يخش بسيطة الصوريين وغبراءهم. وصور مدينة قديمة عهيدة، من شعب هجين استوطنها شعوب قدموا إليها على فترات. وعني حكامها بدور العبادة، رمموا القديمة وأسسوا الجديدة. وهي معابد أقيمت في باحات واسعة مسورة، رقشت صورها على المسكوكات الفينيقية. وأقروا بحياة بعد الموت، وقد مُنحوا ثراء فاحشا، فلم يبخلوا عن موتاهم. كفلوهم، جَمَّلوهُم بأجمل الألبسة والحلي الفاخرة، ودفنوا في كهوف مع مأكولات ومشروبات، وأواني خزفية متنوعة الأحجام والأنواع، وجل ممتلكات الميت، كالحلي والأسلحة والأدوات، وبعض المسكوكات، ووريت الثرى جاثمين الموتى في قبور نحتت بالصخر تحت الأرض، في توابيت من حجر أو مرمر، وشُيِّد فوقها بناء ضخم؛ إما هرمي الشكل أو اسطواني. وأما في بناء القصور والمعابد فاستخدموا الطوب و الحجارة المنحوتة.

لم تبهر عظمة صور ما أنجزه الصوريون أنفسهم، بل حتى جيرانهم الذي ألفوا زيارتها من حين لآخر، وتوافدوا عليها بأعداد كبيرة، متوددين للحاكم ينشدون صداقته. وحذق رجال من أهلها في صياغة الذهب والفضة، صناعة ونقشًا، وطوعوا الحديد والنحاس والحجارة، والخشب. وأبدعوا نقوشًا وزخارف. خبروا البحر فاستوردوا عبيدا وسفنا حملوها بالذهب والفضة والعاج والقرود والطواويس. وأرسلوا لأصدقائهم هدايا، وحضروا إلى جانبهم في الأعياد والاحتفالات، وحافظوا على حريتهم واستقلالهم. وطمع في ثرائهم وثرواتهم غرباء قدموا من بقاع بعيدة.

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم