يقول المؤلف في مقدمة كتابه: بعد البحث والاستقصاء تعزّزت لدينا قناعة مفادها أنّ النقدَ العربيّ لم يكتبْ تاريخ الروائح، وأن النقد الروائيّ لم ينتبه إلى إنشائيتها.

رضا الأبيض

وبالتالي، فإنّ موضوعَ الروائح ما يزال بِكْرًا في الدراسات العربيّة، في الوقت الذي يهتمّ فيه نقادٌ غربيون بالشمّ في تاريخهم وثقافتهم وفي نصوص أدبهم، وفي الوقت الذي يحقق فيه التقدم العلميُّ تطوراتٍ هائلةً في مجال الروائح والعطورات، من تجلياتها صناعة "الأنوف الإلكترونية" الذكيّة ورسم الخرائط الشمّية بالاعتماد على الصور التي تظهرها الأشعّةُ المقطعية على الدماغ البشريّ، وصناعة تطبيقاتٍ على الأجهزة والحواسيبِ ورقمنة الروائح في الفضاء الافتراضي، إضافة إلى تطوير صناعة العطورات والمواد العطريّة وتنويع مصادرها وتعزيز سلطتها وإغرائها في مجالات كثيرة مثل الصناعة والموضة والعمارة والتعليم والزراعة والطب والمجال العسكري.."

ويضيف: "في عصرِ تطوير التجارب والأدوات، وانتشار "الشمّ الافتراضيّ" لا نجد في المكتبة العربية ما يسدّ الحاجةَ ويشبع الرغبة في معرفة دقائقَ هذه الحاسّة ومعرفة تاريخِ روائحنا وأدبنا الشميِّ، شعرًا وسردًا، إلاّ قليلاً من المقالاتِ أو الفقرات، في هذا المؤلَّفِ أو ذاك، حول الزينة أو العطر، وحول تنافذ الحواسِ في نماذجَ من الشّعر العربيّ القديم والحديث لا ترقى مجتمعة إلى الدلالة على أنّ هذه المسألة شغلت المفكرين وأرّقت الباحثين ونقاد الأدبِ" بناء على ذلك، يستهل كتابه بباب حول المداخل الممكنة لدراسة الرائحة، الفيسيولوجية والنفسية والفلسفية والأنثربولوجية والمعجمية والسيميولوجية، مقدمة إلى بابين يعتني فيهما بالرائحة في نماذج في الرواية: الرائحة عاملا قصصيا ومشروعا سرديا واستعارة كبرى.

احتوت مدونة الكتاب عشر روايات هي: تلك الرائحة لصنع الله إبراهيم (1965) ورائحة الصابون لإلياس خوري (1984) ورائحة الأنثى لأمين الزاوي (2000) وفخاخ الرائحة ليوسف الميحميد (2003) ورائحة القرفة لسمر يزبك (2008) وروائح ماري كلير للحبيب السالمي (2008) وروائح المدينة لحسين الواد (2010) ورائحة الجنة لشعيب حليفي (2012) وزرايب العبيد لنجوى بن شتوان (2016) ورائحة الكافور لميسلون فاخر (2018)

. وخلصت إلى نتائج منها أنّ " كتابة الرائحة تخييلاً روائيّا ما تزال تمثل معضلة أدبيّة وتحديّا سرديّا. فالسّردُ الذي هو فعلٌ مركّبٌ من مستوياتٍ متداخلة ومتعاضدة، لغوية وبلاغية ودلاليةٍ وقصصية، بدا صعبًا الجمعُ بين عناصره ومقوماتِه وصهرها عندما يختار الروائيُّ الرائحة تيمة أو مشروعا سرديا ورؤية للوجود. ولذلك كان من الضروريّ الانتباهُ إلى إغواء رائحة العنوانِ وفخاخِه، إذ ليست كلُّ العناوين التي تتضمن لفظ الرائحة أو أحد مرادفاته مكونا من مكوناتها تعكسُ اشتغالا سرديّا وخطابيا أساسيّا على ظاهرة الرائحة ورمزية فعل الشمّ. وممّا قد يكون زاد الأمرَ صعوبةً بالنسبة إلى الروائيّ العربيّ التأخر العلميّ والمعرفيّ في كتابة تاريخ الروائح وفي مراكمة بحوثٍ ودراساتٍ تهتم بالشمّ فيزيولوجيّا ونفسيّا وأنثربولوجيّا وفلسفيّا. فمثل هذه الدراساتِ لا شك تمثّل مساعدا هامّا على تمثّل قضايا الرائحة، وعلى الوعي بها جماليّا وسرديّا."

ويضيف المؤلف موضحا: " ليس ثمة في تقديرنا فقرٌ في معجم الشمّ. ولقد أثبتت رواية روائح المدينة ذلك بما لا يدعو إلى شكّ. وإنما الفقر في السّياق الثقافيّ الخارجيّ المحيط بالروائيّ العربي، ونعني بذلك قلّةَ التأليفِ في الروائح، وهو ما انعكس سلبًا، في تقديرنا، على الكفاءة السرديّة والقدرة التخييلية في هذا المجال" ومن النتائج قوله: " إنّ العينة التي بها اهتممنا على المستوى المعجميِّ والتركيبيّ والسرديّ والمجازيّ الاستعاريّ تقدّم الدليلَ واضحا على أنّ كتابة الرائحة روائيا ما تزال تشكو صعوباتِ البداية في الوقت الذي يكون قد مرّ على ظهور التأليف الروائي العربيّ أكثر من قرن  إذا اعتبرنا رواية زينب أوّل رواية عربية حديثة"  

بناءً على ذلك، يصبح، حسب رأي المؤلف د. رضا الأبيض، "من أوكد مهام النّقد الروائيّ في هذا المجال، إضافة إلى تثمين المنجز، وهو ما سعينا إليه، أنْ يساعدَ على تذليلِ الصعوباتِ وتعبيد الطريق. فالنقدُ ليس عوْدا على ما كُتب فحسبُ بل هو أيضا استشرافٌ لما سيُكتب في المستقبل. وهو ما حدا بنا إلى أنْ ننجز بابا كاملا للمداخلِ، العامّة والخاصة، بل إلى اعتبار عملنا هذا، كلّه، ليس سوى " مدخل إلى كتابة الرائحة.

وينهي خاتمة دراسته بالقول: " ستحفظ لنا مثلُ هذه الروايات ذكرى تشكّل الرائحة في أبنية وخطاباتٍ روائية، ولكنها لنْ تكون ذات فاعليةٍ وقوّة وتأثيرٍ ما لم يتعهدْ الخطابُ النقديُّ ومضاتِها واختراقاتها بالقراءة والاهتمامِ، وما لم يتعهدها الخطابُ الإبداعيّ ذاته بالإنصات تناصّا وحوارا وتجاوزًا، مدفوعيْن كليْهما بشهوة تحرير الجسد من الفخاخ وتوليد اللذة من الأنفِ. فالأنفُ، بل كلُّ شيءٍ، لا يقاوم عمليّة كتابته إلاّ لأننا "لم نخصّه إلى حدّ الآن بما يستحقّ من عباراتِ الإكبار والامتنان" على حدّ عبارة نيتشه."

---

سيرة ذاتية: رضا الأبيض . أستاذ مساعد بجامعة قابس تونس

المؤلفات كتابة الرائحة في نماذج من الرواية العربية، دار زينب للنشر، تونس سبتمبر  2020

الروائي الناقد. في العلاقة بين الرواية والنقد الروائي من خلال أعمال المديني وطرشونة وخراط وخوري. دار ابن عربي، تونس، 2019.

وللمؤلف مساهمات في دوريات ومجلات عربية

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم