شوقي الريّس

يوم أنجز غابرييل غارسيّا ماركيز المخطوط الأول لرائعته «مائة عام من العزلة» بعد ثمانية عشر شهراً أمضاها حبيساً في غرفة صغيرة أمام الآلة الكاتبة، خرج برفقة زوجته مرسيدس من الشقّة الصغيرة، حيث كانا يقطنان في العاصمة المكسيكية وتوجّها إلى أقرب مكتب للبريد لإرسالها إلى دار النشر الأرجنتينية التي كانت قد أعربت عن اهتمامها بنشرها. وبعد وزن المخطوط قال لهما موظّف البريد إن تكلفة إرساله تبلغ 83 بيزوس، لكن مرسيدس التي كانت تدير ماليّة الأسرة، لم تكن تملك سوى 45 فقرّرت إرسال نصف المخطوط على أمل إرسال النصف الباقي لاحقاً. ويقول ماركيز في مذكراته: «عدنا إلى المنزل وراحت مرسيدس تجمع ما تبقّى لرهنه من الأدوات المنزلية». وبعد أن رهنت مجفّف الشعر والخفّاقة وسخّانة المياه، عادت إلى مكتب البريد لترسل ما تبقّى من مخطوط الرواية التي رفعت زوجها إلى مصاف الأسطورة الأدبية وتقول له في طريق الإياب: (ما ينقصنا الآن هو أن تكون الرواية رديئة).
هذه كانت مرسيدس برشا التي رحلت عن 87 عاماً في مكسيكو بعد أن كانت رفيقة عمر ماركيز وسنده الأوّل طوال ستة عقود (وشخصيّة فريدة تجمع بين الذكاء المطلق وقوة الجأش والفضول والظرف والتكتّم والحنان الهادئ) كما قال عنها غابو يوماً في إحدى المقابلات.
في عام 1981 التقيت ماركيز للمرة الأولى في منتجع «كنكون» المكسيكي على هامش قمّة الحوار بين الشمال والجنوب التي كانت تشارك فيها مجموعة من قادة العالم يومذاك من رونالد ريغان وفرنسوا ميتران إلى أنديرا غاندي وفيديل كاسترو وبيير ترودو والملك فهد بن عبد العزيز الذي كان حينها وليّاً للعهد. وخلال ذلك الحديث الأول الذي أجريته معه ودار معظمه حول روايته «وقائع موت معلن»، التي كانت قد صدرت حديثاً آنذاك وتدور أحداثها الواقعية حول شخصية المهاجر اللبناني «سانتياغو نصّار»، كشف ماركيز عن معلومة نادراً ما يشار إليها في وسائل الإعلام أو في محيط أصدقائه، وهي أن «مرسيدس متحدرة من أصول عربية، لبنانية - سورية، هاجرت عائلتها إلى مصر حيث استقرّت لسنوات طويلة قبل أن تهاجر إلى كولومبيا... وقد قمنا منذ سنوات بزيارة المنزل الذي عاشت فيها العائلة في مدينة بور سعيد». ولمّا أعربت عن دهشتي لما سمعته منه، أردف غابو بظرفه المعهود: «ما لك سوى أن تنظر إلى ملامح أبو الهول على وجهها».
كانت مرسيدس تدير شؤون الأسرة لكنها كانت قارئة نهمة تراجع مخطوطات زوجها قبل أن تصل إلى العديد من أصدقائه، وكان ماركيز يعتدّ كثيراً برأيها ويأخذ بملاحظاتها ويقول: «كنت أعرف من تعابير وجهها إذا كانت الرواية تسير في الطريق الصحيح... هي بوصلتي الأولى».
لا يُعرف الكثير حتى الآن عن كتابات لها، لكن في أرشيف ماركيز الذي تحتفظ به اليوم جامعة «أوستين» في ولاية تكساس الأميركية مخطوط كان الكاتب يحرص عليه كثيراً وهو نصّ أهدته إيّاه مرسيدس في عهد الصبا قبل الزواج، ويتضمّن وصفاً لنهر «ماغدالينا» الغزير الذي ينبع في جبال الأنديز ويعبر كولومبيا ليصبّ في بحر الكاريبي.
كان ماركيز في الثانية عشرة من عمره يوم تعرّف على مرسيدس وهي في التاسعة، وكانت تربط الأسرتين علاقة حميمة كما يقول غوستافو تاتيس كاتب سيرة ماركيز في مؤلفه الضخم «زهرة الساحر الصفراء»، ثم يضيف: «أدرك غارسيا ماركيز باكراً أن مرسيدس هي المرأة التي سترافقه طوال حياته... وهي التي ألهمته لاحقاً العديد من شخصيات رواياته مثل (مائة عام من العزلة) و(خريف البطريرك) و(الحب في زمن الكوليرا) المهداة لها. مرسيدس كانت المرأة العظيمة وراء عبقرية ماركيز».
يجمع المقرّبون من أسرة ماركيز أن مرسيدس كانت صاحبة الرأي الوازن والساهرة دوماً على حماية زوجها، هي التي تقرّر من يقترب من دائرته الضيّقة ومن يبقى على مسافة منها. ويُنقل عن ماركيز قوله مرة إن الزعيم الكوبي الراحل فيديل كاسترو، الذي كان صديقاً حميماً للكاتب الذي كان يقضي فترات طويلة في هافانا، يثق بزوجته أكثر من ثقته به. وأذكر خلال مقابلتي فيديل كاسترو في العاصمة الكوبية عام 1990 عندما قلت له إني من أصول عربية أجاب: «مثل صديقتنا مرسيدس زوجة غابو... يا لها من امرأة!».
تقول زيغير هاي، وهي مناضلة سياسية كولومبية كانت صديقة مقرّبة من مرسيدس: (كانت دائماً تلعب بإتقان دورها كحاجز يحمي زوجها، وكانت تتابع باستمرار التطورات السياسية لكن تحرص على عدم الإدلاء برأي حولها، مدركة بحكم كونها زوجة غابو أن أي كلمة تصدر عنها يمكن أن تتحوّل إلى خبر). وتضيف هاي: «كانت تعرف جيّداً دورها وترفض الظهور أو الحديث إلى وسائل الإعلام، لكن رحيلها يذكّرنا بأنه من دونها لما كانت لدينا اليوم روائع أدبية مثل (مائة عام من العزلة) أو (الحب في زمن الكوليرا)».
طوال ستين عاماً كانت مرسيدس برشا تحرص على وضع وردة صفراء باكراً فوق الطاولة التي يجلس وراءها ماركيز ليبدأ في التاسعة من كل صباح بكتابة روائعه. الوردة الصفراء التي كانت فوق مكتبه يوم رحل في 17 أبريل (نيسان) 2014. والتي كانت على نفس المكتب مساء السبت الماضي عندما رحلت مرسيدس التي يجمع أصدقاء «غابو» على أنه من دونها لما ترك لنا كل هذه الأعمال الأدبية الخالدة.

الشرق الأوسط

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم