صدرت في بيروت الرواية الجديدة للكاتب اللبناني شربل داغر : "ابنة بونابرت المصرية"، عن المركز الثقافي العربي (بيروت-الدار البيضاء)، في 288 صفحة، وهي الرواية الرابعة للكاتب بعد : "وصية هابيل" (2008)، و"بدل عن ضائع" (2014)، و"شهوة الترجمان" (2015). تتوزع أحداث الرواية بين العام 1811 والعام 1825، في مرسيليا وباريس والقاهرة وغيرها، بعد حملة بونابرت إلى الشرق، فوق شواطىء الإسكندرية وأمام أسوار عكا، في "ميدان غوفيه" بمرسيليا وفي أحد الفنادق المطلة على المرفإ فيها، في "القلعة" كما في بولاق في القاهرة، فضلاً عن شواطىء صقلية وتونس والجزائر وبيروت وغيرها. أحداث لا تشبه جاري الأيام في عهد المماليك، ولا في حياة "ثوار" فرنسيين وجدوا أنفسهم "محتلين"، وفي "أمبراطورية" بدل "الجمهورية". هذا ما جعل أفراداً يلتقون لأول مرة، فوق أراضي المعارك أو في عتمة الأزقة والغرف، بأزياء وسلوكات ومآكل مختلفة، في لقاءات عنيفة أو فجائية، من دون أن يحسنوا تبادل أي كلام بالضرورة... لكتابة هذه الرواية، عاد مؤلفها شربل داغر إلى آلاف الصفحات، بين فرنسية وعربية، كما توصل إلى كشف وثائق غير معروفة عن هذا التاريخ، وعاود بنفسه التنقل فوق المواقع المحتملة للرواية بين مرسيليا والقاهرة، واستعان بأكثر من كاتب عايش تلك الأحداث وكتب عنها، مثل : جولي بييزوني في مرسيليا، وعبد الرحمن الجبرتي في القاهرة، والكاتب جوزف ميري بين باريس ومرسيليا. هذه "الألفة"، التي حصَّلها داغر مع هذا التاريخ، جعلته ينقل خطاه فوق مسار الآلاف من أنصار بونابرت العرب، ممن دعاهم للخروج مع جيشه، "جيش الشرق"، والانتقال معه إلى فرنسا، تحت حماية شعار الثورة الفرنسية : الحرية، والمساواة، والأخوة. كما تبين داغر في هذا التاريخ وجوهاً مغمورة، مثل : نور، الطفلة التي وجدتْ نفسها وحيدة، فوق عتبة مدخل فندق في مرسيليا، إثر بلوغ أهل المدينة خبر سقوط بونابرت النهائي عن العرش؛ أو مثل العشرات ممن قُتلوا، أو المئات الذين شُردوا، على مدى ثلاثة أيام متصلة، بسبب أشكال ثيابهم، أو لون بشرتهم، أو عجزهم عن نطق الفرنسية بشكل سليم... هذا ما جعل داغر يتعرف أيضاً بصورة أقوى إلى وجوه معروفة، مثل الجنرال مينو، آخر حاكم فرنسي على مصر والمتزوج من المصرية الست زبيدة، أو "المعلم يعقوب" قائد المجموعة المناصرة لبونابرت، أو أول أستاذ عربي للعربية في الجامعات الفرنسية، أو أول عربي وضعَ معجماً ثنائي اللغة بين العربية والفرنسية... كان لهذه الجريمة أن تبقى مجهولة، ولحكاية نور أن تبقى مكتومة، لولا صدفة غريبة حصلت في شهر أيلول-سبتمبر من العام 2015، في الغرفة 213 في فندق "القديس بطرس وروما" بمرسيليا... تجمع وقائع الرواية بين بونابرت ومحمد علي باشا وملوك وأميرات وضباط وكهنة ومترجمين ومهندسين من مدن فرنسية مختلفة، ومصريين وأثيوبيين و"شوام" من حلب وبيروت ويافا وغيرها، مع زوجاتهم وعشيقاتهم وخدمهم، في أرض المعارك، في السفن الحربية والتجارية العابرة مدى المتوسط، وفي مرافىء ومستودعات ومحاجر صحية، وفي قنصليات وقصور وأكواخ ومياتم ومدارس، وفي أسرَّة اللذة العابرة أو الفجائية... تجمع الرواية من كانوا لا يجتمعون قبلاً، ما يبدل مصائر شعوب وأفراد، وما يحبك شبكات السحر والانجذاب بين الأسمر والأبيض، وما يولد الحب أو الزواج غير المتوقع، أو الولادة غير المحسوبة، وما يتيح ترجمة الآداب والمعارف غير المتداولة في السابق... "هكذا يَخرج التاريخ، حسب داغر، مثل أفراده، من تاريخ سابق، منغلق على نفسه، مكتفٍ بماضيه التليد، صوب تاريخ آخر، غامض، عنيف، تتبدل فيه الحدود، وتتغير فيه خرائط المعارف والسياسات والسلوكات والأزياء والكتب والمآدب وغيرها، بما فيها النظرات المتبادلة بين الشعوب والأفراد...". ويتابع داغر : "هذا التاريخ بعيد، لكنه قريب، إذ لن يكون بعده كما كان منذ قرون وقرون. فيه سيتمُّ إقحام شعوب في سياق مغاير لكنها ستصبح مبادِرة من دون إشارة من الحاكم؛ وفيه سيتمُّ غزو بلاد لكنه سيُظهر مقاومة للمحتل. هذا ما رسم هيئات إنسانية مختلفة، بفعل العنف والفرض والتخالط والتواصل، ما غير حيوات ومصائر عديدة". وإلا كيف يمكن للطفلة نور، الوحيدة فوق عتبة تاريخها الشخصي، أن تبلبل عزلة مؤرخين، لما تبلغ مراهقتها، وأن تسرق "دفاترهم"، لكي تستطلع ما يمكن أن يدلها على سيرة أمها الغائبة، وأبيها المجهول! ورد في صفحة الغلاف الأخيرة : "لم يبقَ غير أن أعدَّ لرحلتي إلى مصر، برفقة حسين بالطبع. اتُّخِذَ القرار كما في اجتماع رسمي : ريمون، كوليت، حسين وأنا. اتَّخذوا القرار بعد أن وجد كلُّ واحد منهم أن ما ساعدوني به لا يكفي لجلاء سيرتي. كانوا متضايقين لأنهم عرفوا أمي من دون أن يمكِّنوني من معرفة من كانت : أين اختفت ؟ هل قُتلت ؟ هل عادت إلى القاهرة من دوني ؟ لماذا حلَّتْ في مرسيليا، هي المصرية الأمية، من دون زوج ؟ كيف يحدث أن كوليت التي التقتْ بها وعملتْ معها، في مطبخ الفندق، لا تُحسن الجواب الشافي عن أسئلتي ؟ كيف يحدث أن حسين، الذي هاجر معها من القاهرة، لا يتذكر أنه التقى بها فوق فرقاطة "بالاس" ؟ كيف يحدث أنه التقاها عند جارتنا مارلين من دون أن يعرف هوية زوجها، أو عشيقها، والدي ؟".

الرواية نت

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم