تبدو رواية “حياة معلقة” محاولة من مؤلفها الكاتب الفلسطيني عاطف أبوسيف التنقيب في أرشيف الذاكرة الفلسطينية

رواية حياة معلقة

وهي تعيش تغريبتها بكل مراراتها وتحديات شخوصها، حيث يقر أبوسيف بأن “التنقيب في الذاكرة أكثر من الألم الذي نحسّه حين نعيش اللحظة. فنحن نرغب في أن نتألم. اللحظات السعيدة حين نستحضرها تؤكد فقدنا لهذه السعادة واللحظات المؤلمة تجعلنا نحسّ كم أن الألم عصيّ على النسيان. وفي الحالتين فنحن نتألم. الألم الشخصي الذي نخبئه في جيوب الذاكرة يخرج منها دون سابق إنذار”.

المتن الحكائي

تتداخل في الرواية الصادرة عن دار الأهلية للنشر والتوزيع في عمان ذاكرة المخيّم بذاكرة نعيم الورداني، الذي كان يتألّم عندما يطبع صور شهداء غزة، ويصبح من الصعب عليه أن يفك الاشتباك بينهما، فأغلب الصور في شوارع المخيم حملت توقيع مطبعته العودة، حتى أن المطبعة صارت معلما هاما من معالم المخيم.

ولم يكن يريد لهم أن يتحولوا إلى مجرد بوسترات تعلق على الجدران يمر أمامها الناس في الشارع كما يمرون على يافطة صيدلية، مع أنه ظل لفترة طويلة من حياته يطبع صورهم إلى أن نالت منه رصاصة قنّاص إسرائيلي لترديه قتيلا عند باب مطبعته عندما كان يحاول فتحها صباحا كل يوم.

أما الثوار في غزة فكانوا يعتبرون نعيم واحدا منهم لأنه كان يخاطر بحياته ويطبع المنشورات الثورية، بدءا بالبيان الأول للانتفاضة، حيث لو كانت سلطات الاحتلال قد علمت بذلك لقضى عمره كله في السجن مثل ولده سالم المحكوم بالمؤبد ثلاث مرات.

عاطف أبوسيف يبحث في أرشيف الذاكرة الفلسطينية، وهي تعيش تغريبتها بكل مراراتها وتحديات شخوصها

ووصل سليم الابن البكر لنعيم إلى غزة في اليوم الثاني من وفاة والده قادما من إيطاليا التي يقيم ويعمل فيها بعد أن أنهى دراسة الدكتوراه في جامعة فينيسيا، وكان قد قرأ نبأ مقتل رجل ستيني أمام مطبعته في مخيم قرب مدينة غزة في اللحظة التي كان يتصفح فيها مواقع إخبارية على الإنترنت، بينما هو يستعد للسفر إلى فرنسا للمشاركة في مؤتمر عن الديمقراطية في العالم العربي. ولما طلب منه نصر صورة خاله نعيم لكي يطبع منها بوستر يوزعه على الناس في المخيم رفض ذلك.

ولأن تراجيديا القضية الفلسطينية مازالت تنتج أبطالا كل يوم وكل لحظة، فما كان من المؤلف إلا أن يقف متأملا بعد هذا السفر الطويل من الدم، ليطرح قضية الشهادة والبطولة من جديد على طاولة النقاش.

سمر صارت الوحيدة المتبقية من أفراد أسرة نعيم، فأعمامها يتنقلون في المنافي البعيدة، أحدهم في تشيلي والآخر في الصين حيث يعمل في توريد البضائع وفي الأردن، وشقيقها الأصغر سالم سيقضي عمره كله في السجن بعد أن حكمت عليه سلطة الاحتلال بالسجن المؤبد 3 مرات، وشقيقها البكر سليم وجد ضالته في السفر حيث أنهى دراسته في جامعة بيرزيت، بعدها استكمل الماجستير في بريطانيا ثم الدكتوراه في فينيسيا، وشقيقتها البكر تزوجت من ابن خالتها وسافرت معه إلى السعودية بحثا عن الاستقرار والثراء.

في الرواية ليس هناك سوى صوت واحد يسرد لنا الأحداث لنكون معه أمام بنية فنية تستعين بآلية الحكي الشعبي الذي تتوالد في نسيجه الفني حكايات فرعية.

ومن جهة أخرى يقف القارئ أمام ذاكرة جمعية تتشكل أمامه من الذاكرة الفردية، ويتحكم السادر العارف الوحيد منفردا في تحديد وجهة نظر المنظور السردي للأحداث، وليس هناك صوت آخر يتشارك معه في السرد. فالسارد هنا قد اختفى لصالح المسرود، وليس من شخصية في النص اختفى خلفها السارد يمكن أن نعثر عليها. وعملية الحكي التي مارسها السارد الكلي للمعرفة لعبت دورا في أن تنسي القارئ التفكير في شخصية السارد أو البحث عنه.

نحن إزاء سرد شفاف يستعير تقنية الريبورتاج التلفزيوني الذي لا يحتاج بشكل قطعي إلى شخصية محددة تظهر شاخصة ضمن التقرير، بل إن السرد هنا يجتاز مسألة التفكير في شخصية السارد ليدخل القارئ داخل المتن الحكائي، وكأنّ المؤلف أراد بذلك أن يقتصر دوره على عرض الأحداث فقط، ليكون عمله بالتالي مقاربة فنية مع أساليب التقارير التلفزيونية التي تقدمها نشرات الأخبار في القنوات الفضائية، أي أن المؤلف وضعنا أمام عالم واقعي عبر عالم متخيل.

صور الشخصيات

حياة الشخصيات في هذه الرواية تبدو معلقة ما بين مقاومة الاحتلال والموت والنفي والرحيل. فلا أحلام ولا طموحات قابلة للحياة إلاّ في حدود ما تتيحه الصدفة لحياة معلقة.

وجاءت الرواية، التي وصلت إلى جائزة البوكر لهذا العام بمثابة مقاربة ملحمية عمل فيها المؤلف على أن يسرد أحداث ومصائر شخصياته بشكل دائري، فما أن تبدأ حكاية حتى ندخل منها إلى حكاية ونلج من خلالها إلى أخرى وهكذا وكأننا نمضي في دائرة المتاهة، مع أن مدينة غزة هي الأخرى تخضع لجدلية التغير، فالزمن ما قبل اتفاقية أوسلو عام 1993 ليس كما بعدها، وسيشهد تغيّرا عاصفا بعد العام 2006 عندما تصبح المدينة تحت سلطة منظمة حماس، فكان من الطبيعي أن يصطدم سليم العائد من إيطاليا بعد غياب دام سبعة أعوام بما وجده فيها من تغيرات لم يكن قادرا على استيعابها.

فالأجيال الجديدة تتواجه مع بعضها البعض ومع أجيال سبقتها في سفر الحياة والتحديات، فمنهم من يسعى إلى أن يخط مصيره بعيدا عن محنة الاحتلال (سليم مقابل نعيم)، ومنهم من تأقلم مع تراجيديا الحياة في غزة وباتت مصدر نجاحه مثل ياسر الذي امتهن الصحافة وجاءت الدنيا على هواه وأصبح صحافيا محترفا يعمل مع الوفود الأجنبية التي تزور المدينة، كذلك شخصية يافا التي وجدت ذاتها في العمل بمنظمات المجتمع المدني مثلما تمكنت من إيجاد عمّها وابن عمها نادر بعد رحلة بحث تخللتها مصادفات لا يمكن أن تحدث إلا في الأفلام.

كما توجد شخصيات أخرى أصبحت لديها أحلام وتطلعات وباتت تتسع يوما بعد آخر بعد أن تحولت الأنفاق ما بين غزة ومعبر رفح مصدرا لثرائها مثل خميس، وشخصيات أخرى بات نضالها عتبة للصعود إلى الأعلى في وظائف ومناصب فحولتهم من مناضلين إلى تجار مثل شخصية صبحي.

أما أولاد وصفي المختار الذين ضحكت لهم الدنيا وصاروا من كبار تجار الجوالات وآخوين، فقد بقيت أحلامهم معلّقة في الذاكرة ولم تسعفهم الحياة في أن يحققوها مثل سالم. الجميع يجري وراء أحلامه وأغلبهم لم تكن تنتهي مثلما يريد لها أبطالها. فالقدرية هنا سلطة قائمة بحضورها وهيمنتها على مسار الأحداث والأشخاص والأشياء.

المصدر:  صحيفة العرب اللندنية

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم