يحلو لي أن أكتب عن منمنمات دمشقية ، للأديب صباح الحواصلي ، صدرت الطبعة الاولى منه في التسعينيات وهو في سبيل اعادة طباعته اليوم "منمنمات على جدران دمشق القديمة ، عنوان جميل يغري بالمضي أكثر.
استوقفني الإهداء : / إلى الأفق البعيد الرحب ، الذي طالما تقت إليه وكان من المتعذر عليٌ بلوغه .... / تلك الكلمات في بعدها الفلسفي ، تطرح دائماً جدلية الزمن والحلم المفقود ، التوق المبرح الى أن نغرس روحنا في فضاءات لن نطأها أبدا ،ذاك السؤال الممض الذي سكن روحنا يوما ، ولم نجد له الجواب ،ولن نجده .

فتحت الصفحات ، هرّ منها الياسمين ، استوت دمشق أمامي يانعة خضراء ,تهادت الحارات القديمة وتأودت الأزقة ، تغتسل بعبق الزمن الجميل ، فالكلمات هنا لها رائحة وروح. طالما أ سرتني حكايا هذا الأديب ، وكأنها هديل حمامة في ليل حزين ، استمدها الأديب الحواصلي من الذاكرة الشخصية ، واستذكار أحداث و أزمنة ماضية ، مشكلا تلك السيرة التي تنطوي على أ د ب المدن ، او حكايا الاوطان ، هو يعيد للحكاية التي كانت تروى في ليل البرد ، خصوصيتها، وألقها , وحنيتها وعفويتها

تقافزت الصور، صور ثرية انفلتت من زمن مرّ كالحلم. مشهد الرحيل كان حاضرا بقوة ، في ثمانينات القرن المنصرم ، فالرحيل قدر في بلادنا ، شاركنا دائما مسار الحياة ، كل البيوتات فيها ركن فارغ لغائب ، وفيها مشهد وداع ، وفيها وعد بالعودة . / لن نغيب طويلا ياأبي ، سنعود ونمكث بالقرب منك / هو وعد ، يستكين في عمقه شعور مبهم بالذنب ، ربما أو غالبا لن يتحقق ، بعودة ما في يوم ما،
/الْيَوْمَ سأكتب لأبي وسأخبره أني سأعود قريبا / وهو لن يعود قريبا ، فالزمن يباغتنا ، والأيام تنثال ، والخريف يأتي ، / وتسقط آخر ورقة من تلك الشجرة الباسقة في الحديقة / ، ولكن الحنين الى البيت الاول يسكن القلب ، ونحن نغرس أقدامنا في طرقات الغربة ، فيتسرب صقيع الارض الغريبة الى القلب الموجع بالحنين , نرنو إليه من نوافذ الغربة البعيد ة / بعيد بيتنا من هنا ياأبي ، لقد ابتعدنا كثيرا عن البيت /

الزمن حاضر دائماً ، الماضي المستعاد ، بتأرجح الزمن مابين قصة وحكاية ، متجها تارة إلى الماضي المستعاد ، ليرصد بعض تفاصيله، تفاصيل ذلك الحنين المبرح الذي يخالج المرء كلما بعد به المكان . / كنت صغيرا اركض في بساتين الغوطة المزهرة ، زهر المشمش من حولي ربيع لاينضب ، انادي اخوتي : هيا بِنَا نتسابق ، أنا الحصان الأبيض ، كانت الدنيا انداك فرحا خالصا ، وكنا على يقين من ان الأيام الآتيات ستكون أبدا جميلة . /

الوطن هو الشخصية الرئيسيّة، المحورية هنا ، هو الطاغي على ماعداه ، تنبثق منه كل الحكايا ، البيت والحارة ، والأزقة ، والمقبرة ، والطفولة ،والمرض، وكل هموم البلد . / آه يابلادي متى تصيرين كما أريد .. شعرا وفرحا وهواء نظيفا وعشبا ينضح نضارة مشغول أنا بقاسيون وأحزان فاسيون ، وناس قاسيون ،هموم مدينتي غصة في حلقي تكتم أنفاسي/

والغربة ليست في البعد عن البلد فقط ، هناك غربة أقسى ،عندما ترى /المعاول تعمل ليل نهار، الجرافات تلتهم أصص الزهور و الجدران المزركشة والبحرات العامرة بالمياه /. هكذا يصف حسرته امام غربة المدينة ، تغير كل شيء ، أصبحت عجولة ومزدحمة هواؤها ملوث، وأشجارها اقتلعت ، /رأيتهم يقطعون الأشجار ، ويلوون عنق كل غصن اخضر ، ويلقون الحجارة الصماء فوق التراب الرطب و يمهدون فوقه طرقا اسفلتية سوداء /

تؤرقه مواجع كثيرة تؤرقه الطفولة ، الطفولة الغائمة بلا سماء حنونة، بلا عصافير واحلام ، يبحث عنها في الحارات التي كانت يوما ملعبا رحبا لطفولة نقية ، فيجد الخوف والحرمان يتطلع اليه بعينين غائمتين ، فقدتا الفرح وفي طفل الصبارة الهارب من الدورية يقول /.لا يا صغيري أنا لست منهم .. انا مثلك طفل في أعماقه بحيرة تسبح فيها الأسماك الصغيرة بآمان ، وفيها سماء تحب العصافير ، تحب الفراشات /

ويمضي القاص صباح الحواصلي في حكاياته ، يلملم منمنماته من الأمكنة والحارات والزمن ، شذرات من هنا وهناك، ملوحة بحلاوة ايام كانت جميلة تارة ، و متشظية بمواجع البلد الذي يعشق تارة أخرى ، ويتخذ من المجاز احيانا وسيلة لإيضاح ما يريد ،فالميت يخرج من قبره ويتكلم ، وشجرة الزيتون تنادي الغياب أن يعودوا ، و الباب يحن ويتألم على ماضي مشرق لن يعود ، والفراشة ودالية العنب تتبادلان الهمس والنجوى، والعصفور أيضا له حكايته / أنا ليس لي بيت كي أضله ، أنا حر طليق كل الأشجار والأسطح بيتي / اخيراً يحلو لي أن أنهي مابدأت، بوعود الأديب لزوجه /كانت رائعة تلك الأمسيات ، حيث الدفء والشعر والكستناء يتفلق فوق الموقد ، ودفترك الذي جمعت فيه احلى الكلام ، قلت لي اكتب ما تشاء على صفحته الاولى. اتذكرين ماكتبت ؟ "انت التي انا لك ، وأنت لي ، وانا منك وانت مني ، وكلانا واحد".

الرواية نت

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم