تخرجُ التي تحملُ الروايةُ اسمها، مع طفلين، في أوّل ربع صفحةٍ من الرواية، لترمي نفسها في النهر، وهنا بداية الرحلة الوحشيّة هذه، الرحلة التي لا تحاولُ تهشيم ما فيك، وإنما تنقلُ لك التهشيم الذي تعرّض له الآخرون، الآخرون الذين لا تعرفهم، حتى وإن كانوا يسكنون معك في ذات المدينة. عناصرُ الرواية غريبة، الأسماء لم تطأها عيون القارئ سابقاً، مَن منا سمع بـ"قسمت، دا، قَيَم، ماملي، نازارة، فرصت"، شخصياً لم أسمعها سابقاً فضلاً عن قراءتها، ثمّ ما هذا المجتمع الذي تنقله الرواية؟ الكرد الوحيدون الذين أعرفهم هم سكنة الجبال، لا الذين يستقرّون على جانب نهرٍ ترمي نساؤهم أنفسهنَّ فيه، وأسماؤهم: شيركو، سردار، وغيرها من الأسماء التي نعرفها! هل عاشت بيننا مجتمعاتٌ لا نعرفُ عنها شيئاً؟ وبالتاكيد، مَن لا يعرفُ شيئاً عن جماعة، لن تدخل في حيز تفكيره، ولن يكتب عليها بأيّة طريقة من الطرق. بمعنى أدق: هل كتبنا عن كلّ شيء؟ أو هل كتبنا عن أيّ شيء واجه الأمّة العراقية، بمختلف تجلّياتها؟ أين سرديّات الكرد؟ والعرب، والسنة، والشيعة، والبهائيين، والإيزيديين، والتركمان؟ ماذا عن سرديّات الأحزاب؟ هل كتب الشيوعيّون سرديّاتهم؟ البعثيون؟ الإسلاميون؟ القوميّون؟ لم يكتبوا شيئاً، وما كُتب، أو استُكتِب، هو بمثابة الممحوّ، الذي تجيّره السلطة، وترمي به على ورقها الحكوميّ، والذي يزول تأثيره، ووجوده، فور اختفاء هذه السلطة. ماذا فعلت حوراء النداوي؟ ضربت الأرض بأوّل مجرفة، أرضاً لم يُكتب عنها حتى ما يكفي من المقالات وكتب الدراسات، وما تعرض له الكرد الفيليون، بعد مجرفةٍ أولى ضربتها في رواياتها البِكر (تحت سماء كوبنهاغن)، وفي كلا الروايتين، هل حاولت حوراء أن تلمّ شتات جماعتين، كلتيهما كانتا تُعانيان من اللغتين، والانتمائين، والطرديْن، العربيّة والدنماركية من جهة، والعربيّة والكردية من جهة، الإسلام والمسيحية من جهة، والسنّة والشيعة من جهة، ثم الطرد العراقيّ من جهة، وطرد المنفى الغريب من جهة أخرى؟ عالمٌ غريب في (قسمت)، عالم شاسعٌ من الحفر بداخل الذات العراقية بكلّ تنوّعاتها، لكنها بالمحصّلة تنتمي للحيرة الإنسانيّة، حين يمزّقُهُ كلُّ ما حوله من الانتماءات السياسية واللونية والعِرقيّة والدينية. ما يعوزنا الآن، هو الوثيقة التاريخية، التي لم نشرع بالكتابة عنها أبداً، وعن أيّ شيء، فكلّ موضوعة لها آلاف التفاصيل، وآلاف المعالجات، بينما نحتفظُ لكل محورٍ تاريخيّ من المُفترض أن تتجمّع حوله الأعمال الأدبية، بروايةٍ أو روايتين. قسمتُ التي رمت نفسها بالنهر، ببعدٍ تأويليّ يخصّ المتحدث وحده، كانت القضية الفيْليّة بأسرها، القضية التي تحضرُ ولا تحضرُ، تنزُّ في الذاكرة مثل جرحٍ سريّ، ولا تبزغُ إلاّ وقت السياسة، وتنطفئ فور إعلان التحالفات السياسيّة، فضحايا القضيّة، مثل ضحايا القضايا الأخرى، وهي ذات القضية التي يسخرُ منها الجميع بأوقات الهدوء، كما سخرت النسوة من قسمت، قبل وفاتها! رغم توحّش الرواية، بكلّ ما فيها من ألمٍ وفقدان وضياع، وأُشير هنا إلى ما كتبته حوراء عن مشهد التسفير إلى الحدود للمثال الأشد سواداً، لكن هذا التوحّش لم يصل لِما وصل إليه توحّش التاريخ نفسه، وأحسبُ أن هذه معضلة تواجه صنّاع الأثر الفنّي جميعاً، ساردين وشعراء وتشكيليين، حين يتفوّق الواقع بالوحشيّة، فلا تستطيع معالجته، ومهما ضخّمت الأمور لتؤثر بالقارئ، يصدفُ أن هذا القارئ قد شاهد على يوتيوب ما هو أشدّ وحشية من نصّك! لكن حوراء هنا، ضربت أرض الجماعتين، المغتربة في (تحت سماء كوبنهاغن)، والكرد الفيليين في (قسمت)، رفعتْهم إلى متن التفكير، وصارت قسمت بمثابة واحدة مع شيركو، رغم كلّ ما يمتلكه أهلُ شيركو من إعلامٍ وروايات ومؤسسات ثقافية، ورغم ما خسرتْهُ وتخسره وستخسره قسمت وأهلها في العراق، العراق المجهول الذي نعيشه، العراق الذي لم نعالج أيّاً من مواضيعه كما يستحقّ.. أهنّئنا بقسمت، وبحوراء.

ــــــــــــــــــــــــــ

  • كاتب عراقي. عن صفحة الكاتب على الفيسبوك

    <ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:320px;height:100px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="7675478845">

<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:300px;height:600px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="1305511616">

<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:728px;height:90px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="3826242480">

<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:336px;height:280px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="4898106416">

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم