رحل عن عالمنا أمس أحد أبرز كتاب الرواية العربية في جيل ما بعد نجيب محفوظ، بمستشفى الجلاء العسكري المصري، وهو الروائي الكبير جمال الغيطاني، بعد تعرضه لوعكة صحية شديدة، دخل على إثرها في غيبوبة تامة نتيجة توقف قلبه لمدة 15 دقيقة، مما منع وصول الأكسيجين إلى المخ، وتم تشييع جثمانه بمقابر الأوتوستراد على الطريق الدائري، وذلك بعد صلاة الجنازة بمسجد السيدة نفيسة.

ولد الغيطاني في 9 مايو 1945 بمحافظة سوهاج، وتخرج من مدرسة العباسية الثانوية الفنية التي درس بها فن تصميم السجاد الشرقي وصباغة الألوان، وتخرج فيها سنة 1962، واستبدل الغيطاني عمله عام 1969 ليصبح مراسلا حربيا في جبهات القتال، وذلك لحساب مؤسسة أخبار اليوم، لينتقل بعدها للعمل في قسم التحقيقات الصحفية، وبعد أحد عشر عاما في ممارسة الصحافة أصبح رئيسا للقسم الأدبي بأخبار اليوم، إلى أن قام بتأسيس جريدة أخبار الأدب سنة 1993، حيث شغل منصب رئيس التحرير.

مسيرة حافلة

هناك جانب آخر من حياة جمال الغيطاني يتعلق بصداقته الطويلة مع عميد الرواية العربية نجيب محفوظ ومع الشاعر عبدالرحمن الأبنودي، وغيرهما من قامات الأدب والفن، كما أن دوره الواضح في الوقوف ضدّ جماعة الإخوان المسلمين لا ينسى أبدا.

وقد حاز الغيطاني على العديد من الجوائز المحلية والعالمية، منها “جائزة الدولة التشجيعية للرواية” عام 1980، “جائزة سلطان بن علي العويس” عام 1997، “وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى”، “وسام الاستحقاق الفرنسي من طبقة فارس” عام 1987، و“جائزة لورباتليو لأفضل عمل أدبي مترجم إلى الفرنسية” عن روايته “التجليات” مشاركة مع المترجم خالد عثمان في 19 نوفمبر 2005، بالإضافة إلى جائزة الدولة التقديرية (مصر) عام 2007 والتي رشحته لها جامعة سوهاج، كما حصل على جائزة النيل عام 2014.

إضافة إلى نجاحه ككاتب أسس الغيطاني جريدة "أخبار الأدب"، وكان أحد العلامات الكبرى في الصحافة

لجمال الغيطاني العديد من الأعمال الروائية منها “أوراق شاب عاش منذ ألف عام”، “الزويل”، “حراس البوابة الشرقية”، “متون الأهرام”، “سفر البنيان”، “خلسات الكرى”، “رشحات الحمراء”، وغيرها، لكن تظل روايته الأشهر “الزيني بركات” والتي تحوّلت إلى عمل درامي وترجمت إلى أكثر من لغة كالألمانية والفرنسية، والتي قال فيها إن أمنيته المستحيلة أن يُمنح فرصة أخرى للعيش وأن يولد من جديد لكن في ظروف مغايرة، كما ترجمت له روايات أخرى مثل “وقائع حارة الزعفراني”، “رسالة البصائر والمصائر”، “سطح المدينة”، “التجليات” بأجزائها الثلاثة في مجلد واحد.

مشروع الغيطاني الروائي فريد من نوعه حيث عرف باستلهامه من التراث المصري، ليخلق عالما روائيا عجيبا يقحمك في سحره ومسالكه السردية التي يبنيها بإتقان، ما جعله من أكثر التجارب الروائية نضجا، وقد لعب تأثره بصديقه وأستاذه نجيب محفوظ دورا أساسيا في تشكيل عالمه الروائي، هذا إضافة إلى اطلاعه الموسوعي على الأدب القديم، حيث ساهم في إحياء الكثير من النصوص العربية المنسية وإنقاذها من غبار الرفوف والسقوط في العدم، معه كنا نعيد في كل مرة اكتشاف الأدب العربي القديم تقودنا نظرته المعاصرة والجادة في تفاصيله.

انفتحت تجربة جمال الغيطاني الفنية في السنوات الأخيرة على العمل التلفزيوني مع المحافظة على نفس الملامح التي نجدها في رواياته، إذ كشف النقاب عن عالم آخر يعيش بيننا من المعمار والناس. ويعتبر الغيطاني من أكثر الكتاب العرب شهرة، إذ أن أغلب رواياته ومجموعاته القصصية متوفرة في نسخات رقمية يسهل تبادلها، ما أضاف بعدا جديدا لهذا الكاتب الذي جمع بين الأصالة العميقة والحداثة الواعية.

نجاح لافت

ونعى الكاتب الصحفي ووزير الثقافة المصري، حلمي النمنم، الكاتب جمال الغيطاني، قائلا “جمال الغيطاني روائي كبير وعظيم فقدته الرواية العربية، وهو الراعي الرسمي والعربي للرواية، وكان وطنيا وعربيا مخلصا”.

وأضاف أنه “لا بد لنا أن نتذكر للكاتب أنه بعد هزيمة 1967 قضى فترة طويلة من حياته مراسلا عسكريا لينقل لنا بطولات حروب الاستنزاف التي مهدت روح الانتصار، ولا بدّ أن نتذكر له أيضا أنه أسس أخبار الأدب، وكان أول رئيس تحرير لها، فهو من إحدى العلامات الكبرى في مسيرة الحياة الصحفية، فرحم الله جمال الغيطاني”.

ومن جانبه وصف الكاتب يوسف القعيد رفيق درب الغيطاني، رحيل صديقه قائلا “كان أعز الأصدقاء وأهم الكتاب”. أما الشاعر محمد إبراهيم أبوسنة، فقد وصف خبر الوفاة بالمفجع، وأنه يشعر بالحزن والفقد لهذه الشخصية الفريدة العصامية والموهوبة، حيث يمثل حالة أدبية عميقة في تاريخ الأدب العربي خلال الستين عاما الماضية.

وأوضح أنه يعرفه منذ شبابه، ويمثل الغيطاني رمزا للمبدع الوطني، وقد نجح الغيطاني في أن يكون كاتبا استثنائيا سواء في كتاباته الروائية أو القصصية، كما نجح كصحفي، إذ أنه نجح كمراسل عسكري في بداية مشواره في عالم الصحافة، وأبلى بلاء حسنا في تغطية المعارك. فعلا فقد الأدب المصري والعربي شخصية نادرة، ولا شك أن أصدقاءه يدركون هذا الفقد، حيث إنه كان كاتبا عالميا وترجمت رواياته إلى عدة لغات.

الأصالة والحداثة

الكاتب الكبير مكرم محمد أحمد رثى الغيطاني في تصريحات خاصة لـ"العرب" قائلا إن ما سيفتقده في غيابه ليس فقط كتاباته الرائعة عن حرب أكتوبر المجيدة، لكنه سيفتقد أيضا ابتسامته الودودة وهدوءه المطمئن، وفخره الدائم بجذوره التي تغوص في حارات منطقة الجمالية الشعبية.

ويضيف إنه التقى الغيطاني لأول مرة عام 1969 ضمن مجموعة من شباب الصحفيين تبحث عن مستقبل المهنة وتناقش متاعبها، ليصبح واحدا من أكبر نجوم هذا الجيل، لاسيما بعد روايته "الزينى بركات" التي حددت مكانه كروائي من طراز فريد، يملك قدرة سرد مغموسة في واقع مصري وتراث إنساني عميق، تعرف عليه الغيطانى ليس فقط باعتباره أحد أبناء حي الجمالية، ولكن من خلال دأبه في التفتيش المستمر عن الحقيقة، الذي مكنه من تجاوز أبعاد الجغرافيا إلى عمق التاريخ الحافل بمتناقضات ومفارقات عديدة.

تعلم الغيطاني بمدرسة العباسية الثانوية الفنية فن تصميم السجاد الشرقي ليعمل في المؤسسة العامة للتعاون الإنتاجي رسامًا للسجاد الشرقي، ومفتشًا على مصانع السجاد الصغيرة، وهو ما سمح له بزيارة العديد من قرى مصر، فكانت لهذه التجربة تأثير في حياته الأدبية.

وقال جابر عصفور وزير الثقافة الأسبق، "إن الغيطاني يمثل تيارا فريدا في كتابة الرواية العربية يجمع بين التراث والمعاصرة، ويتميز بالأصالة، لهذا كان من الطبيعي أن يكون لرواياته صدى كبير في العالم كله بدليل ترجمة أعمالـه المختلفـة إلى الكثيـر من اللغات.

واستبعد عصفور أن يستطيع أحد ملء فراغ جمال الغيطاني الذي كـان رمـزا مـن أهـم رموز الأدب المصري والعربي في العصر الحديث، حيـث كان له بصمة فريـدة من الصعب تقليدها أو استنساخها، لأنه يمثل تيارا أصيلا نادرا.

عصفور أشار كذلك إلى أن الغيطاني تميز إنسانيا بالتواضع ما جعله يسهم في ظهور عدد كبير من الأدباء والشعراء من أجيال مختلفة، وكان ينقل إليهم خبراته في الحياة وفى الكتابة، وكيفية المزج بين الأصالة والمعاصرة للحفاظ على التراث المصري والعربي.

ولج الغيطاني عالم الكتابة في سنة 14 عاما، حينما كتب قصته القصيرة الأولى "نهاية السكير" عام 1959ومن بعدها توالت أعماله التي كان أبرزها رواية "الزيني بركات" الذي نالت نجاحا كبيرا بعد تحولها لمسلسل تليفزيوني وهناك غيرها الكثير مثل "حكايات المؤسسة" و"متون الأهرام" و"سفر البنيان" و"أوراق شاب عاش ألف عام" و"خلسات الكرى" و"المجالس المحفوظية" و"الخطوط الفاصلة".

الشاعر والكاتب المصري أحمد عبد المعطى حجازي قال إن أهمية جمال الغيطانى تنبع من قدرته على استحداث أدوات أدبية لم تكن موجودة في السابق، فقد استقاها من لغة المؤرخين المسلمين في العصور الوسطى والمملوكية واستطاع أن يقدم اكتشافات استخدمها في تطوير الحاضر والتعبير عن الجوانب العريقة التي عاشها الإنسان المصري بكل أثيابها وأوضاعها.

وأشار حجازي إلى قيمة مهمة في حياة الغيطاني هي قدرته على أن يحقق نجاحاته وإسهاماته في الرواية العربية، على الرغم من الظروف الصعبة والقاسية التي عاشها في صباه، ورغم ذلك لم يتخل عن مجتمعه المصري، وضحى في سبيل تحرره وتقدمه، كما حدث في الستينيات من القرن العشرين، عندما اتخذ مواقف سياسية قوية وهو ما عرضه للاعتقال.

الكاتب الوطني

الكاتبة الصحفية والأديبة فريدة النقاش توقفت في تصريحاتها لـ"العرب" عند الجانب الوطني في الروائي الراحل راصدة بحثه الدائم عن الحرية والديمقراطية مهما كان ثمنها، حيث عارض بعض رموز الرئيس المصري الأسبق مبارك مثل وزير الثقافة فاروق حسني وأمين عام "الحزب الوطني" سابقا أحمد عز، كما هاجم الإخوان المسلمين بعد تولي محمد مرسي رئاسة مصر، ووصف الجماعة بأنها "تنظيم أجنبي".

الناقد والكاتب علاء الديب، قال "إن الغيطاني شق طريقه في ظروف صعبة معتمدا على موهبته وكفاحه، لذلك أخذ مكانة مرموقة ونادرة في الأدب العربي الحديث، وترك وراءه تلاميذ وأصدقاء كثيرين تأثروا به وأحبوه وسيظلون يذكرونه إلى الأبد

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم