ّحسام الدين صالح: سرديات الهجرة وتحدّيات المثقف السوداني
حسام الدين صالح، قاص وروائي وإعلامي سوداني حاصل على درجة الدكتوراه في الإعلام من جامعة الأناضول، صدر له "المتدحرجون من الخرطوم" قصص قصيرة عن دار وعد المصرية 2011، و "زيدان الزقزاق" رواية عن الدار العربية للعلوم 2013، "خرطوم الجنّ" قصص قصيرة جداً عن دار أوراق 2014، وله مؤلفات وبحوث إعلامية كثيرة، يقيم حاليا في تركيا.
في هذا الحوار الثريّ، نلتقي بالروائي حسام الدين صالح، الذي استطاع عبر كتاباته أن يجسد معاناة المثقف السوداني في ظل ظروف سياسية واجتماعية معقدة، وأن ينقل إلى القارئ العربي والعالمي صورة عن صراعات الهجرة والغربة، والمقاومة الإبداعية في مواجهة الانهيار الثقافي. بين تجربته الأدبية التي تتأرجح بين القصة القصيرة والرواية، وتجربته الشخصية في الهجرة والعمل الصحافي، يقدم لنا حسام الدين صالح رؤى فلسفية ونقدية حول الكتابة، ودورها في تشكيل الوعي الاجتماعي، وتحقيق التغيير، مسلطاً الضوء على علاقة الأدب بالذاكرة، وكيف تشكل الطفولة والماضي جزءاً حيوياً من أعماله الإبداعية.
من خلال هذا الحوار، نستعرض مسيرة صالح الأدبية، ونتعرف على أسرار إبداعه، وكيف تتحول الكتابة عنده إلى وسيلة لإعادة اكتشاف الذات والوطن، واستكشاف الجوانب المظلمة من الوجود الإنساني. ينقلنا الحوار بين ذكرياته في أم درمان وود مدني، وبين رؤيته المستقبلية للأدب السوداني، وما يمكن أن يقدمه للأجيال القادمة.
- یعیش السودان واحدة من أسوأ حالاته منذ تأسیسه، هل تعتقد بأن الأزمة الحالیة هي نتاج خلل في التکوین الثقافي لما یسمی بالنخب السودانیة؟
- قد نتفق على مشكلة التأسيس العويصة لبلد مثل السودان، فهي ما زالت ماثلة حتى اللحظة ومنذ رفع العلم السوداني دولة مستقلة ذات سيادة، إذ لم تفلح في تنظيم السياسة وقصر السلاح على منفذي القانون، فتناسلت الحروب والانقلابات فشلاً تلو آخر. إقرارنا المتفق بالمشكلة قد لا يكون مماثلا لوجهات النظر بشأن أسبابها، لكن بالتأكيد تشارك ما نسميها "النخب السودانية" في استمرار فشل السودان المؤسسي، فما دام الناس على دين ملوكها، فعلل التأسيس على عاتق النخبة القائدة تطوقها حد الاختناق ولو لم يكن مرئياً لها. لم تكسر الأجيال المتلاحقة منذ الاستقلال ثقافات الضيق بالآخر المختلف والأنانية والتواكل والافتتان بالأجنبي وغيرها من الآفات التي أضحت عادات متأصلة تعطل الاتفاق على مشروع وطني جامع للتنمية والنهضة.
- بصفتک متخصصا في تحلیل الخطاب، ما هي المزایا التي یجب أن تتوفر في الخطاب الذي یرید أن یسهم في التغییر؟
- خطاب التغيير يجب أن يكون إنسانياً وعادلا في بنيته النظرية، ومتجاوزاً للمشاكل بالحلول، ناقدا للواقع بالبديل، في خطته العملية. بهذه الشروط يمكنه أن يكون مؤثرا في التغيير من الأسوأ إلى الأحسن لأنه سيكون في تلك الحالة نموذجاً للأفضل وأدعى للقبول. ولهذا فإن دراسات التحليل النقدي للخطاب في الوقت الحالي باتت تميل لاتجاهات النقد التدخلي الذي يركز على البدائل والنماذج الناجحة ولو كانت شعبية وفردية، بدل النقد التفكيكي الذي يهتم بكشف بنى المشاكل الاجتماعية وإساءات السلطات بكافة أنواعها. ومن الممكن والأفضل الجمع بين النقدين معا.
- هل تعتقد بأن الثقافة بإمکانها أن تعالج جراح الواقع الذي قامت السیاسة بتأزیمه؟
- الثقافة تعمل لكن بوتيرة نقاط الماء على الصخرة، ورغم ذلك لا مفرّ منها لمجتمع ينشد المعافاة من أدواء سياسات التباغض والتفرق والتقاتل على ضيق المكاسب بينما الوطن الغني الممتد يسع الجميع. نحتاج الثقافة لتوسيع حجم الكتلة الواعية في المجتمع الراغب في النهوض، ولخلق وشائج إنسانية تتعالى على الآني والضيّق والشخصي. وينبغي أن نأطر ساستنا على ذلك أطرا، لا أن نترك لهم دفة السلطة لتوجيهها وفق الهوى. الثقافة الواعية ببيئتها واحتياجات مجتمعها تستطيع أن تكون سلطة مهابة الجانب وجاذبة المنطق ومشروعة الهدف.
- في السنوات الأخیرة هاجرت عن السودان عقول کثیرة، وأنت واحد منهم، وجاءت الحرب فصار اللجوء ضرورة للكثير من المثقفين، هل تٶثر الهجرة علی تفاعل المثقف مع قضایا بلاده أم أن حساسیته تجاه بلاده ستزداد؟
- الهجرة الدائمة للعقول والأيادي الماهرة أسوأ ما يمكن أن تتكبّده أمة، ولا ينفصل الفردي عن الجماعي في هذا الأمر، فكذلك الإنسان في غربة المكان يخسر رويدا رويدا شيئا من ذاكرة الوطن لصالح أوطان بديلة ولو كانت مؤقتة، وأي فداحة لخسران الذاكرة؟ غير أن الخوف من هذا المصير يدفع بالمهاجر الوفي إلى مدافعة هجوم الغربة بالشوق، ولكل أحد طريقته الخاصة في الاشتياق، فكنت مثلا أعجب من نفسي عند رؤية غرباء في المهجر تتشابه ملامحهم مع أقرباء في الوطن لتتداعى بعدها ذكريات الارتباط بالأرض ومسقط الرأس. وهكذا يمكن أن تحرك الغربة ما ظننته وطنا منسيا، فما بالك بكاتب تربطه عرى شخصيات ولو كانت خيالية، استمد إلهامها من تجارب الحياة في بلده.
- ليس من باب الهروب من الواقع، ولكن.. دعني أعود بك إلى الذكريات الأولى، فالذكريات زاد الكاتب في رحلة الحكايات، وأنت قد أمضيت طفولتك بين مدينتين تمثلان رمزا للثقافة السودانية، ود مدني وأم درمان، ولا شك أنهما تمثلان جزءا من تكوينك ومسرحا لعوالمك القصصية، ذكريات الكاتب لها أهمية تفسيرية لأعماله الإبداعية أيضا، سيجموند فرويد يُرجع كل شيء إلى مرحلة الطفولة، بدرجة أقرب إلى الهوس، ونحن في السودان كما يقول صديقنا الأديب الفريد عبد الغني كرم الله، نتجاهل الطفولة في كتاباتنا، حدثنا عن طفولتك، وعما تعتقد بأن له صدى في كتابتك الإبداعية؟
- أنا متناسٍ... حسام نادر على طريقته، أنا كائن متناسٍ لأبعد الحدود، أعيش معضلة حقيقية مع الذكريات، ربما يكون هذا سبباً وجيهاً للبحث عن قلم وورقة لكتابة شيء ما، ليبقى دون أن تفقده ذاكرتي متسارعة النسيان .. لو قلت لك أني لا أذكر طفولتي على وجه التحديد فأرجو أن تصدقني.. ربما يكون للاستقرار يد في هذا النسيان، على كل حال كانت طفولتي هادئة، الجو العائلي من حولي جميل رغم أنه كان بسيطا لأبعد الحدود.. البيت الذي قضيت فيه طفولتي لم أعرف أنه لم يكن بيتنا إلا عندما كبرت.. كانت علاقاتنا في حي العباسية أكبر من (حقّ الإيجار) يدفعه المستأجر كل شهر، ربما كانت كتاباتي عبارة عن (تجريدة عسكرية) لاستعادة أراضي الطفولة التي تمنعت الذاكرة عن السماح لي برؤيتها مرة أخرى، لذلك تجد كل أو أغلب شخصيات قصصي وروايتي يعيشون في أم درمان.
- متى اكتشفت نفسك كاتبا قصصيا، هل احتاج الأمر إلى مراقب خارجي ليوجه ميولك؟، أسألك هذا السؤال لأن الكثيرين يعانون من فقدان الهوية الإبداعية، وما أعنيه بالهوية الإبداعية، هو أن يكون للشخص انتماء واضح إلى مجال ما، ويكون هذا الانتماء العاطفي مصحوبا بخطوات عملية جادة وملحة من أجل الإبداع فيه، كيف اكتشف حسام موهبته وكيف سعى إلى تنميتها؟
- الكتابة رغبة خاصة جدا ويمكن أن تتحول إلى شيء بشع جدا إذا تدخل طرف آخر في توجيهها إملاءً أو قسرا، هي كتابة للذات قبل أن تكون كتابة للموضوع، كانت الكتابة في أول الأمر احتياج إلى مرآة أرى فيها نفسي ثم تحولت إلى شيء منير أمشي به في دروب الحياة المظلمة، وأخيرا أصبحت الكتابة بالنسبة لي هي العالم، هي الحياة، هي أنا، لذلك أحسّ بأني ناقص حينما لا أكتب.. وحينما يكون الأمر كذلك فلن تحتاج إلى شخص ما ليقول لك ستصبح كاتبا في يوم من الأيام، المؤكد أني كنت ميّالاً نحو الفن، وكنت أوقن في قرارة نفسي أن هذا هو طريقي.. كنت متنازعاً بالطبع بين عدة ميول.. وللغرابة عندما أردت دخول الجامعة كنت في مفترق طريقين أحدهما سيصيرني شيخا والآخر سيجعلني فنانا تشكيليا، لكني بدأت بالرسم، وقادني الرسم للكتابة، ومثلما أعتقد أن في داخل كل إنسان شاعر، كذلك فإن في داخل كل إنسان قاص، لكن قليلين من يسمحون لهذا القاص بأن يسيطر على شخصياتهم وميولهم، الوجود الطبيعي للحكاية عند كل إنسان هو البذرة التي تنبت داخل الكاتب وتيسر له الرغبة والظروف أن تنمو وتتحول إلى قدرة، إلى أن تتحول بعد ذلك إلى هواية أو احتراف.
- لا بد أنك قد قدمت الكثير من التضحيات لتكون كاتبا، وأنا هنا، لا أريد أن يكون حواري معك ثرثرة يراقبها القارئ من وراء حجاب، ولكن أريد أن أستخلص منك فلسفة ما، تحفز القارئ على المضي قدما في مشروعاته الخاصة، كنوع من الإلهام، ماذا تقول؟
- سيحدّثك العاجز عن الإمكانات والظروف، وسيحدّثك المؤمن عن الشغف.. اتبع شغفك تصل لمرادك.
- مجتمعنا السوداني مجتمع تقليدي، الناس لا يعتبرون الكتابة شيئا عظيما، إنهم يقدسون وظائف معينة، يستثمرون أوقاتهم وأموالهم بطريقة متشابهة، يقلدون بعضهم حتى في الأخطاء، هذا الكلام ليس عاما ولكن الغالبية تعيش هكذا، وأنت كمبدع تغرد أحيانا خارج سرب التقاليد، أذكر أنك هربت ليلة زفافك من بيت العائلة، هربا من الحناء وضجيج النسوان، كيف كانت مواجهة الأقارب والمحيطين بك لميولك إلى الكتابة، والتي يعتقد الكثيرون بأن من يعمل فيها قد تزوج بالفقر إلى الأبد؟
- (يضحك) واصلت الهروب يا صديقي.. عندما كنت أدرس الإدارة في جامعة الخرطوم بدأت أكتب في الصحف باسم شبه مستعار وكنت أخفي كتاباتي عن العائلة، كنت أريد أن تمرّ ميولي الحقيقية في الكتابة دون اعتراض، وكنت قبل أن أتخرج من الجامعة أعمل بصورة رسمية في صحيفة أسبوعية وبدون أن يعرف أحد من أسرتي، وبعد أن قايضت الرغبة الأسرية بالشهادة الجامعية فارقت تخصصي الأكاديمي منذ ذلك الوقت حتى الآن، لكن بعد الجامعة ظهر حسام الكاتب للعلن ووجد كل ترحيب واحتفاء من الأهل والأصدقاء، رغم ما ذكرته من عدم اقتناع كثيرين بأن تتخذ الكتابة كمهنة تعتمد عليها في رزقك ورزق أولادك.
- المثقف السوداني يعاني من تهميش غريب، هل هو أشبه بالكلمة الشاذة في مسرح حياتنا، هل تعتقد بأن مأساة الفنان السوداني بهنس هي الجواب الشافي عن هذا السؤال؟
- أنا دائما لا أعفي المثقف من حالته الكارثية التي يعيشها مع نفسه ومع المجتمع، المثقف في مجتمعنا السوداني بات يفضل الاعتزال الحقيقي وليس الشعوري فحسب، وهي أول هزيمة لمشروعه الثقافي الذي لم يصبح مطلبا للعامة، لا بأس من العزلة المؤقتة التي يعقبها الاندماج الواعي، لكن الملاحظ أن هذه العزلة تطول وأن الاندماج يقصر أو يكاد يكون معدوما.. هذه هي مشكلة المثقف في اعتقادي.
- في روايتك زيدان الزقزاق بعضا من معاناة المثقف، لقد كانت هذه الرواية تحولا في اتجاهك الكتابي الذي آثرت فيه القصة على ديوان العصر، كما يقولون، كنت ولادة زيدان مفاجئة بالنسبة إلي، لم أتخيل ذلك الشاب الهادئ الذي يتخلص من شخصياته في أقرب فرصة، سيصبر على عذابات الشخصيات الروائية الثرثارة، حدثنا عن زيدان ورفاقه، وكيف أثّرت هذه الرواية على مسيرتك كمبدع؟
- ولد زيدان الزقزاق من رحم قصة قصيرة جدا، كنت حينها أمارس نوعا من التجريب على القصة القصيرة جدا .. هذا النوع الأدبي المشاكس الذي ليس لديه وقت في أحيان كثيرة للاعتراف بالشخصيات أو أسمائها، لا وقت لديه لنمو الشخصية وتمامها، ففي غمرة هذا التجريب لأنسنة شخصيات القصة القصيرة جدا وجد زيدان الزقزاق هواءً منعشا ليتنفس، وحينها فشلت القصة القصيرة جدا وتحولت إلى رواية كاملة لم أكن أحلم بكتابتها، أكملتها في إحدى وعشرين يوما متصلة، وكانت هدية جليلة للقصة القصيرة جدا لن أنساها لها أبدا، أتاحت لي التجربة الدخول إلى عالم الرواية المهيب، كانت تجربة مفيدة لي للوقوف على الأخطاء التي وقعت فيها والتي كان من الممكن تجنبها لكتابة رواية جيدة، لكن على كل حال أنا سعيد بالتجربة وراضي بشكل عام عن شكلها ومعمارها بغض النظر عن المضمون والأسلوب.
- ما زلنا مع زيدان الزقزاق، لقد حظيت هذه الرواية باهتمام عربي وسوداني كبيرين، أكثر من مجموعتك القصصية: المتدحرجون من الخرطوم الصادرة عن دار وعد بالقاهرة، لقد شاركت بها الدار العربية للعلوم في عدة معارض، ولها قراء كثيرون، هل سيجعلك هذا أكثر اهتماما بالرواية في مشاريعك القادمة؟
- لولا زيدان الزقزاق لما اهتممت بكتابة الرواية، كانت الرواية دائما عندي مشاريع موقوفة لأجل غير مسمى، لكنها تحولت الآن إلى مشاريع جادة أعكف عليها، وربما ترى النور قريبا إن شاء الله.
- الأسماء السودانية بدأت تخترق الفضاء العربي، وقد كان ممثلنا الوحيد فيه، هو أديبنا العبقري الطيب صالح، الآن هنالك أسماء كثيرة معروفة عربيا، أنت منهم، هل ساهمت الأسماء السودانية التي لها علاقات بالصحافة العربية في الترويج للأدب السوداني، أم أن هذه الأسماء اكتفت بنجاحها الشخصي، وانفتحت على الإبداع العربي كنوع من رد الجميل ولخلق مزيد من الصداقات المفيدة؟
- كان الطيب صالح رحمه الله منصة انطلاق جيدة للآخرين ولم يكن سقفا كما يقول البعض، انطلق من نقطة الطيب صالح العديد من الكتاب السودانيين الذين بات ينظر إليهم العالم عموما والعربي خصوصا بكل احترام، مثل ليلى أبو العلا، وجمال محجوب، وأمير تاج السر، وطارق الطيب، وعبدالعزيز بركة ساكن، ومنصور الصويم، وغيرهم ممن استطاعت كتاباتهم الوصول إلى القارئ الأجنبي عبر لغته أو عبر الترجمة، وقد بدأ جيل من الشباب السوداني في كسر الطوق عن المنتج الأدبي السوداني، وأصبحت دور نشر عربية كثيرة تحتفي بكتابات الشباب السودانيين وتنشرها، ونراها تفوز في المسابقات والمنح الثقافية، كان هذا يحدث في الماضي لكنه بدأ يزداد في الحاضر وسيقوى في المستقبل، وفي الجانب الآخر أظن أن هناك دور للصحفيين السودانيين في الخارج في الترويج للأدب السوداني لكن المهم في الموضوع أن يسعى الأدباء السودانيون أنفسهم للانفتاح على الخارج، لقد حان وقت الملل من الانتظار في الهامش، للسودانيين إمكانات أدبية كبيرة ليكونوا مركزا جيدا للأدب الأفريقي والعربي، بالهوية الخلاسية التي ليست لأحد في المنطقة، لكننا ما زلنا نعبر عن الحالة السودانية العامة التي باتت تستسيغ(عجز القادرين على التمام).
- قبل سنوات كتب الأديب الكبير محمد خير عبد الله مقالا يتحدث فيه عن غياب القضايا العربية في السرد السوداني، هل تعتقد بأن نجاحك عربيا سيدفعك إلى كتابة موجهة للعرب، أو تقديم نظرة سودانية تفاعلية مع القضايا العربية؟
- أنا لست شيئا، بكل صراحة وصدق، وتجربتي محدودة للغاية وإن كانت كل أعمالي فعلا قد صدرت في عواصم عربية مشهورة بالأدب مثل بيروت والقاهرة، لكن ملاحظة القاص والأديب محمد خير عبد الله في مكانها، فما زالت الغالبية مشغولة بقضاياها السودانية وهي حالة أيضا عامة باتت تعتري كل حياتنا السودانية، وربما لهذا الانكفاء المضر أسباب كثيرة، لكن أيضا بدأ الوضع يتغير، وتجربة معتصم الشاعر مثلا خير دليل على هذا التغير، فمشروعه الروائي يمكن اعتباره في الأساس مشروع للمستقبل العربي، أنا مع نظرية التفاعل المحلي المؤسس على المشترك الإنساني، والكتابة الموجهة عموما يحكمها اللسان الذي تكتب به، نحن نكتب في الأساس لقارئ عربي بغض النظر عن كونه في السودان أو خارجه، وإذا استطعنا حلحلة بعض إشكالاتنا مع الآخر العربي سنستطيع أن نخلق الاهتمام المتبادل، مثل مشكلة اللهجة السودانية والجهل العربي بالواقع السوداني وغيرها من القضايا ذات الصلة بانتشار نمط معين من الثقافة العربية يطغى على باقي الأنماط والمناطق.
- كيف يرى حسام الدين صالح العلاقة بين الشباب والمبدعين الكبار، هل هنالك حوار للأجيال المبدعة في مسرح الثقافة السودانية؟
- نتحدث كثيرا في السودان عن المجايلة وحوار الأجيال ويبقى مجرد حديث، لأن أول شروط هذا الحوار الإنصات ويعني فيما يعني منح فرصة للاستماع، فهل هذا متحقق؟ أضف إلى ذلك شرط القبول بالاختلاف ويعني أن أقبلك بكل اختلافاتك التي تمليها الموهبة والعصر قبل أن أحكم عليك بالرفض أو السماح، كل هذه الشروط غير المتحققة تجعل من العلاقة بين المبدعين الشباب والكبار متوترة وغير مفضية إلى ثراء متبادل، ورغم ذلك لن يفر الشباب من حكم التراكم الذي يقتضي الإبداع على ما بعد الإسهام القديم للكبار.
- الأديب والناقد الراحل عيسى الحلو، وهو من الأسماء المهمة في الثقافة السودانية، وقد عاش عمره المديد في خدمة الصحافة الثقافية، وكان ناقدا ومحررا صعب الارضاء، وكان النشر في ملفه الثقافي بمثابة اعتراف بالكاتب، عيسى يقول بأن موسم الهجرة صارت سقفا للأدب السوداني، هل تعتقد بصدق هذه الكلمة، أم أن نقادنا تكاسلوا عن اكتشاف جماليات أخرى مطروحة في المشهد الروائي، وهل أنتم كشباب قادرون على بناء سقوفكم الخاصة؟
- عيسى الحلو يمثل علامة بارزة في المشهد الإبداعي والثقافي في السودان، ووفاؤه للعمل الصحافي الثقافي يعد مضربا للمثل، لكن هذا الحكم بـ(التسقيف) حكم قاس وخيالي بل وينتمي إلى عالم الغيب أيضا: أن تحكم على مشهد إبداعي بأنه وصل سقفه النهائي، نحن نتعامل مع إبداع لا محدود لا يعترف أصلا بحكاية الأسقف هذه، كلنا نعرف ونقدّر أن يمثّل أديب ما نقطة انطلاق لمن يأتي بعده، لكن أن نصل نهاية الإبداع بـ(التسقيف) فهذا وحده ما ينافس أسطورة (نهاية التاريخ) السياسية التي أطلقها الأمريكيون وصدقوها.
- الطيب صالح كان يكتب ليمد جسورا إلى ثقافته التي بعُد عنها، إبراهيم إسحق يقول بأنه قابل طفلا في العاشرة فأخبره عن حدث في القرية، وأعتبر نفسه قد صار عرضحالجيا لعائلة كباشي، و مع صعوبة النشر في السودان، واعتماد دور النشر العربية على نفقة الكاتب، ما هو الشيء الملح الذي يجعلك تكتب؟
- الرغبة الملحّة في العيش.. الرغبة الملحة في الاكتمال الذي لا يكتمل أبدا.. هذا هو قدر الإنسان، أن يحاول أن يكون كاملا.. ستفشل بكل تأكيد ولهذا تصبح الكتابة ملحة لأنها ترصد هذه المحاولات الجميلة في الفشل.. في الأمل..
- كثيرا ما يُسأل الكاتب عن علاقة مجال تخصصه بالكتابة، أنت درست الاقتصاد والإدارة بجامعة الخرطوم وعملت صحفيا، ومديرا لتحرير صحيفة المحرر، ومحررا عاما لجريدة حكايات، وواصلت دراستك العليا في الإعلام حتى حصلت على الدكتوراه، وتعمل الآن في وكالة أنباء، وأنا كقارئ أول لأعمالك، وجدتُ فيها صدى للصحافة صارخا، فقمر في رواية زيدان الزقزاق كانت صحافية، هذا عن الصحافة أما الاقتصاد فكان واضحا في كلماتك، تحب الجناس بكثرة، تستخدم أقل عدد من الحروف في الجملة الواحدة، كتبت القصة القصيرة ثم تحولت إلى القصة القصيرة جدا، هل لهذه الدرجة سرى فيك داء الاقتصاد، وما هي فلسفة اللغة عند حسام الدين صالح؟
- هذا هو داء العصر الذي نعيش فيه, اختلط مع كراهيتي للثرثرة وحبي للإيجاز، ما أجمل أن ترى العالم كله في قصة قصيرة، هل هذا ممكن؟ هذا ما تحاول الكتابة الإبداعية الإجابة عليه، وهو ما يمثل ميلي للقصة القصيرة والقصيرة جدا، حتى في الروايات، تستهويني الروايات القصيرة كالعجوز والبحر وامتداح الخالة ورجال تحت الشمس وغيرها، أما اللغة عندي فهي الكائن الأسطوري الحقيقي الذي أحاول الوصول إليه للسفر في عوالم الإبداع، لم أصل للغتي المطلوبة بعد، فلكل كاتب لغته التي يحاول الوصول إليها، اللغة كائن جميل يموت في القواميس ويعيش في الحياة اليومية، وما بين الحياة والموت تعيش اللغة الأدبية المكتوبة التي تحاول الفرار من القواميس الجامدة والقواميس اليومية المعتادة.
- لا شك أن للحرب تداعيات في كل نواحي الحياة، الثقافة ليست استثناءً، خاصة إذا كانت الحرب شديدة الضراوة كالتي يعيشها السودان منذ أكثر من عام، في كل أجزائه تقريبا، لكننا نقول بأن الحياة لا بد أن تسير، إذا غضضنا الطرف عن مسألة الحرب قليلا، هل أنت راض عن الواقع الثقافي السوداني؟
- الواقع الثقافي في السودان يحتاج إلى ثورة حقيقية تطيح بالكثير من الأصنام، على مستوى المبدعين والدولة والمجتمع، ليس المال هو كل ما نفتقده، نفتقد الأفكار الجديدة والجريئة، نفتقد الأخلاق والنزاهة، نفتقد التكاتف والتواصل، نفتقد المجتمع الذي يودع الأمية إلى غير رجعة.
- ما هي مشاريعك الإبداعية القادمة؟
- لديّ أكثر من مجموعة قصصية تبحث عن كوّة للنشر، وأمنّي نفسي بالاشتغال على عدة مشاريع روائية، أولها إكمال حكاية زيدان الزقزاق.
0 تعليقات