بدأ الروائي والطبيب السوداني المقيم بقطر د. أمير تاج السرّ الكتابة مبكراً بكتابة القصص البوليسية في طفولته. ثم الشعر العامّي في المرحلة المتوسطة؛ وغنى المطربون بعض قصائده آنذاك. فأصدر دواوين الشعر العامّي قبل أن ينشر أول أشعاره العربية الفصيحة في العام 1985.

نُشرت قصائده في الصحف والمجلات، مثل: (القاهرة) و(إبداع) و(المجلة) و(الشرق الأوسط). وأطلق روايته الأولى (كرمكول) في أيام دراسته بالقاهرة 1997، مُسمَّاةً على قريته، ومسقط رأسه. ثم انقطع بعدها عن الكتابة لسنوات طويلة؛ لانشغاله بممارسة الطب والهجرة بعد تخرجه.

استأنف مشروعه الإبداعي بعد عشر سنين، ونشر روايته الثانية (سماء بلون الياقوت) ثم تتالت سردياته: (نار الزغاريد)، و(مرايا ساحلية)، و(سيرة الوجع) التي نشرت مُسلسلة في جريدة (الوطن) القطرية، ثم (صيد الحضرمية)، و(عيون المهاجر). ثم روايته التاريخية الضخمة (مهر الصياح). ثم أتبعها برواية (زحف النمل) التي حقَّقت أكبر المبيعات في معرض القاهرة للكتاب الذي تزامنت معه. ثم واصل صعوده فأصدر (توترات القبطي) و(366) التي فازت بجائزة كتارا القطرية لدورة 2016، و(صائد اليرقات)، و(العطر الفرنسي)، و(زهور تأكلها النار) و(أرض السودان، الحلو والمر)، و(إيبولا 76)، و(طقس)، و(اشتهاء)، و(منتجع الساحرات).. وغيرها من المنجزات.

تُرجمت رواياته إلى الفرنسية والإنجليزية والإيطالية والإسبانية والفارسية، ووصلت روايته (العطر الفرنسي) للقائمة الطويلة لجائزة الأدب العالمي المترجم 2016، ووصلت أعماله إلى القائمتين الطويلة والقصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر) عدة مرات، مثل (366) و(منتجع الساحرات). كما رشحت أعماله في قوائم جائزة الشيخ زايد للكتاب عدة مرات. وفي هذه اللقطات الحوارية، نكون على قاب قوسين من ذاته وخاطره.

 نبدأ من حيث أمير الشاعر، ابتدأت التجربة الإبداعية لديك بالشعر قبل أن تنحاز إلى السرد والرواية. ما هو السر؟ 

د. أمير تاج السر: لا يوجد سر في ذلك، فقد اكتشفت قدرتي على كتابة الشعر مبكراً، وأنا في المرحلة المتوسطة بمدينة الأبيض، شمال كردفان حيث كنا نقيم بسبب عمل الوالد. كنت أردّد أغنية للراحل زيدان إبراهيم، وأنا أقود دراجتي في الطريق إلى المدرسة، نسيت كلمات الأغنية، فأكملتها من عندي بكلمات وردت إلى ذهني، وحين وصلت المدرسة دونتها في الورق بفرح، وقرأتها لزملائي، في اليوم التالي كتبت قصيدة أخرى، وهكذا حتى سميت شاعراً، واستمر الشغف بالشعر حتى السنة النهائية في الجامعة، في مصر عندما أحسست بتشجيع من أساتذة كبار بإمكانية أن أكتب رواية، وهكذا انطلق المشروع السردي.

كيف ترى التخييل من الصورة الشعرية إلى المشهد السردي، بعبارة أُخرى؛ استناد الروائي الشاعر على العبارة السردية الشعرية هل يُعتبر كسباً للروائي من إتقانه للشعر؟ 

د. أمير تاج السر: نعم أكيد، في رأيي الروائي الشاعر أكثر قدرة على التحليق في الخيال، واستدعاء الصور الجمالية، لذلك تكون الكتابة أكثر سلاسة. هناك قراء لا يحبون ذلك، وهذه ليست مشكلة على الإطلاق.

يُلاحَظ أنك مُكثِرٌ في كتابة الرواية وحاضرٌ في المشهد الأدبي بالعناوين الجديدة دائماً. يقودنا هذا النشاط إلى السؤال عن الفجوة الزمنية التي توقفتَ فيها عن الكتابة لمدة عشر سنوات. 

د. أمير تاج السر: كنت أعمل في مهنتي في السودان بعد تخرجي من الجامعة ولم أكن أملك دقيقة واحدة، أستغلها في الكتابة، آخر الليل كنت أقرأ في الكتب التي أحضرتها معي من مصر، لمدة ساعة، ولا وقت آخر سوى للمهنة. بعد ذلك اغتربت في قطر، وجلست سنوات عدة قبل أن أعاود نشاطي الكتابي مرة أخرى، وأنا مستمر، كلما وجدت فرصة للكتابة وكانت عندي فكرة، كتبتها، ولا أهتم بما يقوله البعض من أنني غزير الإنتاج، هذه الجملة لا تردّد إلا عندنا، لأن الكاتب في النهاية موظف في حرفة الكتابة، ولا غرابة إن أنتج فيها.

دلالة الأحرف الأولى لشخصية الروائي (أ. ت) في رواية (صائد اليرقات) قادت كثيراً من القراء إلى تبنِّي فرضية أو احتمال أن أمير تاج السر يروي عن نفسه مُرمِّزاً بالأحرف الأولى من اسمه. هل يمكننا اعتبار أن هذا الاحتمال جزء ممتد من الرواية كُتب بدهاء؟ 

د. أمير تاج السر: نعم، (أ. ت) فيه شيء مني، طقوسه في الكتابة بعضها يشبه طقوسي، وقد نوهت مراراً إلى أن الكاتب لا بد أن يضع شيئاً من حياته التي عاشها ويعرفها داخل نصوصه.

أمير تاج السر كاتب المقالات، هذه الإطلالات رفيعة المستوى عبر أوراق صحيفة (القدس العربي) اللندنية وغيرها من الصفحات ومواقع الشبكة التي تعرض نثار رؤاك في السرديات وتنظيرك المدندِن في عوالمها. هذه المقالات تمثِّل لونية كتابية نقدية إلى حدٍ ما. حدِّثنا عن التنظير عبر هذه الشرفة، وعن علاقة أمير الروائي بالنقّاد. 

د. أمير تاج السر: هي ليست نقداً بقدر ما هي وجهات نظر أحملها وأشاركها الآخرين، وحقيقة كتبت المقالات، وبعض المواقف مبكراً، ومن تلك المقالات خرجت حكايات كنت كتبتها عن فترة عملي في طوكر، جمعتها في كتاب (سيرة الوجع) الذي نجح، والآن يتم تدريسه لطلاب البكالوريا الفرنسية في المغرب، أيضاً جمعت مقالات عديدة أصدرت منها خمس كتب حتى الآن، وعندي ما يمكن أن أصدر منه كتابين آخرين.

انتزاع رواياتك لرضا الأعضاء في لجان التحكيم هو من مثيرات الإعجاب. دعنا نسأل عن سر الوصفة الناجحة التي تضفي على الرواية مذاقها في مطبخ أمير تاج السر؟ 

د. أمير تاج السر: لا شيء محدّد، أنا توصّلت لأسلوبي الشخصي، مبكراً، وهو كتابة الواقعية الغرائبية، والمزج بين الواقع والأسطورة والأخذ من الميثولوجيا الشعبية، مع استخدام رائحة الشعر. هذا أسلوب اخترته وأحبه، وقطعاً يجد هوى لدى البعض، وأيضاً لا يجد هوى لدى البعض الآخر.

سؤال مستهلك نطرحه لمزيد استهلاك؛ عن المقارنة بين المؤلف العربي والمؤلف الغربي، لماذا يعيش كُتَّاب الغرب في رغدٍ من ريع النشر، بينما تُمارَس الكتابة في الوطن العربي مثل همٍّ ثقافي لا للربح؟ 

د. أمير تاج السر: هو هكذا، وأجبنا على هذا السؤال عشرات المرات، الكتابة في بلاد العرب غالباً بلا جدوى، وقليل من تبتسم له ويحظى بإيراد ثابت، والجوائز حين تأتي، تعتبر تعويضاً مناسباً لذلك تجد ضغطاً كبيراً على الجوائز والتقديم لها. أنا كنت محظوظا حين دخلت كتبي للتعليم وقرر بعضها في مناهج عديدة منها المنهج البريطاني، الذي دخلته رواية صائد اليرقات، وبالرغم من ذلك لا عائد كبير. ثمة شيء مفقود بين المنطق واللا منطق، لا أعرفه حقيقة.

قائمة طويلة هي سجل الأطباء الأدباء منذ ما قبل ابن سينا وإلى يوسف إدريس ونبيل فاروق وأحمد خالد توفيق، وغيرهم ممن لا يمكن حصرهم. ما علاقة الأدب بالطب؟ 

أمير تاج السر: وهذا أيضاً سؤال تمت الإجابة عليه عشرات المرات ونقول دائماً، لا علاقة بين هذا وذاك، هي مجرد مصادفات، أن يخرج من بين الأطباء كاتب، أو يدرس كاتب الطب كما حدث في حالتي، أنا أكتب قبل دراسة الطب، عموماً الطب يمدّنا بالحكايات والعوالم المختلفة والشخوص، وهذا ما يفيد في الكتابة.

نشرتَ عبر دور نشر كثيرة، مثل (هاشيت أنطوان) و(الدار العربية للعلوم ناشرون) و(تويا) و(اختلاف) و(ضفاف) و(الساقي) و(أثر) و(ثقافة) و(بلومزبري)، و(العين)، و(الآداب) وغيرها... هذا التجوال يدفعنا إلى الخوض في انطباعك عن النشر في الوطن العربي. 

د. أمير تاج السر: في بداياتي كان عليّ أن أدفع لدور النشر كي تنشر لي، وحدث ذلك في روايتي الأولى والثانية والثالثة، وتغيّر الوضع بعد ذلك، الآن أنشر بشروطي، وحيث أرغب، لذلك أعطي أعمالي لدور متنوعة بغرض تنويع النشر، لكن عموماً هاشيت أنطوان هي المحطة التي أتكئ في ظلها الآن.

دفع الجيل الجديد من المؤلفين - خصوصاً في مصر - الرواية في فضاء الفانتازيا وأدب الرعب. مما جعل النقاد على فسطاطين بين القبول والرفض إزاء النمط الموضوعي لهذا النوع من الرواية. من الذي يحدَّد المضامين؟ الروائي أم الناقد أم القارئ أم العصر؟ وما هي المحدِّدات الحاكمة لتميُّز عصر ما بالرواية التاريخية؟ وعصر آخر برواية البطل الواحد؟ ورواية الملحمة والميثولوجيا، وغيرها؟ 

د. أمير تاج السر: سؤال مهم، وأقول لك لا أحد يستطيع أن يتحكّم في تذوّق الناس للكتابة بمختلف أنواعها، في أي زمن تنجح أعمال من جميع المستويات، ولا تنجح أعمال أخرى، وحتى الآن، وفي هذا الزمن المتخم بالوقائع المرعبة والهلع، واللامعقول، يمكن أن تنجح رواية رومانسية، وأعتقد روايتي (366) التي تتحدث عن العشق، نجحت كثيراً.

رواية الطيب صالح (موسم الهجرة إلى الشمال) هي مثل الرقم الصعب والمُرتقَى الوعر، أو السقف الذي لم يدركه مؤلف للرواية في السودان؛ وهذا من حيث النصيب في العالمية. حتى اجتالت هذه المكانة التي احتلتها الرواية تفسيرات كثيرة. بالمقابل، كيف نفسر محليَّة الرواية السودانية - غالباً - وعدم امتلاكها لجناحين يحملانها للتحليق في المحيط العربي بَلْهَ العالمي؟ 

د. أمير تاج السر: هذا السؤال عن السقف لا أحبذه، وقلت مراراً، إن طرحه في هذا الزمن غير مجد، أنا لست تحت سقف، ووصلت أعمالي لعشر لغات الآن، وهناك غيري من الكتاب السودانيين، وصلوا للقارئ العربي والعالمي أيضاً وحصلوا على جوائز مثل بشرى الفاضل، وبركة ساكن ومنصور الصويم والحسن بكري، وبثينة خضر.

ندلف إلى حيز المكان في روايات أمير تاج السر؛ أحياء الكرتون في رواية (إيبولا 76)، والبلدة الشرقية في رواية (اشتهاء)، ومدينة السور في الحدود السودانية - المصرية في رواية (زهور تأكلها النار)... وغيرها من الأحياز المكانية. هل تعتبر أن المكان يسقي الرواية؟ أم أنه بمثابة المسرح للشخصيات والأحداث؟ 

أمير تاج السر: المكان في رأيي هو هوية الرواية فحيث تدور الأحداث يمكنك أن تعثر على الهوية، وهذا موضوع ناقشناه في ملتقى فلسطين الثالث للرواية، وعندي أماكن مختارة للروايات، بعضها واقعي مثل مدينة بورتسودان، وطوكر، وأنزارا في الجنوب، وبعضها متخيّل مثل سلطنة قير في جزء مؤلم من حكاية.

هل يمكننا أن نقرأ روايتك (366) ضمن تصنيف الرسائل الأدبية؟

د. أمير تاج السر: طبعاً وكتب عنها النقاد من هذه الصفة، أي صفة الرسائل.

كتب أحد قرائك في موقع (Goodreads) معلِّقاً على كتابك (ضغط الكتابة وسكرها، كتابات في الثقافة والحياة) ما نصَّه: «هنا وبهذه المصداقية التي لا أشكُّ بكل حرف نطق بكمالها، ستجد الحبل السري الذي يربط تاج السر بالكتابة، هذه المشاركة التي يقدِّرها القارئ بقدر استفادته منها. كل مقال عبارة عن انعكاس متحرك لواقع ساكن، إن صحَّ التعبير، فهو يمنحك رأيه حول مواضيع تهمك أيها القارئ وأيها المحب للكتابة - دون أي صعوبة تذكر - فاشتغاله النقدي مُبسَّط لتدلِّل نفسك بفهم مشاعره وتأييدها، ورغم إنها مليئة بنصائح تربوية أدبية صارمة إلا أنه يسحبك لمنطقته بهدوء تام، مقالات تُقرأ بفرح لأنها كُتبت بفرح! لن تفارقك البسمة لأنك المعنِّي الأول بكل كلمة كُتبت بهذه المقالات ولست أبدًا ببعيد عن المواضيع التي تدور حولها». أوردنا التعليق على طولِه لنصطاد ما ينضحه القلم من ردٍ بمحاذاة قارئٍ يقرُّ بأبوة أمير تاج السر لقبيلة الناشئين في منابت الكتابة. 

أمير تاج السر: شكراً للقارئ، وأنا حقيقة من الكتاب المحبين لصداقة القراء، ودائماً عندي أصدقاء أقرأ معهم وأبادلهم الآراء، ولم يحدث أن تعاليت على قارئ، وأعرف تماماً أنك تكتب وتبحث عن قارئ لما تكتبه، وتلك المقالات أكتبها بتلقائية، وأعتبرها وجهات نظر كما قلت لك، وإن أفادت أحداً، فهذا شيء يسعدني.

ما الذي أردت أن تعكسه عبر روايتك الحديثة (غضب وكنداكات) عن ثورة ديسمبر السودانية المجيدة؟ وكيف تستشرف الآفاق الثقافية عقِب الثورة؟

د. أمير تاج السر: نعم، غضب وكنداكات، سرد متخيّل لما حدث في ديسمبر 2019، حيث تنفسنا الحرية، وهي تحية مني للشعب السوداني كله، تحية للشباب الذي كافح وانتصر، للنساء المحاربات الجميلات، للشهداء الذي رحلوا وبقوا مصابيح تنير الطريق، وكنت أتمنى أن تصدر الطبعة السودانية التي اتفقنا عليها، لولا ظروف الوباء، عموماً أتمنى أن يقرأ الأصدقاء في السودان قريباً.

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم