هاني نديم/ شاعر و كاتب سوري

إلى الذين يكرهوني:

"أنا أسف من كل قلبي لأجلكم، أعطوني نصف فرصة لأحبكم، أنا صادق بهذا، إنه ليس من باب الإنشاء والتغني باللغة".

إلى الذين يحبونني:

"لطالما فكرتُ بكم، وما توقفتُ يوماً عن التفكير بطريقة أو بأخرى لتقديم السعادة لكم، ولطالما رقصتُ لكم في غيابكم، ودائماً أفكر لو أنّ لدي مال وافر لدعوتكم جميعاً على حفلة عشاء تفوق الدعوة التي أقامها شاه إيران أو ملوك فرنسا وبريطانيا في العصور القديمة".

إلى الحياة:

بعيداً عن هذا وذاك يود المرء في لحظات لو أنه يضمّ العالم بكل ما فيه، من أعداء وأصدقاء، فكل شيء زائل، وهذه الحياة ما هي إلّا تجربة كي تبدي رأيها بنا، دون أنْ نبدي رأينا بها".

هكذا يقول راهيم: لعل هذه المقدمة نافعة إلى حدٍّ ما في كتابة بورتريه عن راهيم الحساوي، الروائي السوري الخاص والمختلف، الغاضب.

لعل هذه المقدمة نافعة إلى حدٍّ ما في كتابة بورتريه عن راهيم الحساوي، الروائي السوري الخاص والمختلف، الغاضب، المكثف، الذي أراه من أصدق كتابنا ممن مروا بمختبر الحرب السورية القاسية التي لم تبق ولم تذر، فهو لا يجمّل ما جرى ولا يتحايل على ما تبقّى، لا يقيم الأمسيات ولا الحوارات، غاضب بشكل دائم ومجروح في العمق من بذاءات هذه الحياة، أحب شخصه كما أحب كتاباته الخاصة المبنية على تراكمه الفني وإرث لغوي غير موروث إن جاز التعبير. إنه هو، بقضّه وقضيضه، بوضوحه وغموضه.

هذه هي المرة الثانية التي أكتب فيها عن راهيم الحساوي، وذلك في مستهل حوارات طويلة جرت بيني وبينه حول الأدب والحياة والعنفوان الطافح الذي يلتصق بالجنون في مساحات كثيرة.

في حقيقة الأمر أنا مولعٌ بتلك الشخصيات التي تحمي هشاشتها بعنف، فلا يمكن الاقتراب منها أو التصوير، وقد حاورت عدداً منهم في مشروعٍ متصل، قد يكون مشروع كتاب لاحقاً. خضير ميري، رشيد بوجدرة، راهيم الحساوي، حسين نعمة، وغيرهم، ذلك لأنني أعمل في الصحافة الثقافية وأعرف أن هذا النسق من الكتّاب مهجورٌ في منطقتنا، مرهوب الجانب، لا يحتك به الصحافيون ممن يريدون سلّتهم بلا معالق، بينما في أوروبا يشكّلون مادةً أولى للصحافة.

أنا لا أحب الطرافة كنسق، أحب الجدّية والتجهّم وإن كنت أمارس الطرافة بشكل شخصي لدحض تهمة النكد عني، وإن كنت لا أستطيع أن أكون إلا ضاحكاً باسماً، إلا أنني أحب من لا يهادن في هذا، وراهيم الحساوي منهم، يقول "رافائيل سانشيز فرلوسيو" في كتابه الشهير "القادم أسوأ" إن المتجهمين أو من نصفهم بذوي الكراهة والعبسة والقنوط والثقل هم أكثر صدقاً من المتظارفين ممن لا يتخذون من الطرفة نهجاً عاماً كما سبق بل يتخذونها للاستعراض".

يعتمد راهيم على حسّه وغريزته في الكتابة أيضاً فيكره صفحةً ويحب أخرى بتوتر وتواتر وتنازع بين القطع العنيف والسرد الهادئ، هذا يبدو في رواياته وكتاباته العامة، إلا أنه لديه دوماً ما يحاول أن يزعزعه، أو على الأقل يحرّكه، سألته: هل يسعدك أن تحطم الثوابت وتزعزع اليقين؟، طبعاً لن يفاجئ أحداً أنه قال: "بالطبع نعم، هذا فيما يخص الثوابت، أمّا فيما يخص اليقين فإني أسعى للوصول إليه لا لزعزعته، فاليقين إيمان، وهو من يدفعنا لتحطيم الثوابت".

ما يؤرقني دوماً في تلك الشخصيات، هي جوهرها الطيّب، فلماذا يبدون بتلك الشراسة؟ هل يحمون هشاشتهم؟ يقول راهيم: "يتبادر إلى ذهني دون قصد أولئك الطيبون الذين لا حول لهم ولا قوة، فأتقمصهم، وكأنّ الواحد منهم في مكاني، فأتكاثر باسمي واسمهم وأدافع عنهم في وجه الذين رفضوا الطيبة، وأكثر ما يثير استغرابي أنّ بعض البشر مازال يعتقد أنّ الشجاعة والطيبة لا تلتقيان، فهم ينظرون للطيبة على أنها مثل المهاتما غاندي، رجل كبير بثياب بيضاء ووجه سمح، أنا لا أحب هذا الصنف من الطيبة، فأصحابها يسعون للمجد أكثر من سعيهم لتصوير الحقيقة بأدنى درجاتها على الأقل، ويبدون مثل حمامات السلام التي ما هي سوى فخاخ ماكرة يكمن وراءها الكثير من حبّ الذات، وقد تطرّق نيتشه تطرق لهذا الجانب بطريقة أو بأخرى، أنا يا عزيزي لو كنتُ أنانياً لاستطعتُ أنْ أبدو بأجمل صورة، ولا ينقصني الذكاء أو الدهاء، ولدي من خبرة الحياة ما يكفيني، كل ما أريده أنْ أكون شاهداً على ما أراه، وعلى ما يحدث أمامي، وأتصرف بناءً على هذا، ضارباً عرض الحائط ما يقوله الناس، والناس ممتعون بهذا الجانب، على الرغم من أني دفعتُ الكثير من الضرائب والأسى، والكثير من الخيبة".

في مثل تلك الإضاءات لا أحب أن استدل على الكاتب من أعماله، ولا أحب أن يبدو الأمر إحالة لقراءة أعمال من أكتب عنه، الحساوي من وجهة نظري، يؤخذ بالكلّية بسمته وقلمه وكتابته وصمته، قلق ونزق ومتوجس ومتشكك، سألته هل هذا صحيح؟، فقال: "نعم صحيح، إنه مرض عضال، لكنه كوميدي في بعض الأحيان، وهذا جيد! السبب يكمن في فرط الخيال، ومعرفة النفوس لدرجة قد تبدو مبالغ بها، ترهقني النفس البشرية، وأستشف الأشياء قبل حدوثها، وتراني أبدو مستغرباً من مسألة لم تحدث رغم يقيني بأنها ستحدث، وهذا يقلقني، وينتابني شك بأنها حدثتْ دون الإفصاح عنها، ودون دليل، كالكراهية المضمرة، وكالإعجاب الذي ينقلب إلى انتقام".

لدى هؤلاء فلسفتهم الخاصة، النزقون والغاضبون، من يعدون الابتسامة مهادنة وتواطؤ، ويرون أن الحياة أكثر جدية من إشارة أو تلميح، لكن لماذا يكتبون! دوماً ما أسأل نفسي، يقول راهيم: "بطبيعة الحال لا أحب الكتابة كثيراً، لكني لا أكرهها، مع يقيني أنها وسيلة جيدة لمحاولة رصد الحياة والنفوس، كما فعل شكسبير في مسرحية هاملت، في مشهد داخل مشهد، حين قام بعرضه أمام أمه وعمه ومن معهم لمعرفة قاتل أبيه، وكأنه فعل ذلك ليلقي القبض على نظراتهم، وما يجول في نفوسهم بما يتعلق بتلميحاته عن مقتل أبيه، كذلك كتابة الرواية وما يتضمنها".

في إجابةٍ حاسمة لقولي له كصديقٍ أحبه: العلاقات العامة جزء من العمل، لماذا لا تهادن؟ يقول: "لا أستطيع، أفضّل الاستسلام على المهادنة". راهيم يكره بوكوفسكي ويشك بعفويته، كما أفعل أنا، ولا يحبذ أولئك الذين يقلدونه، يقف لحظة ويستدير ويقول لي: "في حال كنت تُلمح إلى أنّ ثمة شبه ما بيني وبينه، فاسمح لي أنْ أجيبك بعبارة وردتْ في روايتي القادمة الكعب الأبهر" إذ أقول: الذين يشبهون بعضهم بعضاً لا يحبون بعضهم، مع التأكيد أني لا أشبهه، أنا أحب محمد علي كلاي، أعلق صورته في كل مكان أسكنه، إنه ممتع وشغوف وحالم، والأهم من هذا كله جملته الرائعة حين حقق بطولة العالم: ألم أقل لكم أنني الأعظم، هذ حدث نوعاً ما في روايتي "الباندا" حين قال عاصم التل: كل شيء واضح كبياض وسواد وحجم دب الباندا المهدد بالانقراض، قال ذلك ثم انتحر".

الكعب الأبهر، يا له من عنوان نرجسي هائل، إن كان كعبه فيه أبهر فما حال قلبه، لعله ليس نرجسياً، لعله يشير إلى أنه قلب كامل، كله قلب رغم غضبه الطافح مرات.

يحلم راهيم بمعهد صغير لتعليم الشطرنج للأطفال واليافعين بعد أن يبلغ الخمسين، فهو لاعب مخضرم في تلك اللعبة. يقول: "أنا على استعداد دائم لأن أعمل مجاناً وفي قتال وآمال بأن يصبح الشطرنج مادة أساسية في المدراس، كما حصة الرسم والرياضة".

في برلين الصاخبة يقول راهيم إنها مدينة أخذت منه الكثير من الدموع والحنين شوقاً وحباً للأهل والبلاد، ولكنها أعطته رواية ممر المشاة، أما الأدب فقد أخذ من راهيم حديقته ومنحه غابته. هكذا يردد دوماً. أما ماذا يريد وإلى أين البلوغ، يجب بكل وجودية تليق به: "لقد وصلت، منذ ولدتني أمي! لقد ولدتُ يوم الثلاثاء وهذا كل ما في الأمر".

عن موقع نخيل عراقي


0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم