حوار: مصطفى تاج الدين الموسى

الأدب والإبداع الأدبي في أحد معانيه، وربما أهم معانيه، هو من أرقى أشكال الكفاح والنضال الإنساني، بهدف تغيير الحياة مما هي عليه إلى حالٍ أفضل، والمبدع هنا ليس مجرد شخص يجيد رصف الكلمات الجميلة إلى جانب بعضها، وإنما هو مقاتل له أسلحته الخاصة به، والخاصة بمعركة الأدب في ميادين الحياة، وهو صاحب رسالة، وتزداد أهمية رسالته في أزمنة الحروب، ومع اختلاف رؤية المبدعين تزداد رسالة الأدب غنىً وثراءً، حتى تؤسس لعوالم مثالية تسودها قيم العدالة والحرية والخير والسلام.

 نحاور الأديب والناقد "زياد الأحمد" حول رؤيته لأدب ما بعد الثورة، زياد الأحمد، من مواليد محافظة إدلب مدينة جسر الشغور، ويحمل إجازة في الآداب قسم اللغة العربية من جامعة حلب عام 1988، عمل ضيفنا كمدرس للغة العربية نحو 34 عاماً، كما عمل في الكثير من دور النشر والمنتديات الأدبية، وصدر له مجموعتان قصصيتان "الكرسي الدوار" في عام 1990، و مجموعة "أسرار زوجية لرجل عبد" عام 1997 ونشر عدة كتب وعشرات المقالات النقدية التي تبحث في طبيعة الأدب والتجارب الأدبية سواء في فن القصة أو الشعر والرواية، كما حازت أعماله الأدبية على عدة جوائز وشهادات تكريم.

  • لنبدأ بالسؤال الذي يوجه اليوم لكل الأدباء السوريين، هل سبق الأدب الثورة؟ أم أن الثورة سبقت الأدب؟ أم أنهما خاضا الحرب معاً جنباً إلى جنب؟ وكيف تأثرا ببعضهما؟
  •  العلاقةُ بين الأدبِ والثورةِ هي علاقةُ قرابةٍ، وحسبٍ ونسب، بل هي علاقةُ أمومةٍ تبادليةٍ، أي أن كلاً منهما أمٌ للآخر في مرحلة ما، ويمكن التحديدُ أكثرَ بأنها علاقةُ رضاعةٍ تبادلية، فالأدب يرضع الثوراتِ حين تكون جنيناً كامناً في رحم الأمة، وقد يحقن بذرتَها في هذا الرحم أحياناً، ثم يسقيها نسغَها وشراراتِها الأولى، يحقنها بمحرّضات طلق الولادة، ففي عصر التنوير وحركةِ النهضة في أوروبا كان الأدب والفن يقومان بدور رئيس في إحداث تغييراتٍ جذريةٍ في بنية التفكير الجمعي للغرب. وهنا نتذكر غوركي، تولستوي، دوستوفسكي، هوغو، همنغواي، أوستروفسكي وغيرَهم من رواد الأدب الثوري العالمي… هذه الشخصياتُ كان لها الدورُ الرئيسُ في التمهيد والتوجيه لثورات بلادهم. وبالنسبة للثورة السورية نقرأ قبل 2011 أعمالاً تُشرّح بنيةَ النظام لكنها غالباً غيرُ مباشرة، ولا شك أنها كانت ممنوعةً من قبل الرقابة.

 في هذه المرحلة إذاً يكون الأدب أمّاً ورحما للثورة.

بعد ذلك وما إن تولدُ الثورةُ حتى تبدأ هي أمومَتها ورضاعتها للأدب الذي أرضعها وجودَها، فتبدأ برفده بسيل من الموضوعاتٍ والأحداث والشخصيات والأفكار والعبر والرؤى، فالثورات تقدّم للأدب مادةً خصبةً وغنيّة للإبداع إضافةً إلى نقطة مهمة جداً هي أنها تقوم بتأمين جوِّ الحرية الملائمِ للإبداع، فما إن انطلقت ثوراتُ الربيع العربي حتى ترافقت مع بركان أدبي - وخاصة في الرواية- في مصر وليبيا وتونس

أما في سوريا فكان هناك البركان الأعظم لأدب الثورة، فعلى سبيل المثال في الرواية فقط كتب حتى اليوم ما يزيد على 400 عمل روائي بدءا من عبد الله المكسور ومرورا بخالد خليفة وسوسن جميل حسن ونبيل سليمان وهيثم حسين وشهلا العجيلي ومحمود حسن الجاسم وميشيل كيلو ووائل الزهراوي محمود الوهب عقاب يحيى وشعبان عبود وغيرهم وغيرهم . ما أريد قوله: لولا تلك الثورةُ لما عرفنا تلك الأعمال، فهي الرحم الحقيقي الذي أنجبها ومن هنا جاء قولي بأن العلاقةَ بين الثورة والأدب علاقةُ أمومةٍ ورضاعة تبادليّة

  •  برأيك، ما الذي ينقص الأدب ليكون ثورياً؟ وما الذي ينقص الثورة لتدخل الأدب؟
  • ما ينقصُ الأدبَ ليكونَ ثورياً شرطان أساسيان؛ الأولُ: وجودُ الأديب المسكونِ بالثورة، والرؤيةِ الثوريّة، المدجّجِ بالوعي لما يجبُ أن يثور عليه المجتمعُ، والشرط الثاني: هو مناخ الحرية الذي يسمح للأديب بنشر أفكاره فهذان الشرطان متكاملان، ولا وجود لأحدهما دون الآخر، مثلاً مع انعدام جو الحرية في بلادنا العربية اضمحل الأدب الثوري رغم وجودِ أدباءَ ثوريين، ولكن قلما سُمح لهم بإيصال صوتهم.

أما ما ينقص الثورةَ لتدخلَ الأدبَ فهو شرط واحد، وجود الأديب الواعي المسلح برؤية ثورية بعيدةِ المدى، فكل الثورات العالمية دخلت الأدب بأقلام أدباءَ من هذا النوع، ومثال ذلك الثورة البلشفية من الذي أدخلها إلى الأدب؟ مكسيم غوركي. وهذا ما فعله نجيب محفوظ مع ثورتي 1919 و1952.

  • تتعدد التسميات: أدب الحرب، أدب ما بعد الثورة، أدب الفاجعة، أدب اليأس، أدب المأساة، أدب الأنقاض...إلخ، كيف يمكن أن يصيغ المبدعون السوريون عناوين موحدة لهذا التيار الأدبي الجديد؟
  • مازال الوقتُ مبكراً لصياغة اسم موحد لأدب الحدث السوري، للأسف نقول ذلك بعدَ عشرِ سنوات، وذلك لاختلاف وجهات نظر ورؤى الأدباء حول ما يحدث، فبعد عشر سنوات من تخبط الثورة ولدت هذه التسمياتُ التي لم تكن في البداية الا اسما واحدا هو أدب الثورة السورية، ثم جاء اليائسون ومن لا يرَوْن الا الأنقاضَ، وجاء المخوّنون، وجاء عملاء النظام فوسموها بالإرهاب وخيانة الوطن، وخيانة القائد السرمدي الخالد، وغيرُهم، فصبغوا الثورة بأسمائهم، هذا الأدب سيكون له اسمٌ حين يرحل هذا النظامُ، وزبانيتُه وسيعرف العالم ما يسمى ( أدبُ الثورة السورية) 
  •  هل يحتاج الأدب الجديد إلى أديب عاش الظروف المأساوية للثورة من قصف ونزوج ولجوء... إلخ، إم يكفي الإيمان بمبادئ التغيير ليكون لدى المبدع أدب جديد؟
  • هذا السؤال لا يمكن الإجابةُ عنه بنعم أو لا، إذ لا إجابةَ مطلقةً عنه، فلو راجعنا الأعمالَ الأدبيةَ العالمية الخالدة التي رصدت الحروب والثورات؛ لوجدنا أغلبَ كتابها قد عايشوا الحدثَ والظروفَ المأساوية، ولنأخذ مثالا شولوخوف في روايته الدون الهادئ التي عايش فيها مأساة شعبه خلال الحرب العالمية الأولى، وجورج أوريل الذي شارك في الحرب الأهلية الاسبانية وخلدها في روايته الحنين إلى كاتالونيا، وأرنست همنغواي الذي شارك في الحرب العالمية الأولى والثانية وكتب أعمالا خالدة منها وداعا للسلاح ولمن تقرع الاجراس.
  • وبالمقابل نجد رواياتٍ كتبت بعد الحدث ولم يشارك صاحبُها فيه، ومنها أعمال ميلان كونديرا، ونجيب محفوظ في الثلاثية، وعبد الرحمن منيف خاصة في أرض السواد وكانت تلك الأعمال أيضا خالدة رغم أن كتابَها ما عاشوا ظروفها المأساوية

ما أريد قوله: الأديب الثوري يجب أن يكون منخرطاً بشكل أو بآخرَ ضمنَ الثورة، وأن يكون على احتكاك مباشر بها وبأحداثها، أو أن يعايشَ حياة الثوار، ليس بالضرورة أن يكون الأديب مشاركاً مباشراً في الثورة، ومعايشة الحدث، فمعايشةُ الحدث وحدها لا تكفي لأن الحدث عنصرٌ واحدٌ لا غيرَ من تقنيات كثيرة لعملية الإبداع؛ وليس العنصرَ الوحيدَ، ولهذا نجد مئاتِ الأعمال من أدب الثورة السورية ضحلةً هزيلةً مع أن كاتبَها قد عاش الحدثَ لكنّه يفتقر إلى تقنيات الكتابة الأدبية.  

  • بحسب اطلاعك على الإصدارات الأدبية في سنوات الحرب، هل اكتشفت أنه لدى الأدب السوري الآن مشروع إعادة انتاج هوية جديدة من أجل وطن جديد؟ وكيف ينتخب الأدب هوية جديدة؟
  • - تحدثنا قبل قليل عن أننا لم نتفق بعدُ على تسمية أدب الثورة السورية؛ وذلك لتعدد الرؤى ووجهاتِ النظر حول ماهيّة ما حدث فيها، فكيف سنتمكن من صياغة هُوية مشتركة، بالطبع هذا المشروعُ غيرُ موجود؛ لأننا لم نتفق بعد على صورة الوطن الجديد، فكيف سيقدم الادبُ صورةَ هوية جديدةٍ ( وكل في فلك يسبحون)؟
  • بعض الأدباء يعتبرون أن الغرب لا يترجم من أدبنا إلا ما يناسبه أو ما يندرج غالباً تحت فكرة "الاستشراق" ولكن ترجمت أعمال أدبية تناولت الحرب السورية بعدد جيد إلى لغات العالم، هل استطاع الأدب هنا إيصال صورة الواقع المأساوي للسوريين إلى الغرب؟ وكيف تفاعل الغرب مع هذا الأدب؟
  • انت تقول ترجم عددٌ جيدٌ من روايات الثورة، ولكن هناك سؤالان مَنْ الجهةُ التي ترجمت؟ وما جودةُ العمل المترجم؟

أولا الغرب لم يترجم، قلما كانت الترجمة عن طريق مؤسساتٍ ثقافيةٍ غربية، بل كانت نتيجةَ علاقاتٍ شخصية، فالسوريون اليوم تشتتوا في كل دول العالم على امتداد القارات الخمسِ، وكلّهم تعلموا لغاتِ البلاد التي آوتهم، فمن الطبيعي أن يكون لي أنا ككاتب خمسةُ أصدقاءَ في خمسِ دول لها خمسُ لغات، وأن أطلب من أصدقائي ترجمة رواية لي إلى لغاتهم الجديدة، والطباعة كما تعلمُ اليومَ مسألةٌ سهلةٌ، وتشرف عليها مؤسساتٌ تجاريةٌ هدفها الربحُ لا غيرَ، ولهذا نرى كثرةَ الأعمال التي ترجمت

 أما لو سألتني عن جودة الأعمال التي ترجمت؛ هنا سأضطر الى المقارنة بين مثالين مترجمين، ترجمت رواية (القوقعة) لمصطفى  خليفة إلى أكثرَ من عشر لغات، وهي بحقٍ عملٌ ينقلُ للعالم حقيقةَ النظام السوري ووحشيتَه في التعامل مع شعبه، ويسوّغ للشعب السوري أمام العالم الثورةَ على هذا النظام، وفي الوقت ذاته ترجمت روايةُ خالد خليفة (الموت عمل شاق) وهي من أقلِ أعمال خليفة أهميةً مقارنة بما كتبه قبلها، روايةٌ  تتحدث عن نقل جثة من دمشقَ الى حلبَ خلال  الثورة، ومرورها على حواجز النظام والمعارضة، والمعاناة التي لاقتها أسرةُ الفقيد خلال تلك الرحلة، هذه الرواية كما أرى لا تقدم صورةً حقيقيةً لحقيقة ما حدث في سوريا، ولا لحقيقة النظام؛ بل تنقل الكثير من فكر الجماعات المسلحة التي حرفت الثورة عن مسارها.  

باختصار هناك الكثيرُ من الأعمال المترجمة شوهت حقيقيةَ الثورة السوريّة، أمام العالم، لم تقدمها للعالم على أنها ثورةٌ على نظام غاشم، بل قدمتها على أنها حرب أهلية، او معاناةُ شعب أمام مجموعات إسلامية متطرفة، أو هي حربٌ طائفية، وبالتالي هذه الأعمال أساءت بشكل غير مباشر للثورة، فالأوربي الذي يعطف على كلب شارد فقد تعاطفَه مع ملايين الضحايا بعد أن أقنعوه زورا وبهتانا  بأنها حربٌ بين طرفين، ونسَوا أن أحد الطرفين كان في البداية أعزلَ، خرج بأغصان الزيتون طالباً رحيل هذا النظام الغاشم، وهذا ما عرّج عليه قصي أبو قويدر في روايته (امبراطورية العبيد)، حيث وضح فيها كيف لعب الاعلامُ دوراً في تشويه حقيقة الثورة السورية، ونَقلها على أنها حربٌ أهليّةٌ

  • ثمة أدباء كتبوا أعمالاً إبداعية عن أحداث الربيع العربي عموماً والحرب السورية خصوصاً، ولكن لدى بعضهم يقين أن دور النشر العربية والجوائز الأدبية العربية تقاطع هذا النوع من الأدب، كما أن النقد في بعض الأماكن يتجاهلها، ما رأيك؟
  • وأنا أيضا على هذا اليقين، فكل ما يكتب عن الثورة السورية يُستبعدُ حتى من الجوائز العربية والعالمية، لماذا؟ لا أدري، ولكن أضرب لك مثالاً، جائزة البوكر وهي أهمُّ جائزةٍ عالميةٍ للرواية، وصلَ السوريون إلى قائمتها القصيرة أكثر من مرة، ومنهم فواز حداد وشهلا العجيلي وخالد خليفة، واستبعدوا عن الجائزة النهائية رغم أنه في خطة الجائزة أن توزع على دول الوطن العربي، وعلى هذا أعطيت لتونس عن رواية الطلياني  أقول أعطيت لتونس وليس لرواية الطلياني التي أراها لا ترقى لمستوى الجائزة، ورغم الأعمال القيمة السورية التي نافست على المركز الأول كان الفوز لأعمال أقلَّ أهميةً ومنها فوزُ روايةِ هدى بركات (بريد الليل) وكانت أقلَّ شأناً من الرواية السورية التي تنافسها وأعتقد أنها كانت لشهلا العجيلي، وفي دورة 2017 استبعدت ستُ روايات عن الثورة السورية، منها واحدة لكاتب مصري، وأحيطك علماً في تلك الدورة كان في لجنة التحكيم صالح علماني المترجم الفلسطيني المعروف بولائه وتشبيحه لنظام الأسد فهل تريد أدلة اكثر من هذا
  • ماذا طرأ من تغيير من خلال متابعتك النقدية على فن الرواية السورية من روايات ما قبل الثورة إلى روايات ما بعد الثورة؟
  • التغييرُ كان على صعيد الموضوعات غالباً وليس في تقنيات السرد أو البنيةِ الفنية، فالثورةُ قد هدمت جدارَ الخوف الذي كان جاثماً نصف قرن على صدور الأدباء، فقاموا بتشريح بنية هذا النظام التي كانت قائمةً على القبضة الأمنية، والفساد، ففضحوا ممارساتِه القمعيةَ وسجونَه التي غيبت الأحرار نصفَ قرن وما شابه من موضوعات، أما على الصعيد الفني فأعتقد أنها تخلّفت، وقليلة هي النماذج التي تتكامل فيها عناصر الرواية، لأن كلَّ من خرج في مظاهرة لمدة ساعتين، أو سجن لمدة أسبوع خرج ليكتب لنا روايةً عن تجربته الشخصية، ونسي أنه مادةٌ روائيةٌ، أو عنصرٌ في رواية،  وليس روائيا.
  • لنتحدث عن النقد، ماذا عن الأدوات النقدية الجديدة والناقد الجديد المناسب لهذا الأدب الجديد برأيك؟
  • أعتقد اننا اتفقنا على أن الثورةَ حتى الآنَ لم تنجب أدباً جديداَ إلا على صعيد الموضوعات، وهذا لا يحتاج الى أدوات نقدية جديدة، البنية الفنية وتغيير الأساليب تحتاج ذلك أكثر، ومع هذا لقراءة ما استجد من موضوعات نحتاج ناقداً موضوعيا ينظر الى الحدث بعيداً عن التخندق والانحياز، هو يتعامل مع نص أدبي بعيداً عن مؤلفه، وخاصة كل النظريات النقدية الحديثة تقول بموت المؤلف والتعامل مع النص مستقلا عما يحيط به من فكر أو إديولوجيات  
  • لو نتوقف قليلاً معك على روايات الحرب السورية التي توقفت عندها نقدياً مطولاً في دراساتك ومقالاتك، ما لها وما عليها؟ مع الأمثلة إن أمكن؟
  • ذكرت لك أن ما كتب حتى الآن في الرواية ما يقارب 400 عمل عن الثورة السورية، يسجل لها أنها استطاعت أولاً أن تعري حقيقة هذا النظام الوحشي الذي لم يكن الا عصابةً لسرقة البلاد، وأذكر هنا رواية ميشيل كيلو دير الجسور وهيثم حسين عشبة ضارة في الفردوس

ويسجل لها أيضا أنها رصدت بنية المجتمع السوري التي عمل النظام على إفسادها وتفسخِها وهدمِها من خلال مؤسساته الحزبية والأمنية، ومثالها رواية (لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة) لخالد خليفة

رصدت أيضاً المآسي التي عاشها السوريون تحت براميل الأسد، والهجرة والنزوح كروايتي محمود حسن الجاسم نزوح مريم ولاجئة بين زوجين، وفوز الفارس في روايتها (أبناءُ الوحشة)،

رصدت الرواية الجديدة ما فعلته التنظيمات المتطرفة التي مهد لها النظام، وعمل على تفعيلها لإجهاض الثورة، ويؤخذ على أكثرهم أنهم لم يُلمّحوا ولو بإشارة الى ذلك، كشهلا العجيلي في سماء قريبة من بيتنا، ومنهم من لمح إلى دور النظام فيها كنبيل سليمان في (ليل العالم)

هذا مالها ولكن مما عليها أن بعضَ تلك الروايات وتحت مسمى الموضوعية والحيادية كانت تتخذ موقفَ الرمادية من دم الشعب السوري الذي أراقه الأسدُ وحلفاؤه وبعضها كان يركز على الجماعات المتطرفة وكأن حربَنا معها، حتى كاد ينسينا أن نظام الأسد هو مَنْ وراء خراب سوريا من الجزيرة الى البحر.

إضافةً إلى أن الكثيرَ من الأعمال تفتقر الى أسس كتابة الرواية، منها ما كان أقربَ الى السيرية والمشاهدات الشخصية، كثير منها ينطلق من حالة ثأرية أو انفعالية، وأغلبُ تلك الأعمال تفتقر إلى رؤيا واضحة للحدث واستشراف آفاقه المستقبلية، وأبرّرُ لهم هذا بأن زمن السرد لديهم موازٍ لزمن الحدث، والتالي لم تنضج رؤيتُهم للحدث بشكل صحيح.

  • ماذا عن اللغة الروائية، هل استطاعت اللغة الروائية وبنية الرواية أن تستوعب ما حدث أم أنها عاجزة أمام هول ما حدث؟
  • اللغة وخاصة العربية لا تعجزُ، ولكن الذي يعجز هو من يمسك بالقلم، وذكرتُ أننا أمام هذا الكم الهائل من الأعمال الروائية قرأنا تراجعاً في لغة الرواية، لغة السرد، ولكن هذا لا يعني أنه لم توجد رواياتٌ حاولت ان تجد لغةً جديدة تتناسب مع هول ما حدث، ومنهم نبيل سليمان في رواياته الأخيرة، وعقاب يحيى في روايته بوح امرأة عطشى ومحمود الوهب في روايته قبل الميلاد  
  • يُقال إن رواية الثورة تحتاج لوقت أكثر حتى تنضج في المطبخ الإبداعي للمبدعين السوريين، ما رأيك؟

أعتقد أننا تحدثا عن أهمية موقع الروائي من الحدث الذي يرويه، وألخص ذلك بالقول هناك أعمال إبداعية كتبها مبدعوها في غمرة الحدث، وأظنها خالدةً، ومنهم غسان كنفاني في روايته (رجال تحت الشمس وحكايات أم سعد) وهناك أعمال كتبت بعد الحدث بعقود فكانت خالدة أيضاً ومنهم نجيب محفوظ؛ فالعبرة إذن بمقدرة المبدع على الرؤيا واستشراف آفاق الحدث، وليست في موقعه من الحدث، أما بالنسبة للثورة السورية فأعتقد أنه من الضروري التأني قليلا؛ لأن ثورتَنا تلاعبت بها رياحُ الأرض وشياطينُها، وامتلأت ساحتها بغبار الدنيا حتى كادت الرؤيا تستحيلُ أمام المنظّرين السياسيين والمفكرين قبل المبدعين، ومن الصعب التكهنُ برؤية قادمة قبل هدوء تلك العواصفِ وانحسار ذاك الغبارِ    

  • ولكن بالمقابل ثمة من يقول ان أدب الثورة صار موضة يتبعها كتاب كثر لتحقيق الشهرة؟

لا أنكر هذا فدور النشر تقذف يوميا بعشرات الأعمال نثرا وشعرا عن الثورة، ولا أخفيك أن هناك من حاول تشويه الحقائق للوصول الى الجوائز التي تخضع لسياسات معينة معادية أحيانا للثورة، وبصراحة أقول هؤلاء يعتلون منبر الدم السوري يدنسونه بأقلامهم، من أجل مصالحهم الدونية، والدنيئة وبالتالي هم أسوأ شهداء الزور على دمنا الذي سينتصر في النهاية بإذن الله.

  • حدثنا عن الأسئلة التي يتوجب على الأدب حالياً طرحها، وما هي الأجوبة التي يجب على المبدع تقديمها لمجتمع القراء بعد عشر سنوات حرب؟

السؤال الأول لماذا مرت على الثورة عشرُ سنوات؟ مَن وراءَ المنعطفات التي حرفت الثورةَ عن مسارها؟ مِن أجل مَنْ هُدمتْ سوريا؟ قُتلتْ بكل طوائفها؟ من أجل أيّ مجدٍ مات الملايين من الخندقين، الموالاةِ والمعارضةِ، يقول لك الموالون من أجل سوريا، ونقول هل ترك هذا النظام شيئا اسمُه سوريا؟ ومن سوريا بدون شبابها؟ من هو العدو الحقيقيُّ لثورة هذا الشعب؟ هذه الأسئلةُ ستكون وتكوّنُ التاريخَ الحقيقيَّ للثورة السورية، وليس التاريخَ السياسي الذي سيكتبه المنتصر وَفقَ أهوائه وسياساته وعقائده.

اما الأجوبة فيجب على المبدع ألا يطرحَ أجوبةً، المبدع الحقيقي يفخّخُ الأجوبةَ لتتناثرَ شظاياها اسئلةً، على المبدع بين حين وآخر أن يكفر بكلّ الأجوبةِ، وأن يُحوّل الأجوبة الى أسئلة جديدة، فنحن قوم مللنا من الأجوبةِ المعلبةِ والمسبقةِ الصنعِ، وصدقني كلُّ أجوبتنا منتهيةُ الصلاحية، وربما منذ قرون.  

  • يذهب البعض إلى القول إن فن الرواية هو أكثر الفنون الأدبية لديه المقدرة على معالجة المتغيرات الهائلة على ساحة الواقع، ما رأيك؟
  • نعم انا مع هذا القول الروايةُ اليومَ هي فنُّ العصر، والسبب أنها تستطيع أن تستوعب جميعَ الخطاباتِ واللغات والأساليب والمنظورات والأجناس الأدبية الأخرى، الروايةُ جنسٌ أدبيٌّ منفتح، وقابل لاستيعاب كلّ الموضوعات والأبنية الجمالية، كما أنها مرآة لتشخيص الذات والواقع
  • استشهد ابنك الراحل بقصف لقوات النظام على مدينة جسر الشغور رحمه الله، بالنسبة لك هل للشهداء حالياً نصوص تمثلهم؟ وتمثل حياتهم وأحلامهم وتضحياتهم؟ ألا يحق للضحايا أن يسألوا الأدباء بصوت عالٍ: أين نصنا؟

اسمح لي ألا أسترسل في الإجابة عن هذا السؤال، سؤال مؤلم ولكني أقول:

والله لو كانت أشجار الأرض أقلاماً وبحارها مداداً لما استطاعت أن تكتب لي عن مروان زياد الأحمد، ولا أن تفيَ شهداءَنا حقهم ولا استطاعت أن تترجم ما تقوله حشرجةُ طفلٍ تحت الأنقاض، وهو يلفظ أنفاَسه الأخيرة، ولا أن تقرأ دمعةَ أمه وهي تجمع أشلاءه في كيس، هذا الموقف أنا عشته، كتبت عنه الكثير وما كتبت شيئاً، كُتِبت نصوصٌ عن الشهداء، والأكثر في الشعر، لكنها لا تشفي الغليل، في الرواية لم أقرأ رواية تختصّ بهذا الموضوع، بل مرّرَه الأدباءُ بمشاهدَ عابرةٍ لكن دماءَ الشهداء ما تزال تنتظر.

  • لنتحدث عن مجموعتيك القصصيتين "الكرسي الدوار" و "أسرار زوجية لرجل عبد" وخصوصاً أنك اتخذت من الأدب الساخر شكلاً لتمرر أفكارك بعيداً عن أعين الرقيب؟
  • الكرسي الدوار هو أول مجموعة قصصية صدرت لي في بداية التسعينيات، وما زلتُ أفخر بكل ما كتبته فيها، على الصعيد الفكري على الأقل، فكرة الكرسي الدوار جاءت على لسان بطل القصة الذي يقول: أنا لا أختلف عن غاليلو، هو اكتشف دوران الأرض وأنا اكتشفت دوران الكراسي، كراسي الحكام، فكما تدور الأرض دورتين دورة حول نفسها ودورة حول الشمس كذلك يدور كرسي الحاكم دورتين دورة حول نفسه ودورة حول الحاكم فيسقطه، وكتبت بعدها أسرار زوجية لرجل عبد تحدثت فيها عن قيام النظام بإخصاء كلِ من تسولُّ له نفسُه ان يكون رجلاً في وجهه. كتبت فيها عن معتقل كانت تهمتُه أنّ عينيه أطولُ من قامته ففقئوا له عينيه ... كنا مضطرين الى الترميز والهروب الى الفانتازيا والأسطورة خوفا من بطش هذا النظام لم أكن أنا فقط بل كلُّ أبناء جيلي ومن سبقوه، أفخرُ اليوم بتلك المجموعات لأني أعتبرها من الأدب الممهّد للثورة
  • الأدب الذي انحاز للأنظمة وأدار ظهره للجماهير، هل يكفيه اللغة الجميلة والخيال المميز والمهارة المتقنة ليكون أدباً مهماً؟
  • سؤال ههم جداً، أنت تسألني عن التناقض بين الموقف الأخلاقي والتعبير الجمالي، عبر التاريخ لم يكن هذا الأدب مهماً بل وسيرمى على مزابل التاريخ، وإن كان جميلاً فجماله قبيح.

مثلا أنا لا أحترم مواقفَ أدونيس المنافقة والمتناقضة، حتى وإن كان الشاعر الوحيد في سوريا، مواقفه تؤكد لي قبحَه حتى وإن أنجب جمالا، باختصار شعر ادونيس الجميل هو زهرة نبتت من مزبلة، واياكم وخضراءَ الدمن

واليك مثالا آخر الجواهري، أنا كدارس للشعر والأدب لا أستطيع نكران شاعريته وجماليات أسلوبه لكنه جمالٌ قبيح، ولا أراه إلا منافقا متسكعاً على أبواب السلاطين والقتلة، يقتات على دماء الأبرياء، هو الذي قال: سلام على حاقد ثائر في ثورة العراق، وحين ثارت سورية على الأسد في الثمانينيات وكانت حماة لا تزال غارقةً بدمائها جاء ليقول لسفاحها: سلاما أيها الأسد سلمت وتسلم البلد

  • كيف تقيم المؤسسات الأدبية المنبثقة عن الثورة؟ وبرأيك ما الذي قدمته للأدب؟ وأين يكمن التقصير أو الخلل برأيك؟
  • أغلب هذه المؤسسات لا تنتمي الى الدم السوري بقدر تبعيتها لأجندات خاصة، أجندات مموليها، حتى تلك التي توسمنا فيها الخير فوجئنا بفضائحها التي يندى لها الجبين، ولا أريد ذكر أسماء، ولكن لم تفلح هذه المؤسسات في التأسيس لأدب بار بالثورة ودماء شهدائها  
  • لماذا لا يتواصل المبدعون اللاجئون في دول أوروبا ضمن مؤسسة ما لصياغة مبادئ عامة لهذا الأدب الجديد ودعمه؟
  • فلنعمل أولاً على توحيد رؤيتهم للثورة السورية، ومواقفهم من دماء الشهداء ثم لنطرح هذا السؤال عليهم، فالرؤيا حتى الآن ليست موحدةَ للحدث لديهم.
  • ما الذي تكتبه الآن، أدباً ونقداً، وأيضاً... ما الذي تتمنى أن تكتبه مستقبلاً؟
  • أنا حالياً متفرغٌ للنقد الروائي، أرى أنه من واجبي الأخلاقي تجاه ثورتي وتجاه دماء الشهداء، أن أواجه الأقلام التي تتاجر بالدم السوري، هذه معركتي وساحتي، ولكل معركتُه وسلاحُه ضد هذا النظام، عليّ أن أكون بالمرصاد لكل من يحاول قلمُه تزوير الدم السوري، أما عن حلمي الكتابي فأحلم أن أكتب ملحمة الثورة، أو أن يكتبها غيري، وأسميها ملحمة لأن ثورتَنا السورية أسطورةٌ، لا تقل عن اسطورة جلجامش وأساطير اليونان والرومان بل تفوقها لأنها حقيقة وليست خيالاً، وستخلد كتلك الأساطير، وسيستقي العالم منها أدبَه وفلسفتَه وحكمتَه بإذن الله.

                               *****

  • نقلا عن راديو أورنيت

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم