حاورها: سعيد خطيبي

تُحاول رواية «التطهير» الإجابة عن سؤال: كيف يُحافظ بلد صغير، ذو تعداد ديموغرافي ضئيل، على هويته رغم ما يتعرض له من حملات استعمار متوالية؟ اختارت الروائية الفنلندية صوفي أوكسانين (1977) أن تعود إلى بلد أمها، وتكتب روايتها في إستونيا، ركزت على شخصيتين نسائيتين (ألييد وزارا)، بدون أن تمنع نفسها من ترحال بين الاتحاد السوفييتي وألمانيا الشرقية وفنلندا، كي تتم نصاً يؤرخ قرابة نصف قرن من تاريخ إستونيا، وما عاناه الناس هناك من اضطهاد وتهجير، قبل أن يحققوا رغبة الأجداد في استعادة استقلالهم، وإعلان جمهوريتهم مطلع التسعينيات من القرن الماضي.
تود الكاتبة أن تُخبرنا في هذه الرواية (التي صدرت ترجمة لها عن دار العربي ـ القاهرة) أن تاريخ بلد ما إنما هو تاريخ نسائه، فالشخصيات الرجالية الأخرى وردت في النص في أدوار ثانوية. كل بلد يضطهد النساء يحكم على نفسه بالخضوع. في الحكاية التي ترويها صوفي أوكسانين. يُصادف القارئ شخصية زارا القادمة من أقصى شرق روسيا، الحالمة بحياة أفضل في الغرب، في أوروبا ما بعد الحرب الباردة، قبل أن تتحول إلى سلعة في ألمانيا، تعنف وتفقد حريتها، فتفكر في عنوان بيت أوصتها به جدتها، وتتجه إلى تالين عاصمة إستونيا، حيث ستعثر على ألييد، وتكتشف التاريخ المشترك الذي يجمعهما، فعائلتاهما تفرقتا في الحرب العالمية الثانية، قبل أن تجتمع المرأتان عام 1992، وتحكي كل واحدة منهما للأخرى قصتها، ومن خلالهما نُعيد تشكيل جزء من تاريخ ذلك البلد، وانتقالاته من هيمنة النازية إلى سطوة السوفييت، تتكشف حكايات الخيانة والحب والمقاومة والتهجير والغيرة والهوس، والشعور بالذنب والتعذيب والصمت، والانتظار والخوف، وصدامات الأخوة مع بعضهم بعضاً.
من بين الموضوعات التي تتكرر في الرواية موضوع الاغتصابات في أزمنة الحروب، وكيف أن جسد المرأة يتحول في كل مرة إلى سلاح من أسلحة المتحاربين، فهذه الرواية كُتبت بالاتكاء على قاعدة أرشيفية موسعة، وهو ما تؤكده صوفي أوكسانين نفسها، فأرشيف إستونيا أرشيف آلام وخسران، لا تخشى الكاتبة من العودة إليه، لا تخشى من فضح خطايا أهل البلد، كي تقدم عملاً طغت عليه كآبة والاستعانة بالفلاش باك، تتقاطع ثيماته مع التاريخ العربي المعاصر. في هذا الحوار، تقدم صوفي أوكسانين تفاصيل أخرى عن «التطهير».

■ تُرجمت روايتك «التطهير» إلى العديد من اللغات، وتحولت إلى فيلم سينمائي، قبل أن تصل أخيراً إلى اللغة العربية.
• هذا مذهل، بالنظر إلى أنه لا توجد روايات فنلندية كثيرة تُرجمت إلى العربية. أشعر بأن روايتي كانت محظوظة. أحس أن العالم العربي قد عانى من مآسٍ شبيهة بتلك التي عانت منها إستونيا. ولا شك في أن القارئ سوف يتآلف مع أحاسيس وتجارب شخصيات الرواية، على الرغم من أنها شخصيات تتحرك في مكان بعيد جداً عن العالم العربي، لكن لن يصعب عليه تمثل المعاناة البشرية المشتركة.
■ في تلك الرواية نُطالع جزءا من تاريخ إستونيا، على الرغم من صغر مساحة البلد فقد تحمّل حملات استعمارية كثيرة، قبل أن يسترد استقلاله ويستعيد هويته الأولى، بشكل يذكرنا بما حصل في دول عربية. كيف يستطيع بلد تعداده الديمغرافي ضئيل أن يحفظ هويته؟
• أهم شيء هو الذاكرة، إذا حافظ شخص واحد على الثقافة المضطهدة، فإن هناك أملا من أجل مستقبل أفضل. عسس الذاكرة في مرتبة الأنبياء، يحفظون تواصلها إلى الأجيال القادمة. «التي تحرس ذاكرتها سوف تنجو»، إنه عنوان كتاب مذكرات صدر في إستونيا، وفي رأيي أن هذا العنوان يستحق أن يكون دليلاً لكل الثقافات المضطهدة، من الضروري أن نتمتع بذاكرة، من الضروري أن نسرد قصصاً ونتقاسمها مع الآخرين.
■ ما هي أهمية الذاكرة تحديدا؟
الذاكرة عدو القوى المهيمنة، لذلك فإن كل المستبدين يودون محوها. عندما كانت إستونيا تحت الاحتلال، فإن كل الأخبار والسرديات والقصص خضعت لسلطة المحتل، الذي منع كل ما يخص التفكير في نشوء جمهورية إستونيا الأولى. كان الناس يخوضون في تلك القضايا المحرمة «بين أربعة أعين»، هذا مثل شعبي إستوني، يقصد منه أن بعض المحادثات لا يمكن أن تتم سوى مع من نثق فيهم، لأن أعين المخابرات السوفييتية وأذانها كانت في كل مكان. إستونيا لغة وثقافة صغيرة ونجاتها كان أشبه بمعجزة.
■ هل كانت الذاكرة وحدها سبباً في حفاظ الإستونيين على هويتهم؟
• بالإضافة إلى الذاكرة أظن أن هناك عاملا آخر، فإستونيا لا تتمتع سوى بموارد طبيعية قليلة، مثل خصوبة أرضها والنفط الصخري. من بين أسباب غزوها من طرف النازيين، كان بحثهم عن النفط الصخري. ولحسن الحظ لم يكن مورداً مهماً. كما إن الجاليات في الخارج أيضاً حافظت على الروح في تلك الثقافة، عندما فرّ إستونيون من بلدهم سارعوا، في البلدان التي احتضنتهم، في تنظيم أنفسهم، بإنشاء حضانات إستونية للأطفال، دور نشر، مدارس وثانويات وإصدار صحف بالإستونية. شجعوا أبناءهم على دراسة المحاماة والطب، قناعة منهم أن بلدهم الأصلي سيكون في حاجة إليهم. هكذا استمرت الثقافة بمساعدة من المنفى. الذاكرة ليست تحديدا في الحدود الجغرافية لبلد ما، بل إن وطناً قد يقوم خارجها. على خلاف فنلندا فإن إستونيا بلد شتات، يحتاج إلى الإبداع كي تستمر ثقافته، ولا ضرر أن يكون عملاً إبداعيا خلف حدود البلد. الكتابة مهمة، فهي رسالتنا إلى المستقبل. في بعض الأحيان يسهل أن نكتب عن شيء يتعسر علينا الخوض فيه شفاهياً. أحفز دائماً الناس على تدوين مذكراتهم من أجل المستقبل. هذا أيضاً مهم، فأن تكون مضطهداً يعني أيضاً أنك سوف تفقد قدرتك على توظيف لغة مباشرة. لذلك، من أجل إيصال الثقافة إلى الأجيال القادمة، علينا أن نتعلم كيف نعبّر عنها. إذا كنا لا نعرف كيف نعبر عنها، ولا نعرف كيف نحللها فإننا لن نعرف كيف نقلل من سلطة المستبد. سنصير بُكماً نوعاً ما، وذلك ما يسعى إليه المستبد.
■ مقاربتك للاضطهاد الذي عاشته إستونيا، تُشبه ما عاشته شعوب أخرى.
• في السنوات الماضية، سافرت كثيراً بعد ترجمات رواياتي. وأدركت حجم التشابه بين نتائج الحروب وحملات الاحتلال في دول مختلفة. تبعات الاضطهاد متشابهة، لذلك أظن أنه من المفيد أن نتعلم من المضطهدين الآخرين، أن نتعلم منهم أساليبهم في الخلاص. إذا كانت التربية الحكومية لا تقدم شيئاً عن ثقافتنا الخاصة، فإن المسؤولية تقع على الآباء لتدارك الأمر. قال سولجنتسين ذات مرة أن النظام السوفييتي كان هشاً في نظر الآباء: إذا أردنا قول الحقيقة للأبناء فنحن نجبرهم على تعلم الكذب، لكن إذا فضلنا عدم مصارحتهم بالحقيقة، سيستطيع هؤلاء الأبناء العيش بسهولة خارج البيت. ماذا نختار إذن؟ فضلت عائلتي مصارحتي بالحقيقة، وذلك كان أفضل.
■ «التطهير» كانت في الأصل مسرحية، كيف يؤثر المسرح في أسلوبك في كتابة رواية؟
• المسرح فن جماعي، وقد تعودت كلما فرغت من كتابة رواية، أن أكتب مسرحية أو أشاهد مسرحيات. كما أنني خريجة أكاديمية المسرح، وقد كان للمسرح دائماً مكان أثير في قلبي. لا أدري لماذا يلهمني دائماً. بالنسبة ﻟ «التطهير»، بدا لي الأمر طبيعيا أن تتحول إلى رواية، لأن معايشة العنف الجنسي تعتبر تجارب خاصة. والنساء يفضلن الصمت والتغاضي عنه. لذلك كان يجب أن تُسرد الحكاية على الركح، أمام أعين الناس، وفي رواية أيضاً.
■ في هذه الرواية، يجد القارئ نفسه في ترحال بين أمكنة كثيرة، من روسيا إلى ألمانيا، وصولا إلى فنلندا ثم إستونيا. ما هي الصلة بين الكتابة والترحال؟
• برأيي أن الكتابة في حد ذاتها ترحال، أو هي تفكير فيه.
■ تشيرين في هذه الرواية إلى أن التغيرات السياسية دائماً ما يُرافقها عنف جنسي ضد النساء، لماذا؟
• العنف الجنسي الذي تتعرض له النساء سلاح قديم، فمن خلال جسد المرأة تشتعل حروب وتتشكل مقاومة لها أيضاً. هذا ما يؤثر على الرجال، على المتحاربين منهم، فالرجال ينزعون إلى حماية النساء والأطفال، وعندما يعجزون عن ذلك، يشعرون بمذلة. هذا العنف ليس فقط سلاح حرب بل هو سلاح سيكولوجي أيضاً.
■ هل يمكن أن نعتبر «التطهير» رواية ذاكرة؟
• لِم لا! مع أنني أفضل عدم التدخل أو تقديم وصفات قراءة لها.
■ قد تقرأ أيضاً كرواية نسوية؟
• كل كتابة تُلامس السياسة، وأنا ناشطة نسوية، ما معناه أنني أؤمن بالمساواة، في الغالب تتفادى سرديات التاريخ صوت المرأة، لذلك أرى من الضروري منحه أهمية. في فنلندا 50٪ من الكتاب نساء، بالتالي من العادي أن نُصادف أديبات في دول الشمال، لكن بعدما شرعت في السفر إلى دول مختلفة، بعد ترجمة رواياتي، أدركت أن الوضع في دول الشمال يختلف عما عليه الحال في بقية العالم. كلما قلّ عدد الكاتبات، قلّ صوت النساء في الأدب. بطبيعة الحال ينحاز كتاب رجال إلى ابتداع شخصيات نسائية، لكنهم يفعلون ذلك في حالات قليلة فقط.
■ شخصيات الرواية تبدو قلقة، تائهة، تبحث عن نفسها. هل يعكس هذا شخصيتك إلى حد ما؟
• إنها شخصيات متخيلة لا أكثر.
■ حين تنظرين إلى خريطة العالم العربي، ما هي المدينة التي تميلين إلى زيارتها؟
• سأجد نفسي أمام خيارات كثيرة. أحب الطبخ اللبناني لذلك سأميل إلى التفكير في زيارة بيروت، قصد فهم تفاصيل طبخهم، ونظراً لحبي المعمار والآثار، فقد أفكر في البتراء. لم يسبق لي أن زرت لا المغرب ولا الجزائر ولم أشاهد من هذين البلدين سوى صور جميلة ومناظر يملأها الضوء. من موقعي كفنلندية، تبدو لي الصحراء مكاناً ساحراً. لذلك لن أتوانى في زيارتها، أحياناً أخرى يُراودني كثيراً أن أزور الأهرامات. برأيي أن كل المدن العربية تستهويني زيارتها، رغم أن الفنلندية لغة قديمة لكن هندسة البلد المعمارية لا تزال هندسة ناشئة وحديثة. وأنا دائما ما أحببت المدن التي تتمتع بتاريخ عريق. هذا أكثر ما يجذبني إلى زيارة أي مدينة. وليس من أجل التمدد على شطآنها لأتمتع بشمسها.

عن القدس العربي

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم