الرواية نت - لندن

يؤكّد الروائيّ الإرتريّ عبد القادر المسلم على أنّ سخرية القدر وتشبعه بالآلام وضعاه أمام خيارين كانت الكتابة إحداهما. أما الخيار الثاني فكان أن يحمل السلاح ويدعو إلى ثورة جديدة.. ولأن الموت الحقيقي هو الصمت آثر الكتابة..

ويشدّد مبدع (أزمارينو) في حواره مع الرواية نت على أنّ الأدب المقروء وسيلة سفر آمنة لكنها تصنع حالة من وحدانية البشر أينما كانوا.. وتراه يوصي قارئه بالقول: اقرأ لتكتشف أن سقف القراءة يصنع منك إنساناً بلا إطار، بلا صور مسبقة، أو تفاسير مقولبة.. اقرأ لتصنع الفرق.  

-  كيف تقيّم تجربتك مع القراءة؟

القراءة مفردة ضئيلة الحجم مقارنةً بمدلولها الحسي فأول كلمة ألقيت على النبي الأمي أقرأ، ما بعدها كان سجالاً وثورة غيرت خارطة الوجود وبعث جديد لأمه كانت خارج التأثير المحسوس وبعيدة تماماً عن سجل التاريخ، لذلك أعتقد أن القراءة حد فاصل بين أن يكون المرء كائناً وأن يكون مجرداً من الوجود الحسي حيث لا تفاعل خالياً من حلم يراوده وأمنية تظله شيء من العبث الكوني ومصادفة تكوينية فارغة.

مكنتي القراءة من فهم الآخر بتجرد بعيداً عن أنماط التلقين مكنتني من استيعاب الاختلاف الظاهر ووحدة المعنى العميق، السرمدية وجبة حقيقية تلذذت بتناولها منذ أول كتاب بل منذ أول إنصات للموسيقى فلكل كتاب موسيقاه المستبدة ولكل رواية لحن شذي ورائحة مسكرة، نهمي الشديد بقراءة الرواية دونما ترصد للدوافع والغايات ودون تحسس للأيديولوجيا جعلني اتعرى من مفهوم التوقف عن الحياة وانتظار المصير في آخر الطريق ولعل افضل توصيف لتجربتي مع القراءة كان على لسان بطل روايتي اليتيمة (أنا أكره النهايات فكتبي لا أنهي قراءتها، وحتى الطرق لا أصل لآخرها، وكأن في نهاية الأشياء موت خيالي).  

-  ما أهم الأعمال الروائية التي أثرت في تجربتك الإبداعية؟ ما الرواية التي تتمنى لو كنت مؤلفها؟

أتحمس كثيراً للتجربة الإنسانية الخالية من التفسير المنطقي حيث الحياة موجة محيط تتقاذف الإنسان لمصير غامض، محض تأمل وسرد لمكان مشبع بالتهاليل ولعل الدهشة التي تصنعها اللحظة تغريني حتى أتتبع أثر خطوات كاتب الرواية، وإزاء هذا التشخيص الذاتي المتواضع

أجدني أجتهد راغباً في البحث عن مكان السردية أستنشق عبير تلك الرواية ابحث في الجدران عن شخوصها، تلك الأمنية تتحقق في مناسبات موسمية، كدعوة تصلني لمعرض كتاب في عاصمة عربية ذات صلة برواية حفرت في وجداني، ولحسن حظي نلت منها وانتقمت لشغفي في حالتين لا غير، زقاق المدق رائعة نجيب محفوظ للوهلة الأولى ادركت كم كان عبقرياً المعلم الراحل وكيف كان قلمه مطواعا.

فالمكان بالكاد يتنفس كيف رسم له رئتين ونثر على سمائه هالة أبهة لا تتلاشى، الأماكن بعد قراءة النص كفيلة بأن تجعل من القارئ سائحاً ايجابياً يجتاز المشهد الآني لعوالم أخرى لم يك ليراها دون العمل الروائي الذي ارشده لمكانها..

ولعل الرواية التي تمنيت لو اقتربت من جرأتها وتناولت فكرتها بشكل آخر كانت تجربة روائي أجده الأروع من أبناء جيلي، رشح للبوكر عدة مرات بدايته كانت عبر رواية نالت جوائز متتالية لما فيها من (تفوق وصفي وتجربة إنسانية فريدة) فلقد تناول فئة مهمشة في مجتمع عربي ثري وغاص في سرمدية التاريخ مستخدما التجريب المقنن، جعلتني ادقق مراراً في تناول الكاتب لتلك الجزئية الدقيقة من المجتمع الهرمي، يا له من قاع مغرٍ.. (فريج المرر) رائعة الأستاذ حامد الناظر، ولأنني مغرم بالمفكر (هيجل) وقراءته للتاريخ كانت هذه الرواية بالذات أداة وصل بين نهمي للثقافة وشغفي بالرواية، الناظر جعل من ثلة فتيات افريقيات محوراً لحي (المرر) العتيق في دبي حتى بدت تلك المدينة صاحبة العنفوان المادي التي لا تشيخ ولا تعتريها أزمنة الضعف، بدت مرتعشة هزيلة دواخلها تكتظ بحكايات الضعاف من سطروا على جبينها دموع الرهبة وأرهقتهم نوائب الدهر، ولأجل هذا الرواية العميقة زرت دبي وقصدت أول ما قصدت فريج المرر، وتنقلت بين المقاهي وقراءة النص على وجوههن نادلات أفريقيات مدهن الناظر بالخلود كان سامياً ارتقى بهن إلى ذاكرة المكتبة العربية بعمل فريد وتجربة إنسانية عميقة حتى الفريج القديم ذو الشوارع الضيقة والأزقة المعتمة بدى لي مخلوقاً هلامياً أشفقت على كاتب الرواية فلقد بذل مجهوداً خرافياً للملمت أوراقه المبعثرة ونسج تلك التوليفة الروائية لأناس قذفت بهم الحياة إلى حيز ضيق من الجغرافيا بل حيز اضيق من التاريخ فأخرجهم الناظر للعالم حملهم على اكتافه . 

- هل من رواية تندم على كتابتها أو تشعر أنك تسرعت في نشرها؟ ولماذا؟

تجربتي الروائية ضئيلة امام هذا السؤال بحيث اجدني لا أملك إجابة جيدة.

 - كيف ترى مستقبل الرواية في عالم متسارع يمضي نحو ثقافة الصورة؟

الصورة الثابتة رواية في حد ذاتها أما المتحركة فهي مستوحاة من نص مكتوب والفيصل هي الملكية الفكرية فكلما تظافرت جهود المكتبات لدرء السرقات المتواصلة بين ما هو مخطوط ومنشور، وما بين تلك الصور المجسدة على الشاشة عاد الفضل للكتاب وزاد شغف القراءة أمام فوضوية السلعة المقلدة.

-  كيف تنظر إلى واقع النقد في العالم العربي؟

بالعودة الي القرن المنصرم كان الفكر الأممي المتجرد يضع الكتاب موضعاً سامياً يناله النقد بسهم التسامي فيستحيل النص عارياً من أغراض الإيديولوجيا وسهام التوجيه، أما الآن فمعظم النقد متحيز إلى لغة أو محاصصة ايدلوجية، صعد نجيب محفوظ بتجربته الثرية إلى منصة النوبل متجرداً من عمامة الموروث وعاد الأدب بعد ذلك التجلي الي المحطة الأولى الرسم ثم التصوير.

-  إلى أيّ حدّ تعتبر أنّ تجربتك أخذت حقها من النقد؟

مطمئنة إلى الحد الذي أستطيع من خلالها الاستمرار في كتابة روايتي القادمة ومن يدري متى ستنال حقها المفترض!

-  كيف تجد فكرة تسويق الأعمال الروائية، وهل تبلورت سوق عربية للرواية؟

هناك تطور ملحوظ في منطقة الخليج العربي واهتمام واضح مصحوب بضخ الاستثمارات والمستقبل للكتاب كما يبدو لي فما كان محظوراً في الماضي بات بين ايدي القراء لكن التحدي الأكبر يتمثل في توسيع رقعة المنافسة وتمكين دور النشر من أدوات الملكية الفكرية.  

-  هل تحدّثنا عن خيط البداية الذي شكّل شرارة لأحد أعمالك الروائية؟

كانت حادثة غرق سفينة تحمل مئات المهاجرين عبر المتوسط من أبناء بلدي على شواطئ لامبدوزا الإيطالية وسخرية القدر وتشبعي بالآلام وضعتني أمام خيارين كانت الكتابة إحداهما. أما الخيار الثاني فكان أن أحمل السلاح وأدعو إلى ثورة جديدة تغير مصير من ماتوا في تلك الحادثة، ولأن الموت الحقيقي هو الصمت آثرت الكتابة وبدأت أسرد بل أجتر البدايات من ذاكرة الطفولة النقية كيف تبدلت تلك التضحيات والأغنيات والثورة من أجل الحرية إلى واقع مرير.. الوطن يحتضر والخلاص الأبدي يكمن في الموت من اجل الهجرة فكانت صيحتي مدوية أيها العابرون بربكم اعبروني معكم، ولأن سيل التحديات لا يتوقف جمعني لقاء بصديق إيطالي بادرني بالتعزية مضيفاً من المسؤول عن تلك الفاجعة؟

كان لزاماً عليّ ككاتب أن أسرد القصة من البداية منذ وصل المستعمر الإيطالي إلى بلدي منذ أتى أجداده بحثاُ عن الثراء وكيف أنهم صنعوا جنة اسمها إرتريا جعلوها مطمعاً للغزاة والمهاجرين ثم غادروا كي نجد أنفسنا بين ضفتين ضفة الشر وحكايات الثورة وضجيج الفقر وضفة الخير المزعومة على شواطئهم فكلا الخيارين موت غير مشروع.

-  إلى أيّ حدّ تلعب الجوائز دوراً في تصدير ا لأعمال الروائية أو التعتيم على روايات أخرى؟

ظاهرة الجوائز الأدبية في مجملها إيجابية تسلط الضوء على الأعمال وتمكنها من الترجمة على اعتبارها وفق لجنة التحكيم هي الأرفع قيمةُ، بيد انها تتحول تدريجياً الي المحاصصة ودخول اللعبة السياسية، حصول سيدات القمر للروائية العمانية على جائزة المان بوكر كأول رواية عربية تحصل على هذا التقدير يضيف سمة العدالة في تسطير القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية وأتمنى أن تحافظ تلك المؤسسة الرفيعة على هذا المستوى في تصنيف الأعمال الأدبية، حيث إن الجوائز الأخرى أخذت رؤية مانح الجائزة كمسطرة تحدد من خلالها وجوب منح الجائزة من عدمه. خلفية الكاتب وافكاره تلعب دوراً مسبقاُ للحكم على عمله، والمسؤولية تقع على لجنة التحكيم من حيث تمكين كل الكتاب من الوصول إلى سدة المنافسة وهذا الأمر غير متاح فوفقاً لما يرشح من كواليس تلك الجوائز باستثناء البوكر إن شروط قبول الاعمال تتأرجح بين ترشيح دار النشر لثلاث أعمال فقط مما يفقد بقية الأعمال فرصة المشاركة، وزد على ذلك موقف بعض دور النشر من هيئة التحكيم. أعتقد أن لجان تلك الجوائز أمام تحدٍّ كبير يتعلق بمهنية اللجنة المشرفة على التحكيم بحيث هي من تصنع ضوابطها وتكتب كراسة الشروط بشكل مستقل عن الجهة المانحة وهذا الأمر يحتاج الانفراج المرحلي، من يدري لربما تأتي ثورة أدبية جديدة تقتلع جذور الكهنوت الأدبي.

-  كيف تجد واقع ترجمة الأدب العربي إلى اللغات الأخرى؟

أعود لأوكد أن الأدب العربي تأثر كثيراً بأفول اليسار، فالحركة الأممية آنذاك أتاحت للقارئ العربي فرصة قراءة الأعمال العالمية المترجمة إلى العربية واتضح تأثر الأدب العربي بتلك الترجمة في صياغة الاعمال وبالأخص فن الرواية الذي نضج بسرعه وقفز إلى منصات عالمية، ولأن لكل فعل ردة فعل متناسقة فالأعمال العربية وجدت فرصتها في الترجمة إلى اللغات العالمية فنجد موسم الهجرة الي الشمال للطيب صالح ترجمت للغات عديدة وقس على ذلك الخبز الحافي، والمثال الحي سيدات القمر التي قد لا تجذب القارئ العربي الباحث عن عذوبة اللغة والسرد الأخاذ، لكنها وجدت إقبالاً ورضى خارقين للعادة لدى القارئ الغربي النهم للرواية المختلفة التي تعبر به إلى العالم الفسيح وتتيح له قراءة المجتمعات الأخرى.

لربما اختلاف الثقافة صنع من رواية الحزام للروائي السعودي أبو دهمان تلك الدهشة العابرة من أقصى قرية في جنوب السعودية إلى قرائه الفرنسين، الأدب المقروء وسيلة سفر آمنة لكنها تصنع حالة من وحدانية البشر أينما كانوا.

-  يعاني المبدع من سلطة الرقابة خاصة) الاجتماعية والسياسية والدينية (إلى أي درجة تشعر بهيمنتها على أعمالك؟ وهل تحدّ من إيصال رسالتك الإبداعية؟ وهل أنت مع نسف جميع السلطات الرقابية؟

المبدع الحقيقي مشروع شهيد مؤجل، لابد أن يصطدم بواقعه مهما حاول الافتكاك، فعالم الكتابة إما متصالح مع الواقع لحين أو متصادم، والكتابة لا تليق بأصحاب الياقات البيضاء، حتى النرجسي الغارق في الرومنسية البحتة سيصطدم ذات لحظة أشبه تلك الحالة بالنديم الذي لا يتعب. الأدب فن تجريبي لا يملك أحد الحق في إيقاف تجربته ومشروعه، بل الأجدر هو فسح المجال للنقاش الذي يفضي الي عوالم أخرى تصنع واقعاً أجمل، كنت ولازلت من أشد المعجبين بالمفكر الألماني (هيجل) وقرأت الكثير عنه وعن تأثيره الفكري حتى وقتنا الحاضر.

في زيارتي الأخيرة إلى مدينة (دوسلدورف) ركبت سيارة أجرة يقودها سائق ذو ملامح شرق أوسطية اتضح بعد حديث قصير أنه مهاجر تونسي يعمل في المانيا منذ الثمانينات، بادره أحد أصدقائي بسؤال عن سر تفوق الألمان الصناعي وتفردهم رغما عن أنف الحرب العالمية الثانية وتبعات الحرب الباردة، التفت إلى الخلف قائلاً النظام السياسي، المفكرين عبر العصور أثروا التجربة السياسية والحركة الاجتماعية فنقلوا ألمانيا إلى ما تراه، وسدد ضربات موجعه الي رأسه هذا هو الفرق يا سيدي (والله لو هيجل كان عندنا لشنقناه).. ردة فعله تلك أوجزت المقال لكنه أكمل وقال احمد الله أنني قررت ذات ليلة باردة على طاولة مقهى في الخضراء أن أهاجر وأنتمي لمجتمع يحترم عقلي وآدميتي واختلاف رؤيتي للأمور، أصدقائي الذين تركتهم هناك لم يبقَ منهم أحد، رحلوا بعد ان قضوا أعمارهم في السجون، أما أنا فمنذ اليوم الأول كنت في صفوف المتظاهرين انافح عن كل قضايا المحرومين صحت بأعلى صوت ضد الديكتاتورية والرأسمالية كتبت في صحف محلية دون رهبة دون خوف عشت حياتي ولازلت.. يا عزيزي هم ليسوا أذكى منا أبنائي يتفوقون على أبناء الألمان كل عام، هناك فرق جوهري بسيط يدعى (الحرية)!

-  ما هي رسالتك لقرّائك؟

هذا العالم كبير جداً، أكبر من مجرد وطن للدلالة، أطول من شارع يحمل اسم ديكتاتور مهيمن، وأعلى من مآذن المساجد وأجراس الكنائس.. فقط اقرأ لتكتشف أن سقف القراءة يصنع منك إنساناً بلا إطار، بلا صور مسبقة، أو تفاسير مقولبة.. اقرأ لتصنع الفرق.  

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم