الرواية نت - لندن

يؤكّد الروائي الكويتي بسام المسلم على أنّ منع الكتبِ بسُلطةٍ رقابيةٍ هو نوعٌ من مصادرة حرية التعبير. وينوّه إلى أنّه لا بدّ من قانونٍ غايته تنظيمَ النّشر لا مراقبته. ويصف واقع النقد في بلده أنّه يعاني الخمول، والتوقّفَ عندَ أدبِ عقْدِ الثّمانينيات الذي تناولَه مجايلوه بالنّقد، ولم يتجاوَزوه إلى التّسعينيات وصولاً إلى الألفيّة.

ويشدّد مبدع "وادي الشمس: مذكرة العنقاء" في حواره مع الرواية نت على مسألة التسويق، ويقول إنّ الأوْلى والأهمّ من التّسويق هو التّوزيع. كما يتساءل عن جدوى تسويقِ كتابٍ غير متوفّرٍ في المكتبات، لافتاً إلى أنّ ما يسبقُ التسويق وتفتقرُ إليه دورُ النشرِ النّاشئة هو: التوزيع.

- ما أهم الأعمال الروائية التي أثرت في تجربتك الإبداعية؟

لا أظن المؤثرات في تجربة الكتابة الإبداعية مقتصرة حصراً على نوعٍ فنيّ واحد متمثلاً بـ"الأعمال الروائية" مثلاً. التجربة الإبداعية، نتاج خليطٍ من خبرات ومؤثرات معرفيّة وفنيّة متنوّعة تعرّض لها المبدع في حياته، منذ الطفولة إلى النّضوج مروراً بالمراهقة.

وإذا استثنيتُ المجلات وقصص الصغار المصوّرة، فإن أوّل كتابٍ تخطر لي قراءته كاملاً، كان بعنوان "المتآمرون"، الصّادر بعد تحرير الكويت عن الصّلاح للدّراسات والإنتاج الإعلامي في باريس عام 1991، واقتناه لي والدي، ربيع العام نفسه، بإلحاحٍ منّي، لما مررنا ببسطة كتبٍ في القاهرة، وجذبني غلافه الكاريكاتيري الذي يصوّر بالألوان صدام حسين محاطاً بالملك حسين، وياسر عرفات، وعلي عبدالله صالح؛ ولم أكن تجاوزتُ سنّ الثالثة عشر.

يسرد الكتابُ اعترافات أحد حرّاس صدام الخاصّين، متوغّلاً في عالمٍ من الساديّة والاغتيالات والتعذيب غمساً بأحواض الكيماوي وغيرها، مروراً بحياة صدام بكلّ قسوتها وشذوذها. والنصف الآخر من الكتاب موزّع تقريباً بالتساوي بين بقيّة الزعماء بالترتيب: علي صالح (أقربهم شبهاً بصدام قسوةً وديكتاتورية)، والملك حسين، ثم عرفات.

 ولعل الكتاب، الذي وضع فصوله الأربعة أربعةُ باحثين، تناول كلّ منهم واحداً من أولئك الزعماء العرب، قد حمل رسالةً قاسيةً لفتى كويتي خرج للتوّ من تداعيات محنة الاحتلال العراقي: إنك على أعتاب عالمٍ متوحّش، يفيض بمعاناةٍ لا نهائيّة! بل إن كلمةَ النّاشر على غلافه الخلفيٌ استقرتْ في نفسي قبل نحو ثلاثين عاماً: هذا الكتابُ لقطةٌ سريعة تبرزُ المأزق، وتؤكّد أن شعارَ الدّولةِ العربيّة الواحدة لم يعدْ حلماً، بل صارَ وهماً حقيقيّاً!

ثم اطّلعتُ في مراهقتي على مُؤلّفات مصطفى محمود: أعماله السّرديّة وغيرها مثل "رحلتي من الشكّ إلى الإيمان" و"لغز الحياة" و"لغز الموت". وأتذكّر مُعلّماً من الإسكندرية اسمه "عبدالله" كان يدرّسنا مبادئ الفلسفة والأخلاق في مَدرَستي الثانويّة، وأوصانا بالاطّلاعِ على "عليّ أمام المتقين" لـ عبدالرحمن الشرقاوي، وأنا مدينٌ له ولوصيّته، إذ حرصتُ على اقتناِء الكتاب، وهزّني الاطّلاعُ عليه بقدرِ ما منحني فهماً أفضل في سنٍّ مبكّرة لأحداثٍ "مسكوتٍ عنها" وكنتُ أجهلُها في التاريخ الإسلامي ولتعاملِ الصحابة مع الفتنة الكبرى، كبشرٍ قبل كل شيء، ولتداعياتِها الممتدّة إلى وقتنا الحاضر.

 كما كنتُ محظوظاً في تلك المرحلة باطّلاعي على "ألف ليلة وليلة" التي أشبعتْ شيئاً من "أحلامي الملغاة المتوثبة أبداً صوب مدنٍ نائيةٍ مسكونةٍ بالدّهشةِ والغرابة" ورغباتي التي "لم تتحقّق طوال حياتي" على وصف الدكتور "محمد عبدالرحمن يونس"، إذ قرأتُ الليالي كما قرأها "بشغفِ العاشقِ المنبهرِ بجمالِها وسحرِها وصدقِها وكذبهِا في آن"؛ كما اطلعتُ على نماذج من أعمالِ ڤيكتور هيجو، كروايته الرومانسية الحزينة: "المشوّه".

ثم أتت مرحلةُ دراستي الجامعيّة في ولاية أريزونا الأميركية، التي ساهمتْ في تكويني الأكاديمي، ولم أنقطع فيها عن قراءتي العربية، فعكفتُ على كتبٍ حملتُها معي من الكويت، كتفسير ابن كثير، وسيرة ابن هشام، و"عبقريّة خالد" لـ عباس محمود العقاد، وتطوّعتُ في مدينةِ تمبي أميناً لمكتبة المركز الثقافي الإسلامي، فكانت فرصةً لقراءاتٍ أخرى مختلفة في فلسفةِ أبيقور و"ظلال قطب" و"الرحيق المختوم" لـ المباركفوري. 

وأظنّ هذا الخليطُ العشوائيّ، من قراءاتٍ مبكّرة لازلتُ أذكرها، وأخرى نسيتُها، لعبَ دوراً في تشكيلِ تربةِ الرّؤى والأفكارِ الأساسيّة لدي. وبعد التخرج والعمل في الكويت، أتت مرحلةُ القراءةِ التي سبقتْ محاولتي الإبداعية، وكنتُ أستكشفُ فيها عوالم سرديةٍ مُعيّنةٍ كالعاَلمِ القصصيّ لـ وليد المسلّم، وأدبِ ليلى العثمان، التي أزعمُ التأثّرَ بها بشكلٍ خاصّ، ولعلّ من أهمّ الرواياتِ التي اطلعتُ عليها، وسبقت محاولةَ الكتابة بقليل: "أولاد حارتنا" لـ نجيب محفوظ، و"موسم الهجرة إلى الشمال" لـ الطيّب صالح.

ومع شروعي في محاولةِ كتابةِ القصةِ القصيرة، عام 2009، صارت قراءتي أكثر تركيزاً، فاطلعتُ على قصصِ يوسف إدريس، وزكريّا تامر، ثم توجهتُ إلى السّرد المترجم، كقصصِ الأميركيّين وليام فوكنر، وأرنست همنغواي، ونماذج من أدبِ أميركا اللاتينية، كروايات ماريو يوسا، وكثيرٍ غيرهم؛ دون إغفالِ السّرِد العربي المعاصر، كالعالَمِ الروائيّ لـ فواز حداد، الذي تأثرتُ به في مرحلةٍ متأخّرة.

 - ما الرواية التي تتمنى لو كنت مؤلفها؟

ينسبُ لـ أندريه جيد القولُ "أمّهاتُ الكتبِ العالمية ثلاثة: أشعارُ هوميروس، الكتابُ المقدّس، وألف ليلة وليلة"؛ فإذا كان الأوّل لـ هوميروس، والثاني تنزيلٌ سماويّ، فإني لا أطمحُ لأن أكونَ مؤلِّفَ الثالث، لكني فقط أتمنّى لو أتعرّف إليه، أو ربّما إليهم، لأطرحَ عليهم، أو عليه، سؤالاً واحداً: كيف فعلتَها؟

- كيف تجد فكرة تسويق الأعمال الروائية، وهل تبلورت سوق عربية للرواية؟

الأوْلى والأهمّ من التّسويق هو التّوزيع. ما جدوى تسويقِ كتابٍ غير متوفّرٍ في المكتبات؟ ما يسبقُ التسويق وتفتقرُ إليه دورُ النشرِ النّاشئة هو: التوزيع.

- كيف تنظر إلى واقع النقد في العالم العربي؟

السؤالُ يذكّرني بما تقولُه عن هذا "الواقع"، النّاقدةُ اللبنانيّة "صباح زوين" وأتفقُ فيه معها؛ تقول: (أفضّلُ أن أقولَ «مراجعو كتب» في الصّحافةِ العربيةِ واللبنانية؛ الصّحافةُ الغربيّةُ أيضاً ليست على أفضلِ حال: النقدُ فيها ليس نقداً إنما مراجعةً سخيفةً للكتب). وأذكرُ تعليقَ صديقٍ مغتربٍ على رأي زوين بالقولِ إنّ النقدَ في السّويد، مثلاً، حيث يُقيم، أو مراجعةَ الكتبِ بتعبيرٍ أدقّ، هي مراجعةٌ "مُبكِيَة"!  فـ"أيّ عملٍ يُكتب يلقى تهليلاً وتشجيعاً، ويوصَفُ بكثيرٍ من الكلامِ الإيجابيّ غيرِ المفهوم"، ولعلّ هذا منطبقٌ نسبياً على واقع مراجعةِ الكتب العربية، مع عجزها عن مواكبةِ غزارة الإنتاج السرديّ، وعن التنقيبِ عمّا يستحقّ التناولَ نقدياً، أو حتّى بالمراجَعة، التي لا تعدّ في حقيقتِها نقداً، برأي زوين إذ تقول: "بالنّسبةِ للنقد الذي كنتُ أمارسُه ولا أزالُ أحياناً، فهو نقدٌ في العمقِ وليسَ مراجعةً صحفيّة، بمعنى أنّي لا أقومُ بسردِ خبريّة، بل أقومُ بنقدٍ يُوازي النصَّ ويفكّكُه ويدخلُ إلى أعماقِه. هذا ما أتعبَني وأرهقَني وأنهكَني"؛ هذا هو إذن جوهرُ النّقد، بالنّسبةِ لزوين على الأقل.

أما بالنسبة لهذا "الواقع" في الكويت، ولا أدري عن مدى انطباقِه عربياًّ، فيعاني الخمول، والتوقّفَ عندَ أدبِ عقْدِ الثّمانينيات الذي تناولَه مجايلوه بالنّقد، ولم يتجاوَزوه إلى التّسعينيات وصولاً إلى الألفيّة.

-  هل تحدّثنا عن خيط البداية الذي شكّل شرارة لأحد أعمالك الروائية؟

كانت الشّرارةُ التي تمخّضت عنها روايةُ "وادي الشمس: مذكرة العنقاء" خبراً مؤلماً في الجريدة، عن زوجيْن وجدَهما رجالُ الأمنِ ميّتيْن في سيّارتهما، بعدما ضلّا الطّريقَ في صحراءِ الرّبع الخالي؛ فكانت نواةُ الروايةِ العثورَ على مذكراتٍ بحوزةِ زوجَيْن ماتا من العطشِ في سيارةٍ تاها بها في الصحراء الأردنيّة.

- إلى أيّ حدّ تلعب الجوائز دوراً في تصدير الأعمال الروائية أو التعتيم على روايات أخرى؟

يبدو أن ثنائيّة "التّصدير" و"التّعتيم"، كما في سياق السؤال، فيها كثيرٌ من الدقّة. الجوائز التي يُفترض فيها تشجيعُ مبدعين في "العتمة" بإلقاء "الضّوء" على أعمالهم، تتحوّل في كثيرٍ من الأحيان إلى لعبةِ ناشرين لهم حساباتهم التّجاريّة. في العام الماضي، مثلاً، زاحمَ كلٌّ من" سلمان رشدي" و"إليف شافاق" مؤلِّفين لم يسمع العالمُ بهم، على جائزةِ مان بوكر، بنسخِتها الإنجليزيّة الأصليّة، ما طرحَ تساؤلاتٍ مُستحقَّة: ماذا ستضيفُ الجائزةُ لهما، أو للأدب؟ أيفتقدُ رشدي وشافاق للتّشجيع؟ أم للتقدير؟ أهو المال؟ ألم تُتَرجم أعمالُهما إلى لغاتِ الأرض؟ ألا يجدر بالعالمِ أن يسمعَ أصواتاً جديدة؟ أم يتبعان خُطى "النّوبلي" أورهان باموك، حين نافسَ مؤلّفين شبّاناً وآخرين مغمورين نسبيّاً في 2016، على مان بوكر العالمية؟ (نالتها جوخة الحارثي 2019).

وربّما عذر أولئك، الذي قد يعفيهم أو لا يعفيهم، يعيدنا إلى تجارةِ النّاشرين، إذ هم المعنيّون بالترشّح للجوائز وحساباتِها التّسويقيّة، لا المؤلفون.

أما "ثقافة الجوائز العربية" فعلى حالٍ شبيه أو أسوأ، بتكرسيها نوعاً من الطبقيّة الوهميّة بين المؤلفين، وشعوراً مخاتلاً بالفوقيّة عند بعضهم، يصدّقون معه بأن أعمالهم أكثر إبداعاً من غيرهم.

-  كيف تجد واقع ترجمة الأدب العربي إلى اللغات الأخرى؟

أهناك حقّاً حركة ترجمة من العربية؟ أظنّ "واقع ترجمة الأدب العربي"، إن وُجد، فهو شبه معدوم. أرجو أن أكونَ مخطئاً.

- يعاني المبدع من سلطة الرقابة خاصة (الاجتماعية والسياسية والدينية) إلى أي درجة تشعر بهيمنتها على أعمالك؟ وهل تحدّ من إيصال رسالتك الإبداعية وهل أنت مع نسف جميع السلطات الرقابية؟

منعُ الكتبِ بسُلطةٍ رقابيةٍ هو ببساطة نوعٌ من مصادرة حرية التعبير. لا بدّ من قانونٍ غايته تنظيمَ النّشر لا مراقبته، يبقى المنعُ معه، في أضيقِ الحدود، أمراً تبتُّ فيه المحكمة، لا الرقابة.

-  ما هي رسالتك لقرّائك؟

"كلّ مؤلّفٍ تقرأُ لهُ يتركُ في تفكيرِك مساربَ وأخاديد، فلا تقرأ إﻻ لمن تعرفه بعمقِ التّفكير، وصدقِ التّعبير، وحرارةِ القلم، واستقامةِ الضّمير!"، هذه نصيحةٌ من مصطفى الرّافعي، ليست منّي، ولا مانع معها من الاستطرادِ بقولِ فواز حداد: لا شيء يضيعُ هباء؛ الكتب، حتّى السيئ منها، يعطينا درساً في الرّكاكة!

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم