الرواية نت - لندن

الروائي المغربي إسماعيل غزالي أن الرواية لديها المقدرة الجمالية كي تحتوي التقنية بطريقتها الخاصة، وتقوّض هي الأخرى المجرى الجارف للصورة، لصالح فنّها.

ويلفت غزالي في حوراه مع الرواية نت أنه طالما انتابته الرغبة في كتابة رواية إفريقية، بالمعنى الذي تتسلّل فيه الكتابة إلى الوجدان الإفريقي الإنساني المشترك، ويقول: نحن كشمال- إفريقيين، لا نلتفت إلى هويتنا القارية إلا لماما، وهذا مفقود بفداحة على نحو جمالي في متننا الروائي.

  • كيف تقيّم تجربتك مع القراء؟

القارئُ الجيّد هو الذي يفاجِئُك بما تجهلهُ كلّياً عنْ روايتكَ. حين تؤُولُ الروايةُ إليه، وإذ يجدِّدُها بقراءته، فإنّما يجدّدُ جذريا علاقتكَ بها أيضا، بأنْ يكشفَ لك ما لم تكن تراه في عملك، من ذي قبل... وهذا نادرٌ.

أخطرُ القرّاء حقيقةً هم كتّابٌ مضاعفون، ينْبغون في التّسلّل إلى البياضات المفخّخة في الرواية، صوب مناطق الصّمت التي يلوذ إليها صخبُ النصّ، وبذلك، لا يخطئون المكان السري، الخفيّ، لصندوق الباندورا الذي اندلعتْ منه شرور العمل... ومع ذلك أعوّل على قارئٍ ينسى ما تعوّده من مألوف القراءات السّابقة، لأنّ أخطر الروايات على الإطلاق في نظري، هي تلك التي تُحدِثُ رجّة في عادة القراءة نفسها، وتقلبها جذريا بأن تقترح وتفرض قراءتها الخاصة بها، اللامألوفة، اللا تشبه أنماط القراءات الأخرى، لنصوص سالفة.

  • ما أهم الأعمال الروائية التي أثرت في تجربتك الإبداعية؟ ما الرواية التي تتمنى لو كنت مؤلفها؟ هل من رواية تندم على كتابتها أو تشعر أنك تسرعت في نشرها؟ ولماذا؟

لا نأتي إلى الكتابة من عدمٍ، ومن يزعم عدم التأثر في مجمل بداياته بأعمال أخرى، مدّعٍ وأفّاق.

هناك فرق شاسعٌ بين روايات أثّرتْ في قراءتك، وبين روايات أثّرتْ في كتابتك... الشقّ الأوّل لو جاز لي الحديث عنه فيحتاج لكتابٍ مستقلٍّ، لا يمكن تكثيفُه ها هنا على عجلٍ، لأنّ الأمر شبيه بتقويضِ غابةٍ أمازونية داخل مزهرية.

والشقّ الثاني محضُ سيرورة نوعية لتراكمات ذات متغيّرات، وطفرات، بحسب مراحلَ متعاقبة، وذات قطائع في آن، قبل أن يكتب المرء روايته الخاصّة، ويستقلّ بذاته إن صحّ الزعمُ، ومع ذلك لا يمكن أن أنكر امتناني لروايات عظيمة أحدثت أثرا غائرا في رؤيتي وتخييلي... لا هذه وتلك على سبيل التحديد، وإنما مجتمعةً، كيفما كان سلّم التباين فيما بينها...  

الرواية التي تمنيت لو كنت مؤلّفها! لم يهاجسْني شعورٌ فيما سبق، على هذا النّحو، بالنّسبة لي، لا يوجد ما يمكن أن يتخطّى تحقّق متعةٍ خالصة برواية جيّدة فعلا، أو يتخطّى الاعجابَ الدّامغ برواياتٍ جديرةٍ فعلا بخطورة هذا الفنّ، ولو كانت ضدّه، ذات أثر راسخٍ وأبديٍّ، على قلّتها.

تعلّمتُ عدم الالتفات إلى ما تجاسرتُ على إصداره آنفا، وهكذا أحاول نسيان ما نشرته بأسرع ما يكون، لأنه استقلّ بذاته، والمفترض أن يكون قد شقّ حيواته المتعدّدة مع القرّاء، بعيدا عنّي... بالمقابل، ما أفكّر فيه، هو ما لم أكتبه بعد.

  • كيف ترى مستقبل الرواية في عالم متسارع يمضي نحو ثقافة الصورة؟

 أمس، أخطأ التقدير، بعضٌ من الروائيين والنّقاد على حدّ سواء، بأنْ أنذروا بحماقة، على سبيل النعي (موت الرواية)، وكأنّ الرواية انتهت عندهم، وما سيأتي عدمٌ... من كان يتوقع أن تصخب الرواية من جديد، وترفع سقفها شاهقا، لا بسبب الرياح التي نفختها الجوائز وهذا هامشٌ ضئيلٌ جدًّا، بل بسبب صدع التحوّلات الطارئة التي لم يحسبوا حسابها جيّدا، فاغتنتْ كِتابَتُها بأسماءِ طفرةٍ جديدة، طليعيّة ومغايرة، أحدثت متغيّرات هائلة، وفتحت شرايين أخرى، أضافت طبقاتٍ للعمارة الروائية العربية، ومنهم من يمّم بها شطْرَ العالميّة.

مستقبل الرواية لا أحد يمكن أن يرسم خرائطه بنبوءة العرافين، أو قراء طالع مجهولها، إلا ما تقوله هي نفسها، وكانت دائما سبّاقةً بمجازفة تخييلها اللامشروطة، المتخطّية للحدود، أن تُطلَّ على الآتي، وتصوغ بعض المآلات ... الطبيعيُّ أن التقدّم الخارق للتقنية بما فيها تغوّلُ استحواذ الصّورة، سيقوّض من الرواية كما نعرفها في الحاضر، ولكنّ الرواية لديها المقدرة الجمالية كي تحتوي التقنية بطريقتها الخاصة، وتقوّض هي الأخرى المجرى الجارف للصورة، لصالح فنّها. لا يتعلّق الأمر بنبوءة أو نظرة مستشرفة، بل محض ثقة عظيمة في الرواية، كيف؟ نعم، العالم بجلال قدره، لا يعدو أن يكون جزءا من الرواية. خذها محمل مزحة وليس محمل جدية طبعا.

  • كيف تنظر إلى واقع النقد في العالم العربي؟ إلى أيّ حدّ تعتبر أنّك تجربتك أخذت حقها من النقد؟

القليلُ منه إذا فاجأك من حيث لم تحتسب يكفي، وأمّا كثرتُه – ومعظمُه نشازٌ- فتعمي.

أقدّرُ تماما، شجاعة منْ كتب عن بعض أعمالي، على قلّتهم، ولكنّها قلة نوعية كما ألمعتُ إلى ذلك آنفا، وهذا الأهمّ.

  • كيف تجد فكرة تسويق الأعمال الروائية، وهل تبلورت سوق عربية للرواية؟

هذا سؤال يمكن أن تطرحه على ناشر، وموزّع، ومكتبيّ ومدبّرٍ لشؤون النتاج في هكذا سوق... ليست هذه مهمتي وما ينبغي لها أن تكون.

  • هل تحدّثنا عن خيط البداية الذي شكّل شرارة لأحد أعمالك الروائية؟

المسألة معقدّة، وليست بهذه البساطة، نعم، في البدء تهاجِسُك فكرة، ومثل كرة الثلج تكبر وتتفاقم على نحو مهول في داخلك، حتى تستوفي شروطَ مدارهِا في ذهنك المنفصم باستيهاماتها والمؤرّق بتشعّباتها لفترةٍ، ثم يستحوذ عليك نداءُ الكتابة الضّاري، وما أن تشرع في الكتابة تمكر بك الرواية، وترْدُمُ مخطّطك المسبق، مفاجئةً إيّاك بمخطّطاتها المجهولة... خذْ على سبيل المثال، "ثلاثة أيام في كازابلانكا"، قرأتُ مصادفة خبرا فجائعيا، ينعي موت شابٍّ زنجيّ إفريقي، سقطتْ عليه حاشية من أنقاض فندق "لينكولن"، وأردته قتيلا... خبرٌ ليس غريبا على كاهل أخبار واقعنا اليومي المأساوي... لكنّه أبى إلا أن يلازمني، وطفقتُ أتخيّلُ حكاية هذا المتشرّد الإفريقي في مهبِّ الحكاية المحزنة لأيقونة فندق لينكولن نفسه، أولى التحف المعمارية التي شُيِّدت في شارع محمد الخامس، بالمقابل مع المارشي سنطرال، سنة 1917، وما آلت إليه هذه العلامة إلى أنقاض، ما يزال ملفها عالقا وشائكا في مجاهل القضاء بين المجلس البلدي ووارثيها...الخ

تعاطفت مع هذا الزنجيّ المتشرّد، ووجدتُني مشغول الخيال، برحلته من بلده في جنوب صحراء القارة مشيا على الأقدام حتى وصوله إلى الدار البيضاء كنقطةِ عبورٍ صوب الشمال (طنجة) بغية الهجرة نحو إسبانيا... وإذا بقدر كازابلانكا الأسود يتلقفه، فيلقى حتفه بهذه الطريقة المؤلمة.

طالما انتابتني الرغبة في كتابة رواية إفريقية، بالمعنى الذي تتسلّل فيه الكتابة إلى الوجدان الإفريقي الإنساني المشترك، فنحن كشمال- إفريقيين، لا نلتفت إلى هويتنا القارية إلا لماما، وهذا مفقود بفداحة على نحو جمالي في متننا الروائي...

هذا سديم الفكرة الذي عنّ لي بدايةً، قبل أن أقبض على رأس خيطه، فيما بعد، وصارت الرواية شيئا مختلفا جذريا عمّا خطّطتُه مُسبقا.

  • إلى أيّ تلعب الجوائز دوراً في تصدير الأعمال الروائية أو التعتيم على روايات أخرى؟

شأن كلّ الجوائز في العالم، قد تكون منصفة نسبيّا حينا، وقد تكون غير عادلة بالمرّة، أحيانا كثيرا، كثيرا... تلك هي اللعبة. ولكن، لا يجب أن نرهن قيمة ومعنى الكتابة للجوائز، ونجعل منها السلطة التقديرية الأحادية لتقييم الأعمال الروائيّة.

أعظم جائزة على الإطلاق هي تقدير القارئ، وأما الجوائز الأخرى فعند أخمص الحذاء. إنْ مُنِحتْ لك فهذا جيِّد، لأنها شيء لاحق، المهمّ أن لا تسعى إليها وأنت قيد الكتابة، ألا يعتورَ نواياكَ إغواؤها لحظة الخلق الفنّي. دعها خارج الحسابات، دائما، حتّى لا يغدو ما ترتكب كتابته محض هراء.

  • كيف تجد واقع ترجمة الأدب العربي إلى اللغات الأخرى؟

بائس جدّا، فضلا عن بعض النّصوص الجيّدة المترجمة وهي جديرة بذلك، هناك بالمقابل بعض النصوص الركيكة التي لا تمثلّ الأدب العربي في شيءٍ.

المشروع الجدّي الوحيد الذي أعرفه هو ما تفعله بجسارة، مجلّة بانيبال العالمية بإشراف العزيزين صامويل شمعون وماغي... وغير هذا، هناك مشاريع فردية لمترجمين من الغرب (حتى لا أقول مستشرقين لأن هذا المصطلح صار متحفيا بنظري)، نادرون جدا، زدْ على ذلك مبادرات كتاب عرب أنفسهم، ضمن مقترحات أنطولوجيات... تظلّ يتيمة وعزلاء، وهذا لا يكفي.

  • يعاني المبدع من سلطة الرقابة خاصة (الاجتماعية والسياسية والدينية) إلى أي درجة تشعر بهيمنتها على أعمالك؟ أو الحد من إيصال رسالتك الإبداعية وهل أنت مع نسف جميع السلطات الرقابية؟

لا قيمة ولا معنى لكتابةٍ تحتكم إلى رقابة خاصّة، إما أن تكون الكتابة حرية مطلقة أو لا تكون.

  • ما هي رسالتك لقرّائك؟

لستُ نبيّا لتكون لي رسالة.

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم