الرواية نت - لندن

يعترف الروائي العراقي حميد يونس أنه لم يكتب إلا حين شعر بحالة من اليأس والوجع إلى درجة لم يجد من حلّ إلا في الكتابة، كوسيلة علاجية أو مجرد هروب، للتخلص مما كان يعتريه.

وفي حواره مع الرواية نت يلفت مبدع «آخر أمراض الكوكب» أنّنا ما زلنا في بداية العصر الكتابي الأول، وأنّنا ربما قد خرجنا من قوقعة الورّاقين، لكن سوق الكتب ما زالت غرّة لا رجاء فيها.

يتطرق الروائي والمترجم حميد يونس إلى عدد من المسائل الأدبية والحياتية في حواره مع الرواية نت..

  • كيف تقيّم تجربتك مع القراء؟

لو أعدنا صياغة السؤال بالأحرى وقلنا «ما الذي تتوقعه من القراء في تجربتك الكتابية؟»، لكان جوابي في هذه الحالة أنني حين كتبت روايتي الأولى، كان مسعاي يتمحور في إقناع القارئ في ما يقرأه، أو إيجاد التقانات الجديدة والعبارات التي تجذب القارئ، أي أن الكتاب لم يكن يخصني حرفياً، أو كأنني أكتب لأحد آخر غير نفسي. لكن بعد التجربة الأولى، وجدت تفكيري يتغير، ولم أعد أكترث في ما يقوله الآخرون، ووجدت نفسي أبحث عن ما أريد قوله، أو أبحث عن نفسي في ما أريد اكتشافه. لقد بدأ الشغف الكتابي يتحول من الخارج إلى الداخل في معنى من المعاني. ولا أدري هل في ذلك صحّة أو تشكّك؟ لكنني أعلم أنني قد تصالحت مع نفسي، ولم أعد استعجل أو اتسرع في اختيار العبارات أو تتمة الفصول، كلّ شيء بات مفتوح الحوارات والنهايات، فلا أكتب إلا ما أريد، ووقتما أريد. أما القراء، فأنهم –مهما قلّت أعدادهم واختلفت ذائقتهم-، فلا بدّ أن يأتي يوماً ويقول أحدهم عنك أو عن كتابك هذا مرادي.

  • ما أهم الأعمال الروائية التي أثرت في تجربتك الإبداعية؟ ما الرواية التي تتمنى لو كنت مؤلفها؟ هل من رواية تندم على كتابتها أو تشعر أنك تسرعت في نشرها؟ ولماذا؟

في بداية عملي الكتابي، كنت ألتهم الكثير من الروايات دونما رادع وتبصّر، فانصدمت بكمّ الروايات والأعمال التي لا تعنيني ولا تناسب تلافيف دماغي. وفي المقابل، كنت كلّما أقرأ عملاً جباراً أقول إن هذا الكتاب هو الأفضل، أو إن هذا الكاتب هو مثلي الأعلى؛ فرانز كافكا، أو هاروكي موراكامي، أو جوزيه ساراماغو، أو خوان خوسيه مياس. لكن حين أعيد النظر وأتفحص رفوف الروايات، لا أجد نفسي راغباً في إعادة قراءة (وإعادة قراءة الرواية يوازي أمنية أن تكون مؤلف العمل في رأيي) إلا ثلاث روايات فقط. وبالفعل أجد في هذه الروايات حلمي (ونفسي)، وأرجو يوماً ما أن أكتب شيئاً قريباً منها: (ثلاثية نيويورك) لبول أوستر، و(المسرات والأوجاع) لفؤاد التكرلي، و(القنافذ في يومٍ ساخن) لفلاح رحيم.

أما في ما يخصّ مسألة الاستعجال في النشر، فلا أجد أن الكتّاب يختلفون في أنهم جميعاً يندمون على الاستعجال. عندما أطالع سير غالبية الروائيين – قديماً وحديثاً- أجدهم يتردّدون في نشر مؤلفاتهم، ويعتقدون أنها كانت ناقصة عبارة أو مستعجلة في وصف ما أو شيء من هذا القبيل. والأمر سيّان عندي واقعاً، وقد يكون في ذلك نوعاً من الحسنى، فما دمت قد نشرت الكتاب ووجدت فيه زيادة أو نقيصة، يكون لديك الحافز لكتابة شيء آخر تحاول فيه تصحيح ما قد اقترفت، أو إضافة ما تخلّف عنه عملك السابق. 

  • كيف ترى مستقبل الرواية في عالم متسارع يمضي نحو ثقافة الصورة؟

لا أرى الأمر قد اختلف كثيراً بين قبل وبعد فعلاً. نعم، أنا لا أنكر أن الانشغالات ووسائل الترفيه قد ازدادت وتعملقت في عالم القرن الواحد والعشرين، لكن الحاجة إلى القراءة، وإلى الأدب على وجه الخصوص، قد بقيت دون مساس، بل وازدادت باطراد. وأنا –أصدقكم القول- بدوري لم أسلم من ثقافة الصورة، بل أكاد أكون أحد أبناء جيل ثقافة الصورة. ولو تمعنا قليلاً في ما حاق بالعالم من فوضى وحروب وجائحات في آخر عشر سنوات، لوجدنا أن الثقافة كانت (وما زالت) تحاول أن تستبطن أفكارها (وتنسخها) من عالم المعرفة (الفلسفة والرواية) طويل الأثر، وليس من عالم المعلومات والخوارزميات سريع التلاشي.

  • كيف تنظر إلى واقع النقد في العالم العربي؟

هذا ما لا أبرع في الحديث عنه صراحة، بل لا أجد الشغف كي أجاريه أو أمتدحه أو أذمه. فلست ابن هذه المدرسة ولا أجيدها. لكنني أقرأ للكثير من الكتّاب والأدباء الذين يشتكون من النقد ويعدّوه وظيفة سلبية تحجم من عمل الكتابة ولا تزيد من حظها أو ترتقي بها. أما أنا فلا أجد في النقد مثلبة مطلقاً، بل حتى النقد في عالمنا العربي الذي يتقوّل أنه حبيس النظريات البالية، والمصطلحات الجامدة، فضلاً عن التماهي والوساطات والعداوات والقدح غريب الأطوار. لكن عندما أطالع ما يكتب في مقالات العالم (غير العربي)، أجد أن الأمر متشابه جداً –إن كان في ذلك بعض العزاء-، إذ أن النقد (الأكاديمي) في العالم الغربي يشكو من المشكلات نفسها والأحاديث عينها. نعم، نحن بحاجة إلى النقد مهما كان وكيفما كان وفي أي طريقة ناقصة أو مذمومة كانت.

  • إلى أيّ حدّ تعتبر أنّ تجربتك أخذت حقها من النقد؟

لا أجد أنها أخذت حقها من النقد على الإطلاق، في رأيي المتواضع أن الأعمال الروائية لا تأخذ حصتها الحقيقية من النقد إلا في حالتين فقط: الأولى أن يكون الكتاب أو مؤلف الكتاب مشهورين، ليكون المقال مغناطيسياً ينجذب إليه القراء ويكتسب في ذلك الشهرة والحبور. والثانية أن يجلس المؤلف بنفسه قرب عتبة أبواب النقّاد والقراء على حدٍّ سواء، ويستميح منهم العذر كي يقرأون أعماله أو ينقدونها إن سمح لهم الحماس والوقت بذلك. وذلك ما لا أطيقه فعلاً. ولا أدري لماذا تحضرني صورة كورتاثار في عالم الدستوبيا الذي يتملق فيه الكتّاب قراءهم، ويبتدعون طرق خيالية لاجتذابهم والتوسّل بهم (من سيقرأ والجميع أمسى كتّاباً؟).

  • كيف تجد فكرة تسويق الأعمال الروائية، وهل تبلورت سوق عربية للرواية؟

هذه قصة أخرى، أعاني كثيراً في نشر الأعمال التي أقوم بترجمتها على وجه الخصوص، فأنا أقوم بترجمة الكتب التي تعنى بالطبّ النفسي وفلسفاته الحديثة. لكنني أبقى أطرق أبواب دور النشر دون أن أجد ترحاباً. ربما تكون للأعمال الروائية وما يتعلق بالأعمال الروائية (والأسماء الكبيرة سواء من عرب أو ترجمات غير عربية) من الحظّ والترحاب أكثر مما لغير ذلك من مؤلفات. السوق العربية تحتاج إلى عالم مؤسساتي ودعم حكومي كما تعلمون، ودور النشر في أحد الأوجه تبقى مؤسسة ربحية، ولا تريد أن تغامر في كتاب لا يباع أو ترجمة لا يكترث أحد بها. والحق يقال، ما زلنا في بداية العصر الكتابي الأول، ربما قد خرجنا من قوقعة الورّاقين، لكن سوق الكتب ما زالت غرّة لا رجاء فيها.

  • هل تحدّثنا عن خيط البداية الذي شكّل شرارة لأحد أعمالك الروائية؟

الحقيقة أنني لم أكتب إلا حين شعرت بحالة من اليأس والوجع إلى درجة لم أجد من حلّ إلا في الكتابة (كوسيلة علاجية أو مجرد هروب) للتخلص مما كان يعتريني. حدث ذلك بعد انفجار الكرّادة في 2016. نعم، كنت قبل ذلك أترجم الكثير من المقالات الأدبية والعلمية (التي تجمع بين الأدب والطبّ النفسي خاصّة). لكن بعد الانفجار أردت الهروب من كلّ شيء، من الوطن والحياة والجدوى، فكرت في كل الاحتمالات، وبما أنني جبانٌ في طبعي، لذلك وجدت أن الكتابة أشجع الخيارات الجبانة التي يمكن أن أقوم بها، وهكذا ولدت رواية (آخر امراض الكوكب).

  • إلى أيّ حدّ تلعب الجوائز دوراً في تصدير الأعمال الروائية أو التعتيم على روايات أخرى؟

لقد أشبع هذا الموضوع نقاشاً وجدالاً. فبعضهم يقول أن الجوائز تساعد على جذب القرّاء نحو بعض الأعمال وتسليط الضوء على بعض الموضوعات، وآخرون يجدون أن الجوائز تغرق الكثير من اللآلئ وتدفن الكثير من الكنوز. لكن المشكلة في رأيي لا تكمن في الجوائز، أو اللجان التحكيمية، وما فيها من إشكالات. لكن الحكومات ومؤسساتها لا تدعم دور النشر وعالم الكتب والمؤلفات، ولا تعمل على تقديم الكتّاب أو امتداحهم أو الاحتفاء بهم وبنتاجاتهم، وفي ذلك يكون التصدير أسهل وأمتن من عالم الجوائز ضيق الأفق الذي نشكو منه وننتقده.

  • كيف تجد واقع ترجمة الأدب العربي إلى اللغات الأخرى؟

لا أجد في الأمر واقع بل أقرب إلى الموضوع الخيالي أصلاً. أنا أتابع عن كثب ما يترجم من الأدب إلى اللغات العالمية، وللأسف فأن الاحتفاء والامتداح لا يأتي إلا بعد أن تترجم الروايات إلى غير العربية. ورواية (الموت عمل شاق) للروائي السوري خالد خليفة خير مثال على ذلك.

  • يعاني المبدع من سلطة الرقابة خاصة (الاجتماعية والسياسية والدينية) إلى أي درجة تشعر بهيمنتها على أعمالك؟ وهل تحدّ من إيصال رسالتك الإبداعية وهل أنت مع نسف جميع السلطات الرقابية؟

لا أشك أن الجميع يعارض ما لسلطة الرقابة من ضرر على النتاج الإبداعي والحدّ من تسويق الأعمال وصعودها، لكن شخصياً لم أعاني منها، فالعراق ما زال في حالة فوضى، والرقابة من آخر همومه. ولو في ذلك سلاح ذو حدّين، فلم تأخذ رائعة نجيب محفوظ (أولاد حارتنا) حقّها إلا بعد أن تعرضت إلى ظلم السلطة الرقابية وسطوتها. وما دمنا قد أتينا على ذكر نجيب محفوظ في حديثنا، أذكر أنه قد سُئل عن رواية سلمان رشدي (أبناء منتصف الليل)، والتي كانت مثالاً نموذجياً لحرية الكتابة المطلقة، فأجاب: «سأقول لك بالضبط ما أعتقد به: لكل مجتمع تقاليده، وقوانينه، ومعتقداته الدينية. وهذه جميعاً تحاول وضع الحدود. وبين الحين والحين يأتي أشخاص يطالبون بالتغيير. أعتقد أن من حقّ المجتمع أن يحمي نفسه، كما أن للفرد الحقّ في مهاجمة ما يختلف معه. فإن رأى كاتب أن قوانين مجتمعه أو معتقداته لم تعد صالحة أو حتى ضارّة، فمن واجبه أن يتكلم. ولكن عليه أن يكون مستعداً لدفع ثمن الجهر برأيه. ولو لم يكن جاهزاً لدفع هذا الثمن، فبوسعه أن يؤثر الصمت. والتاريخ زاخر بمن سجنوا وأحرقوا لجهرهم بأفكارهم. ذلك أن المجتمع دائماً يدافع عن نفسه. وأنا مثلاً أدافع عن حرية التعبير وعن حقّ المجتمع في مناهضتها. وعليّ أن أدفع ثمن الاختلاف. تلك طبائع الأمور».

  • ما هي رسالتك لقرّائك؟

أعتقد أن رسالتي الخاصّة لم تتضح بعد، فلم أجد نفسي بعد قد وصلت إلى مبتغاي. لكن هل يجب أن أكتب؟ لا جدال في ذلك، ولا جدال من تبنّي هدف سامٍ ومحدد أسعى إلى تحقيقه، ولا أترك العمر يمضي ضحية لفوضى الحياة والزمن والمصادفات. ما زلت أقرأ مثلي مثل بقية القراء، فأنا قارئ أكثر منّي كاتباً في الحقيقة. نعم، ما زلت أحاول اكتشاف نفسي في ما أكتب، أو لعلّ الرسالة موجودة في أحد الكتب دون أن أعي ذلك، أو موجودة في داخلي، أو لعلّي أموت وأنا لا أدري ما السبب الذي دفعني للكتابة أو العيش من الأساس..!

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم