الرواية نت - لندن

يتمنّى الروائي السوري مناف زيتون المقيم في دبي، لو أنه جرب حالة التباعد الاجتماعي وخلو المدن الكبرى قبل نشر روايته "ظلال الآخرين"، وأنه لربما استطاعت تقديم مقاربة أكثر عمقاً لمشاهد المدن الخالية الموجودة فيها.

في حواره مع الرواية نت يشدّد مبدع "قليل من الموت" على أنه لا يمكن للنقد أن يزدهر، وأن يكون مساهماً إيجابياً في الأدب، دون دعم مؤسساتي وحكومي، وهو ما نفتقده في عالمنا العربي.

يطرح مناف زيتون في هذا الحوار بعض آرائه في مسائل أدبية وحياتية عديدة بجرأة لافتة..

  • كيف تقيّم تجربتك مع القراء؟

معظم تواصلي مع القراء يحصل بشكل شخصي، خصوصاً عبر الإنترنت. جميلة هي وضعية العصر الحالي التي تجعلنا قادرين على سماع آراء القراء وانطباعاتهم بشكل مباشر، وقد اكتسبت الكثير من الأصدقاء بفضل رواياتي يسعدني أن يكون تعارفنا الأول عبر رواياتي، الجانب الذي يرغب أي روائي أن يكون ما يعرفه الآخرون من شخصيته.

ولكن من ناحية أخرى، ردود الفعل السريعة هذه تكون ذات أثر سلبي أحياناً، خصوصاً حين تأتي من قراء لا يمثلون الشريحة التي أحاول مخاطبتها في رواياتي، أو من يبدون آراءً سلبية لاعتبارات شخصية.

بشكل عام، أرى أن علاقتي بقرّائي، خصوصاً من كان التواصل بيننا متبادلاً، مفيدة أكثر مما هي ضارّة بكتابتي، لأنها تتيح مرآة أرى من خلالها شخصيتي الروائية ومدى مطابقتها لما أتصوره.

  • ما أهم الأعمال الروائية التي أثرت في تجربتك الإبداعية؟ ما الرواية التي تتمنى لو كنت مؤلفها؟ هل من رواية تندم على كتابتها أو تشعر أنك تسرعت في نشرها؟ ولماذا؟

من الصعب تحديد رواية واحدة كانت ذات أثر يتفوق بشكل قاطع على الروايات الأخرى، ولكن إن كان لا بد من التحديد، أعتقد أنها "لعبة الكريات الزجاجية" لهرمان هسه، ولا أعني بأثرها إعجابي بها بقدر ما أعني الرسالة التي يخاطب فيها هسه مختلف الفنانين والعلماء والأدباء والنخب الفكرية عموماً، والتي أدّعي أنها تمسني كذلك كروائي.

رواية "العاصمة القديمة" لياسوناري كاواباتا هي أكثر رواية أتمنى لو كنتُ مؤلفها، وذلك بسبب نجاحها منقطع النظير في تصوير أيام البشر العادية التي لا يظهر فيها الصراع جليّاً، ولكنها في الوقت نفسه تعبّر عن آلام عميقة للإنسان من خلال حوارات بسيطة بين شخصيات عادية.

ليست هناك رواية ندمتُ على كتابتها، ولكنني أشعر أنني تسرّعتُ في نشر كل رواياتي، رغم أنها استغرقت الكثير من الوقت، فرواية "ظلال الآخرين" مثلاً استغرقتْ أكثر من أربع سنوات، ولكن أعتقد أن هذه هي الحال بالنسبة لأي روائي يدرك ثقل أن تكتب رواية. كما إنني أتمنى لو شهدتُ بعض الأحداث قبل نشر بعض الروايات، كما هي الحال اليوم مثلاً، لو إنني جربتُ حالة التباعد الاجتماعي وخلو المدن الكبرى قبل نشر "ظلال الآخرين"، لكنتُ ربما استطعتُ تقديم مقاربة أكثر عمقاً لمشاهد المدن الخالية الموجودة فيها. ولكنني إن تبعتُ هذا الميل لعدم نشر الروايات قبل أن أكون واثقاً تماماً من أنها لا تحتاج أي تحسين بعد لما نشرتُ أي رواية حتى الآن، علماً أنني كتبتُ ثلاث روايات لم أنشرها قبل نشر روايتي الأولى.

  • كيف ترى مستقبل الرواية في عالم متسارع يمضي نحو ثقافة الصورة؟

الرواية لم تكن يوماً، بحسب معرفتي المتواضعة، في المركز. لطالما كانت قراءة الكتب نشاطاً نخبوياً إلى حدٍ ما، وهو نشاط أكثر ندرةً حين يتعلق بقراءة الأدب. كما إنني لا أوافق على كون عالمنا يمضي نحو ثقافة الصورة، إنشاء المحتوى المصور مرتفع الجودة – تقنياً على الأقل – بات أسهل من أي وقت مضى بفضل تقدّم وتوفّر التكنولوجيا اللازمة لذلك، وأصبحت الأفكار هي ما تشكل الفارق بين المحتوى الجيد والمحتوى الرديء، وربما مما يثبت كلامي أن العديد من الأعمال "المصورة" التي حققت نجاحاً في العقدين الأخيرين مقتبسة عن روايات، ولم نشهد في المقابل – على حد علمي – روايات مقتبسة عن أفلام أو مسلسلات، حين يتعلق الأمر بالعمق وجودة الأفكار، ما زالت الغلبة للمكتوب ولن يتغير ذلك في أي وقت قريب.

  • كيف تنظر إلى واقع النقد في العالم العربي؟

لا أعتقد أنني أنسب شخص للحديث عن هذا الجانب كوني لا أقرأ الكثير من المحتوى النقدي، رغم أنني أؤمن – بعكس الآراء السائدة حالياً – أن النجاح بين النقاد من أهم معايير نجاح الروايات، ولكن باعتقادي هناك أثر سلبي لواقع الصحافة العربية – السلبي أصلاً – على واقع النقد المسجون داخل المقالات الصحفية بدلاً من الكتب، فحين يكون مطلوباً من الناقد أن يفنّد خمس روايات مثلاً كل شهر كي يحقق دخلاً معقولاً، لا يمكننا أن نطالبه بأن يتعمق في معالجة هذه الروايات، كما إنه سيكون مضطراً أن يأخذ في الحسبان الحفاظ على علاقته الجيدة بالكتّاب الذين سيشكلون موضوعات مقالاته المستقبلية، هذه الحسابات تفرض عليه طبقة إضافية من الرقابة.

لا يمكن أن يزدهر النقد، والأهم أن يكون مساهماً إيجابياً في الأدب، دون دعم مؤسساتي وحكومي، وهو ما نفتقده في عالمنا العربي. حتى المحاولات الناطقة بالعربية التي تلقى أي دعم يذكر، يأتيها هذا الدعم غالباً من مؤسسات غربية ذات أجندات سياسية أو أيديولوجية، الأمر الذي يجعلنا نفتقد للنقد الذي يعالج الأدب العربي منطلقاً من تربته الشرقية، وينطلق من ذات المركز الذي انطلقت منه الروايات التي يعالجها.

  • إلى أيّ حدّ تعتبر أنّك تجربتك أخذت حقها من النقد؟

كما قلتُ في إجابتي السابقة، واقع الصحافة العربية ترك أثراً سلبياً على النقد، وجعل معالجة العديد من الروايات سطحية جداً – إيجابية كانت أم سلبية، ورواياتي ليست استثناءً في هذه الناحية.

الرواية التي أرى أنها لم تأخذ حقها من النقد أكثر من سواها هي "ظلال الآخرين"، حيث كانت معظم القراءات التي تلقتها تنطلق من تجاربي الروائية السابقة المختلفة عنها تماماً، أو تعزلها عن واقعنا – نحن البشر – الاقتصادي والسياسي الذي تحاول الرواية معالجته، ولكنني في النهاية روائي، ولا أنتظر رجع صدى فورياً على إنتاجي كما هو حال الفنون سهلة الاستهلاك.

  • كيف تجد فكرة تسويق الأعمال الروائية، وهل تبلورت سوق عربية للرواية؟

الأسواق العربية في كل المجالات أسواقٌ غير مشبعة والأعين الاستثمارية تتجه نحوها بكثافة في العقدين الأخيرين، وسوق النشر – التي تشكل الرواية جزءاً منها – ليست استثناءً. إنها سوق غنية وفيها قراءٌ عطشون لأي كتاب جيد، كما إنها تلقى نقاشاً يغيب ربما عن كثير من الروائيين مماثلاً للنقاشات التي تدور حول المنتجات الاستهلاكية، وأعني بذلك المراجعات على وسائل التواصل الاجتماعي وإنشاء المحتوى المرئي والمسموع وتقديمه من أشخاص عاديين لا يسعون لمسيرة نقدية أو أدبية.

أما من ناحية التسويق، وبدون مجاملات، فأرى أنه في الحضيض بالنسبة لمعظم دور النشر العربية. منذ فترة من باب الفضول قمتُ بزيارة صفحات بعض دور النشر العربية الكبرى على فيسبوك، الذي يتيح للمستخدمين الآن رصد المحتوى المدفوع لأي صفحة من باب الشفافية، وتفاجأت بأنها جميعاً ليس لديها أي محتوى مدفوع، بمعنى أن ميزانيتها للتسويق عبر وسائل التواصل الاجتماعي صفر، أو أكثر من ذلك بقليل إذا احتسبنا رواتب من يديرون حساباتها. والأمر نفسه ينطبق على وسائل تواصل اجتماعي مثالية لترويج الكتب مثل غودريدز وتمبلر وميديوم. لا يمكننا الحديث عن وجود تسويق للروايات في حين لا توجد بالكاد ميزانيات لتسويقها سوى في معارض الكتاب التي لا تجذب أي شرائح جديدة من الجمهور، الاستثناء الوحيد الذي وجدته حتى الآن هو لدار نشر بريطانية افتتحت مؤخراً فرعاً لها في المنطقة العربية، ولها حملات مدفوعة مستمرة على فيسبوك وغوغل على الأقل حسبما ما لاحظت.

  • هل تحدّثنا عن خيط البداية الذي شكّل شرارة لأحد أعمالك الروائية؟

معظم ما أكتبه يأتي مخططاً بعد بحث وتأمل، لا أؤمن كثيراً بلحظة الإلهام فيما يتعلق بالروايات، ولكن ما يستحق الذكر على هذا الصعيد روايتي الثانية "طائر الصدى" التي استخدمتُ فيها شخصية غير مرئية كنتُ أتخيلها منذ طفولتي المبكرة، تتحكم بعالم النوم والأحلام وأعقد معها صفقات حول ما أقوم به في اليوم التالي مقابل أن تساعدني على النوم في الليالي التي أعاني فيها من الأرق.

  • إلى أيّ حد تلعب الجوائز دوراً في تصدير الأعمال الروائية أو التعتيم على روايات أخرى؟

لا يمكننا أن ننكر دورها الكبير سواءً لناحية تسليط الضوء عليها عبر التغطية الإعلامية الواسعة التي تحظى بها بعض الجوائز، أو لناحية ترجمة الكثير من الروايات الفائزة أو المرشحة للجوائز، وعلى الصعيد الشخصي ساعدني ترشحي لجائزة الشيخ زايد للكتاب – فرع المؤلف الشاب في تعريف الكثيرين بروايتي الأولى "قليل من الموت". لكنني شخصياً كقارئ لا أقيم وزناً كبيراً للجوائز العربية ومعظم الجوائز الغربية، فهي في معظمها تضع نموذجاً للرواية وتقيّم الأعمال المشاركة على أساسه، الأمر الذي لاحظته مثلاً في جائزة البوكر العربية، التي كتبتُ سابقاً مقالاً مفصلاً حول مواصفات الروايات الفائزة بها والمرشحة لها، والتي تجعلها جائزة لفئة معيّنة من الروايات أكثر مما هي تقييم لجودة الروايات وقيمتها الإنسانية.

لكن هذه الجائزة – كغيرها من الجوائز مثل جائزة نجيب محفوظ والطيب صالح وابن بطوطة – نقطة انطلاق جيّدة لمن بدؤوا حديثاً بقراءة الروايات العربية. الكتّاب الجيدون لا يحتاجون الجوائز، سليم بركات مثلاً لم يكن بحاجة الترشّح لأي جائزة كي ينال احترام القراء والنقّاد ومسارعتهم لاقتناء أي عمل جديد ينشره، وهنري ميلر قدّم أدباً أكثر قيمةً – باعتقادي – من عشرات الفائزين بجائزة نوبل للآداب التي لم يفز بها.

  • كيف تجد واقع ترجمة الأدب العربي إلى اللغات الأخرى؟

بصراحة لا أستطيع القول إنني ملم بكل الترجمات التي تصدر للروايات العربية، ولكن ما ألاحظه هو أننا ندع المبادرة بترجمة الروايات العربية للآخر، الغربي خصوصاً، ومساهمة الجانب العربي في هذه الناحية تقتصر ربما على الجوائز التي تسلط الضوء على بعض الروايات، أما سوى ذلك فهم من يختارون ما يُترجم ولا يُترجم من أدبنا، خصوصاً عبر معرض فرانكفورت.

المشكلة أن التركيز هو على الترجمة إلى اللغات الأوروبية، خصوصاً الإنجليزية، رغم أن الترجمة برأيي يجب أن تشمل لغات الشعوب الأقرب إلينا والتي يشكل بعضها جزءاً من نسيجنا الاجتماعي والثقافي، برأيي يجب أن تمنح الأولوية لترجمة الروايات العربية إلى الكردية والتركية والفارسية مثلاً بدلاً من الإيطالية والفرنسية والإنجليزية، ذلك أن المتحدثين بهذه اللغات يشكلون جزءاً من التاريخ والواقع الذي خرج منه من كتبوا هذه الروايات.

الغرب – وأعني بالذات القراء العاديين لأجل الترفيه ودور النشر التجارية – يحب الروايات التي أسميها "السياحية" حين يتعلق الأمر بالأدب "الأجنبي"، أي التي تعنى بالتعريف بالبلدان المختلفة وثقافاتها أكثر مما تعنى بالمعالجات العالمية للواقع العابرة للجنسيات والثقافات، وهذا الأمر يبخس الكثير من الأعمال العربية الأيقونية حقها.

  • يعاني المبدع من سلطة الرقابة خاصة (الاجتماعية والسياسية والدينية) إلى أي درجة تشعر بهيمنتها على أعمالك؟ أو الحد من إيصال رسالتك الإبداعية وهل أنت مع نسف جميع السلطات الرقابية؟

لا أعتقد أن المبدع الحقيقي تحدّه الرقابة كثيراً، في مجال الرواية على الأقل، إنما من يكترث بالرقابة هم من يكتبون بيانات سياسية على شكل روايات وقصائد، وحتى لو لم يواجهوا رقابة سياسية مباشرة – بمعنى منع الكتب أو منع تناولها – فإن الجمهور المشابه لهم سياسياً سيقبل أعمالهم والمقابل لهم سيلفظها، كمن يحدّث نفسه.

عملتُ في الصحافة لأكثر من 10 سنوات قبل انتقالي مؤخراً لمجال العلاقات العامة، وأعتقد أن الصحفيين محقون في الشكوى من الرقابة في عالمنا العربي، ورغم ذلك يجدون دائماً طرقاً للالتفاف عليها، لا أحد يعجز عن إدراك الخطوط الحمراء في كل مجتمع وشريحة اجتماعية، وغالباً ما يأتي تجاوز هذه الخطوط الحمراء مقصوداً ليكون رد الفعل على أعمالهم جزءاً من الترويج لها.

المتلقي جزء من العملية الإبداعية، ولولا ذلك كنا كتبنا الروايات وتركناها مدفونة في الخزائن، ومن يفشل في احتراف هذا الجزء من العملية الإبداعية لا يمكن اعتباره ناضجاً أدبياً.

وبالتأكيد لا أؤيد نسف جميع السلطات الرقابية، فنحن لدينا نموذج على حصول ذلك ونتائجه، وأعني وسائل التواصل الاجتماعي، خصوصاً ذات القيود المتراخية، والتي تتحول في عدة مناسبات إلى مستنقعات عفنة من خطابات الكراهية والأخبار والمعلومات الزائفة والمحتوى الرديء الذي ينال شعبية واسعة. ما أعتقد أننا بحاجة إليه هو رقابة بشكل معاكس تواجه الخطاب العنصري والطائفي وتمجيد العنف، الأمور التي للأسف وجدتْ طريقها إلى روايات ومقالات تنشرها دور نشر وصحف "محترمة".

  • ما هي رسالتك لقرّائك؟

أودّ أن أخبرهم أن يكونوا صبورين في انتظار روايتي القادمة، السنتان الأخيرتان شهدتا تغييرات جذرية في حياتي، من بينها مغادرة سوريا والانتقال إلى دبي، الأمر الذي ترافق أيضاً مع الانتقال من العمل الصحفي إلى العلاقات العامة، وكذلك الانتقال من نظام حياة المستكتب المرن إلى نظام حياة الدوام الكامل وضغوط العمل، أضف إلى ذلك زواجي منذ عدة أشهر.

أعتقد أنني بحاجة إلى بعض الوقت لأعود برواية جديدة، خصوصاً مع الضغوط المؤقتة الناجمة عن الجائحة الحالية التي وضعت العالم كله في سبات، ولكنني واثق من أنني سأكون أكثر قرباً للقراء مع اختباري لأسلوب الحياة الذي يعيشه معظم البشر بما يحتويه من ضغوط وروتين، وبخلوّه من الظروف الاستثنائية التي كنتُ أعيشها في دمشق.

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم