الرواية نت - لندن

يؤكّد الروائي السوري هوشنك أوسي المقيم في بلجيكا على أنّ كل رواية قرأها وأُعجِب بها، أثّرت فيه، ويشدّد على أنّ الرواية تتطوّر مع تطوّر الحياة وأنماط المعيشة والتفكير والتعبير عن الرأي والخيال والمشاعر والمواقف.

يستعيد مبدع "وطأة اليقين" التي فازت بجائزة كتارا سنة 2017، جوانب من تجربة مريرة تعرض لها، وكيف أنّها ما تزال مؤثرة وحاضرة بطريقة أو أخرى في ذاكرته..

يكشف الروائي والشاعر هوشنك أوسي في حواره مع الرواية نت عن بعض آرائه في مسائل أدبية وحياتية متعددة..

-  كيف تقيّم تجربتك مع القراء؟

أعتبرُ نفسي واحداً منهم. أكتب لهم. وأقرأ ملاحظاتهم، انطباعاتهم، انتقاداتهم. آخذُ منها ما أفتقدهُ وبحاجةٍ إليه. وأضعُ المتبقّي على رفّ الشّكر والتقدير. أتفاعل معهم على صفحتي في الفيسبوك، إلى حدّ لا بأس به. تصلني انطباعاتهم الإيجابيّة والسلبيّة عن كتبي وكتاباتي. القارئ يساهمُ بشكل مباشر أو بغيرهِ في تنميتي وتطوير أدواتي. كل قارئ يصنعُ كاتبهُ. لا أكتبُ ما يريدهُ القارئ، بل ما أريده قولهُ وأفكّر به، وأتخيّلهُ أو أشعر به. وربما يجدُ القارئ في كتاباتي ما ينجذب إليه، أو لا يجد فيها شيئاً يفيدهُ أو يخلق لديه المتعة، فيهجرني إلى كاتب آخر. هذا حقّهُ. تجربتي مع القرّاء مقبولة. وأستطيع القول: إنني أحظى بمستوى مقبول من القراءة.

- ما أهم الأعمال الروائية التي أثرت في تجربتك الإبداعية؟ ما الرواية التي تتمنى لو كنت مؤلفها؟ هل من رواية تندم على كتابتها أو تشعر أنك تسرعت في نشرها؟ ولماذا؟

كل رواية قرأتها وأعجبتُ بها، أثّرت فيَّ. ما زلتُ أقرأ وأتأثّر. حتّى الأعمال التي لا تعجبني، تؤثّر فيَّ، بحيث تجعلني أتفادى الهفوات التي سقط فيها كتّاباها أو كاتباتها. الروايات التي تعجبني أو أفتتن بها، لا أتمنّى أن أكون كاتبها. ليس لدي هذا الإحساس أبداً. كذلك، حين أعجبُ برواية ويكون لدي بعض الملاحظات عليها، لا أقول أبداً: لو كتبها شخص آخر، لأبدع فيها، أكثر من صاحب الرواية. لا أنظرُ إلى الأعمال الإبداعيّة الروائيّة أو الشّعريّة بهذه الطريقة.

صدر لي حتّى الآن روايتان. لم أشعر بالندم على إرسال أيّ منهما للنشر. لكن بعد مرور فترة زمنيّة فاصلة بيني وبين أيّ عمل لي، عقب نشرهِ، ومراجعتي له كقارئ، تبدأ مرحلة العثور على الهفوات والأخطاء والعثرات. فأتأسّف على ذلك. كيف سقطتُ في ذلك الخطأ التافه الذي كان يفترض بي ألاّ أقع فيه!؟ خليط من العتب والنقد الذاتي والأسف على بعض التفاصيل الهامشيّة والتقنيّة وحسب، وليس الندم على نشر العمل، بشكل عام. بالنسبة لي؛ الإبداع في الإمتاع وليس في الإقناع.

- كيف ترى مستقبل الرواية في عالم متسارع يمضي نحو ثقافة الصورة؟

الرواية تتطوّر مع تطوّر الحياة وأنماط المعيشة والتفكير والتعبير عن الرأي والخيال والمشاعر والمواقف. الصورة الذهنيّة والمشهديّة السينمائيّة موجودة في الروايّة. ويمكن لتطوّر أدوات وأوعية النشر، أن يوصل بالرواية الرقميّة إلى مستوى تطعيم النصّ بموسيقى تصويريّة. بحيث نسمع موسيقى رومانسيّة حين يصل القارئ إلى مشهد حميم ورومانسي، أو نصل إلى موسيقى حزينة، حين يتطلّب الأمر ذلك. أو نسمع موسيقى مثيرة للخوف والرعب أثناء الوصول إلى مشاهد دراميّة مرعبة باعثة على الذعر والقلق والترقُّب. بحيث تكون الموسيقى مدمجة الكترونيّاً مع النصّ. أو يمكن توظيف مؤثرات صوتيّة، تفيد السقوط أو الضجيج والصخب، حين يفيد السياق القرائي للرواية بذلك. بمعنى، تطوّر الروايّة ربما يكون مع إضافة المؤثّرات السمعيّة والبصريّة للرواية الرقميّة المنشورة في أقراص أو على المواقع الكترونيّة الخاصّة. يعني لن يغلب النصّ البصري المرئي النصّ المكتوب في الرواية، بل سيكون تابعاً له، ومؤثّراً فيه. سيكون هناك نوع من التعاون والتحالف بين النصّين في الرواية.

- كيف تنظر إلى واقع النقد في العالم العربي؟

مؤسف. قسم منهُ ينزل نحو التهافت والتسويق لأعمال لا تستحق كل ذلك التضخيم والتهليل. وقسم ينزل نحو التبخيس، مشوب بالتنكيل والإمعان في الاستهداف الشخصي. وقسم آخر، غاضب، حانق، ماقت، يسفّه كل ما هو جديد، ويتهمه بالاستسهلال والاستهبال، وعديم القيمة والإبداع. ويعيد ويزيد المديح والإطناب الذي قيل في إبداع جيل الخمسينات ولغاية التسعينات. وأن السلف الصالح من الروائيين والشعراء هم المبدعون وحسب، وتوقّف الإبداع عندهم. وإن الرواية والشعر، يطغى عليهما الادعاء والزيف. هذا القسم من النقّاد، يؤسسون ويغذّون سلفيّة نقديّة وسلفيّة ثقافيّة، ما عادت تقرأ ما هو جديد، وما عادت تستنبط ما هو جديد في النصوص الروائيّة القديمة. حالة من التكرار والاجترار والإصرار على الإطاحة بكل ما هو جديد.

وسط هذا المشهد، هناك قلّة قليلة، من النقّاد، تنظر إلى نفسها على أنهم شرّاح نصوص، ومن الضروري الاطلاع على كل ما هو جديد، وفرز الغث من السمين، الصالح من الطالح. وقول ما للنصّ الروائي أو الشعري، وما عليهما.

- إلى أيّ حدّ تعتبر أنّ تجربتك أخذت حقها من النقد؟

تجربتي ما زالت في بدايتها. ويصعب عليّ الإجابة على هكذا سؤال. ليس لدي شعور بالمظلوميّة النقديّة. ولا شعور الاكتفاء النقدي.

- كيف تجد فكرة تسويق الأعمال الروائية، وهل تبلورت سوق عربية للرواية؟

فكرة في غاية الأهميّة. وطالما هي فكرة، هذا يعني أنها لم تتبلور بعد. هذه الفكرة هي مُفعّلة ومطبّقة لدى دور النشر الغربيّة. شخصيّاً، لا أتركُ هذا العبء على كاهل ناشري. وأقوم بالتسويق لكتابي على صفحتي في الفيسبوك.

- هل تحدّثنا عن خيط البداية الذي شكّل شرارة لأحد أعمالك الروائية؟

ربما كان ذلك سنة 2005 أو 2006، بدأت فكرة محاولة كتابة عمل روائي تطرق خيالي. وقتذاك كنت في دمشق. نتيجة أوضاعي الأمنيّة الصعبة التي مررت بها، هربت من وطني، نهاية حزيران 2009. بقيت تلك الفكرة ترافقني. ركبت زوارق الموت المطاطية، وعبرت بحر إيجا مُتّجهاً إلى جزيرة خيوس اليونانيّة. بقيت في السجن ما يزيد عن 45 يوماً. أعيد ترحيلنا إلى تركيا كرهاً وجبراً في ظروف قاسية. ألقى الجنود اليونانيون بنا داخل الأراضي التركيّة. دخلت سجن مدينة أدرنة لمدّة 15 يوم. بقيت في تركيا ما يزيد عن سنة ونصف. في تلك الفترة، كتبت رواية بعنوان "الأفغاني" لأنني في جزيرة خيوس اليونانيّة، قلت إنني أفغاني، بطلب من المهرّب. ونتيجة العلاقات الوطيدة بين نظام الأسد ونظام أردوغان، حدثت معي مشاكل في تركيا وقتذاك. هربت مرة أخرى إلى اليونان. ومن هناك حاولت السفر على متن شاحنة، دخلت مرآب باخرة، مُتّجهة إلى إحدى الجزر الإيطاليّة. ألقي القبض علينا، في مرآب الباخرة، بعد افتضاح أمرنا دخل الشاحنة، والباخرة في عرض البحر. وتمت مصادرة كل الأجهزة الالكترونيّة التي في حوزتها. وضاع أرشيفي في سوريا وتركيا، وضمنها مخطوط رواية "الأفغاني". كان ذلك صيف 2010. وصلت إلى بلجيكا نهاية نوفمبر 2010. بدأت الثورة السوريّة منتصف آذار 2011. وفي 2015، كتبت رواية بعنوان "وطأة اليقين" أرسلتها للعديد من دور النشر العربية، جاء الردّ بالرفض. بعض الدور طلبت كلفة النشر. رفضت ذلك. دار سؤال في لبنان، الوليدة سنة 2014، أرسلت لي خطاب الموافقة على النشر، مع الإشادة بالعمل، وغامرت بطباعة رواية كاتب مغمور غير معروف. بالفعل، صدر العمل سنة 2016، وأرسل الناشر نسخ من الرواية على نفقته إلى جائزة كتارا، دورة 2017. وكانت الرواية من ضمن الروايات الخمس الفائزة، فئة الروايات المنشورة.

إحدى القراءات النقديّة في هذه الرواية، قبل فوزها بالجائزة، كانت سبباً محرّضاً على كتابة رواية أخرى، حاولت فيها تحدّي وتجاوز العمل الأول. وصدرت الرواية الثانية بعنوان "حفلة أوهام مفتوحة" سنة 2018. ثم كتبت رواية أخرى بعنوان "... كأنني لم أكن". وأعدت كتابة الرواية الضائعة "الأفغاني"، مع إضافات كثيرة إلى ما كنت محتفظاً به عنها في ذاكرتي. وسيصدر المخطوطان لاحقاً.

وهكذا تتالت الخطوات في حقل الرواية، ولن تتوقف إلى حين شعوري بأنني أكرر نفسي. وقتذاك، إن بقي في العمر رمق، سأتوقّف عن الكتابة الروائيّة.

  • إلى أيّ حدّ تلعب الجوائز دوراً في تصدير الأعمال الروائية أو التعتيم على روايات أخرى؟

تلعب دوراً كبيراً في تصدير أعمال، وتقديم تجارب جديدة، وسط روائيين وروائيّات، مكرّسين تكريساً يكاد يكون حديديّاً. أحياناً، تتعرّض أعمال روائيّة إلى ظلم وغبن. الأمر يتعلّق بذائقة الناقد، وبمدى النزاهة لديه. أنا ضد شيطنة وأبلسة الجوائز الأدبيّة. أعرف روائيين وروائيات، يشاركون في الجوائز، ويبدون كل مظاهر وثرثرات التعفف والتأفف من الجوائز، وبل يهاجمونها، وينتقصون منها. أعرف روائيّاً، أرسل روايته إلى جائزتين (البوكر وكتارا) رغم أن قوانين الجائزتين تلزمه بأن يكون العمل غير مشترك في أيّة جائزة أخرى. ثم قلل من دور وتأثير الجوائز. أعرف روائيّاً آخر، أرسل رواياته إلى جائزة كتارا عدّة مرّات، ثم ذكر على صفحته في الفيسوك، أنه لا يقيم لكتارا، أيّ اعتبار! هذا التأفف والتعفف الكاذب عن الجوائز الأدبيّة، بات مملاً ومفضوحاً، وما عاد يسترُ أصحابه.

- كيف تجد واقع ترجمة الأدب العربي إلى اللغات الأخرى؟

واقع صعب ومعقّد. يحكمه شيء من الشلليّة، والعلاقات الشخصيّة. وهناك من يدّعي نقد هذا الواقع، وهذه المظاهر على أنها فساد وإفساد، وفي الوقت عينه، يقترف كل ما ينتقده!

- يعاني المبدع من سلطة الرقابة خاصة (الاجتماعية والسياسية والدينية) إلى أي درجة تشعر بهيمنتها على أعمالك؟ أو هل تحدّ من إيصال رسالتك الإبداعية وهل أنت مع نسف جميع السلطات الرقابية؟

ليس لدي رسالة إبداعيّة. أنا كاتب وحسب. أحاول التعبير عن نفسي وأفكاري وخيالي عبر الكتابة. الكتابة لدي حاجة شخصيّة ونفسيّة، ووسيلة ضروريّة، للوصول إلى قدر من التوازن، والتقليل من الاضطراب والقلق.

أنا ضد الرقابات والتابوهات و"ذهنيّة التحريم" في الكتابة. هذه ليست دعوة إلى العشوائيّة والفوضويّة في الكتابة. أشعرُ بهيمنة المحظورات والممنوعات على حركة الكتابة والنشر. وطالما أن الكتابة لدي هي نوع من أنواع ممارسة الحريّة، أحاول دائماً كسر تلك الهيمنة. الخوف غريزة. وجودها في الحياة كوجود الملح. عدمه مُفسد، وكثيرهُ مُفسد. جودة الملح في حسن استخدامه. الخوف الذي يفيد الاستمرار والديمومة والمحافظة على الحريّة، لا مناص منه. الاستسلام للرقابات خوفٌ قاتلٌ للإبداع. والعصيان والتمرّد على الرقابات، بشكل اعتباطي وعشوائي وغوغائي، أيضاً ليس من الإبداع في شيء.

  • ما هي رسالتك لقرّائك؟

لستُ ساعي بريد، أو رسولاً أو نبيّاً. لا تنتظروا منّي أيّة رسائل. أفضّلُ التجربة على الوعظ والإرشاد.

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم