محمد سعيد احجيوج: الرواية مرنة جدا وقابلة للتكيف بسهولة مع المتغيرات
الرواية نت - لندن
يؤكّد الروائيّ والقاصّ المغربي محمد سعيد أنّ الرواية قادرة على احتضان الأشكال الإبداعية الأخرى، مثل الرسم والشعر والمسرحية، وهو ما يعطيها دوما حيوية جديدة.
وفي حواره مع الرواية نت، يلفت صاحب "كافكا في طنجة" أنّه لا يوجد نقد في العالم العربي، إلا لو سمينا المجاملات الشخصية والخواطر الصحفية والوريقات الأكاديمية المخزنة في الجامعات، نقدا.
يعلن القاصّ احجيوح في حواره مع الرواية نت عن جوانب من آرائه في صناعة النشر العربية، وعالم الكتابة والنقد والترجمة والتسويق وغيرها من مسائل أدبية وحياتية..
- كيف تقيّم تجربتك مع القراء؟
يمكن الحديث عن نوعين من التواصل مع القارئ. التواصل الموازي، والتواصل عبر النص (الرواية نفسها). فيما يخص التواصل الموازي فهو تواصل بين الكاتب والقارئ من خلال وسائل مثل البريد والشبكات الاجتماعية. يمكنني القول بأن تجربتي مع القراء جيدة بهذا الخصوص، ويتم ذلك من خلال مشاركة مقتطفات من رواياتي والمشاركة المتبادلة للقراءات بين الكُتاب والقراء.
أما فيما يخص التواصل عبر النص الروائي نفسه، وهو التواصل الأساسي بين الكاتب والقارئ، فهو يبقى أسير صناعة النشر العربية، المتواضعة جدا، وبخاصة شبكة التوزيع المهترئة. القراء موجودون ومتعطشون للجديد والمتميز. لكن كيف سيصلون إليه مع انعدام شبكة توزيع قوية بين الدول العربية، وناشر لا يأخذ بعين الاعتبار تفاوت القدرة الشرائية بين المناطق؟
- ما أهم الأعمال الروائية التي أثرت في تجربتك الإبداعية؟ ما الرواية التي تتمنى لو كنت مؤلفها؟ هل من رواية تندم على كتابتها أو تشعر أنك تسرعت في نشرها؟ ولماذا؟
سأجيب بترتيب عكسي. الندم أمر حتمي. بعد مرور بضعة أشهر، بل فقط أسابيع قليلة، على كتابة عمل روائي ما، يبدأ القلق والشك المغلفان بالندم. ثم تأتي لحظة تفاؤل ودفعة مفاجئة من الثقة فيرسل المخطوط إلى ناشر ويُوقع العقد، ثم يعود الندم من جديد أقوى. صدرت روايتي الأولى قبل أربعة أشهر وبالتأكيد أنا نادم الآن على نشرها. وقعت قبل أيام عقدا لنشر روايتي الثانية ومذاك والشك ينخرني أني ربما تسرعت في ذلك. أعتقد أن هذا الشك، والندم، أمران طبيعيان. يتطلب الأمر سنوات من الخبرة حتى يتمكن الكاتب من الفصل بين الشك الكامن في طبيعة كل مبدع وتطلعه الدائم للكمال، والندم الصرف على نشر عمل لم يكن جاهزا تماما للنشر.
أعتقد أن ساعي بريد نيرودا، لأنطونيو سكارميتا، هي أبرز رواية تمنيت لو أني كاتبها.
أما عن الأعمال الروائية التي أثرت في تجربتي الإبداعية فهي متغيرة بتغير خبراتي. قد يبدو غريبا أن أشير إلى رواية ذاكرة الجسد، التي ينظر إليها الآن على أنها رواية غير جدية وسطحية وتافهة. ربما لو عدت لقراءتها الآن قد لا تعجبني، لكن الحقيقة أن جزءا كبيراً من الهجوم الموجه الآن ضد الرواية هو هجوم مدفوع بالحسد نحو كاتبتها. المهم، ذاكرة الجسد كانت أول رواية أقرؤها بعد تجاوز مرحلة قراءة أدب اليافعين والأدب الشعبي (المغامرات، الخيال العلمي...)، وبالتأكيد أنقذني أسلوبها من لغتي الجافة التي كنت أكتب بها القصص القصيرة متأثرا بكتاب أدب الشباب الذين كنت أقرأ لهم آنذاك.
قبل أشهر قرأت رواية فقهاء الظلام لسليم بركات، وما زلت حتى الآن مأسورا بسحرها. لا شك أن تأثيرها سيظهر عليّ في الأيام القادمة. أيضا الانفتاح على القراءة بالإنجليزية سمح لي بالاطلاع على نماذج متميزة، تركت عليّ بصمتها، مثل ثلاثية نيويورك ورجل في الظلام، لبول أوستر. كذلك رواية يوميات طائر الزنبرك، وهي في نظري أفضل ما كتب هاروكي موراكامي. أيضا رواية العار لسلمان رشدي.
لكن، بشكل عام، أي كتاب نقرؤه، أي رواية نقرؤها، تترك علينا، وفينا، بصمتها. سواء أعجبتنا أم لم تعجبنا.
- كيف ترى مستقبل الرواية في عالم متسارع يمضي نحو ثقافة الصورة؟
الرواية مرنة جدا وقابلة للتكيف بسهولة مع المتغيرات. ما تزال الرواية ناجحة عبر الوسيط الورقي، وهي ناجحة عبر الوسيط الرقمي المكتوب والمسموع، وهي أحد المصادر التي ما تزال السينما تقتبس منها باستمرار. للرواية أيضا القدرة على احتضان الأشكال الإبداعية الأخرى، مثل الرسم والشعر والمسرحية، وهو ما يعطيها دوما حيوية جديدة.
العالم يمضي فعلا بشكل سريع نحو الاستهلاك البصري، لكن من كان يقرأ قبل هذه الثورة البصرية (والاستهلاك السطحي) سيبقى يقرأ بعدها، والرواية ستبقى لديه في نفس المنزلة. التهافت الكبير الذي نراه حاليا نحو الاستهلاك السريع والسطحي، للصورة، هو من جمهور جذبته هذه الوسائط الحديثة، وهو جمهور لم يكن له اهتمام كبير من قبل بالكتاب.
طبعا حديثي هنا عن العالم ككل، وليس عن العالم العربي حصرا، والتفاوت كبير لا شك بين منطقة وأخرى.
- كيف تنظر إلى واقع النقد في العالم العربي؟
لا يوجد نقد في العالم العربي، إلا لو سمينا المجاملات الشخصية والخواطر الصحفية والوريقات الأكاديمية المخزنة في الجامعات، نقدا. ربما كانت لدينا تجارب مميزة خلال العقود الماضية، أما خلال القرن الواحد والعشرين فلست أرى ما يمكنني وصفه نقدا أدبيا مواكبا للإنتاج الأدبي.
- إلى أيّ حدّ تعتبر أنّك تجربتك أخذت حقها من النقد؟
تجاربي القصصية خلال بداية الألفية مرت بصمت. ربما كان يمكن أن تأخذ بعضا من حقها من النقد لو كان التوزيع لدينا يسمح بعدالة توصيل الأعمال الأدبية. أما روايتي الأولى فلم تنشر سوى منذ أربعة أشهر. الوقت مبكر للحديث عن أي نقد يمكن أن تتلقاه الرواية. عموما هي رواية متواضعة، وحتى لو كانت، نظريا، أهلا لدراسة نقدية فإن النقد العربي لديه حساباته الشخصية البعيدة عن العمل نفسه.
- كيف تجد فكرة تسويق الأعمال الروائية، وهل تبلورت سوق عربية للرواية؟
يبقى التسويق عملا فرديا منوطا بالكاتب. نادرا ما تجد ناشرا يقوم بالتسويق، وفي الحالتين، يبقى التسويق عشوائيا قائما على العلاقات الشخصية والحظ الصرف.
الاستثناء الوحيد هو التسويق المجاني المصاحب لبعض الجوائز العربية. لذلك، لا يمكننا الحديث عن سوق عربية للرواية قدر ما سنتحدث عن سوق لقوائم الجائزة الفلانية. لا علاقة للأمر بالجودة، لكن تلك الجائزة الفلانية (طبعا أقصد البوكر العربية، كلكم تعرفون ذلك)، نجحت في تعزيز معايير معينة وخلق تهافت سنوي على قوائمها، التي تحمل أحيانا عناوين جيدة، وكثيرا ما تقولب القارئ في حدود معينة قد يحسبها القارئ غير المطلع كل الرواية العربية.
- هل تحدّثنا عن خيط البداية الذي شكّل شرارة لأحد أعمالك الروائية؟
بدأت، خلال شهر يوليو، أكتب رواية سميتها نادي البشمرگة. بعد فصل أول طويل مفصل وصلت إلى الفصل الثاني. بدأت كتابته من زاوية نظر شخصية ثانوية بأسلوب تيار الوعي. كتبت فقرتين وتوقفت أحدق في الشاشة. فكرة غريبة كانت تدور في رأسي. كنت قد أكملت قبل أسبوع من ذلك، أو أكثر قليلا، قراءة كل من رواية إبراهيم عبد المجيد "بيت الياسمين"، ورواية روبرتو بولانيو "ليل تشيلي". كان عقلي الباطن ما زال يهضم الروايتين ويحلل طريقة كتابتهما. من تلك العمليات الكيميائية المعقدة جاءت الشرارة وومضت الفكرة. الشخصية الثانوية التي بدأت بها الفصل الثاني هي الأنسب للتعبير عن ثيمات الرواية. تدفقت آنذاك الرواية الجديدة وصار الفصل الأول السابق جزءا من رواية داخلية يصارع البطل الجديد لكتابتها خلال رحلته الليلية المشحونة بالهلوسات. هكذا ولدت رواية "ليل طنجة"، خلال أسبوعين أو أكثر قليلا، وأرسلتها فورا إلى جائزة إسماعيل فهد إسماعيل للرواية القصيرة، وحصلت على المركز الأول.
- إلى أيّ تلعب الجوائز دوراً في تصدير الأعمال الروائية أو التعتيم على روايات أخرى؟
مع ضعف شبكة التوزيع وضعف حيلة الناشرين مع التسويق، وموت النقد، تبقى الجوائز هي المنفذ الأبرز لوصول الأعمال الروائية إلى القراء، ولذلك تفرض لجان الجوائز سلطتها الكاملة لتصدير الأعمال التي تتماشى مع ذائقتها (أو اشتراطات رعاة الجائزة)، والتعتيم على الأعمال التي تتجاوز ذائقتهم أو التي يختلفون شخصيا مع أصحابها.
- كيف تجد واقع ترجمة الأدب العربي إلى اللغات الأخرى؟
حسب ملاحظاتي، وقد تكون ناقصة، ترجمة الأدب العربي، خاصة إلى اللغات الأوروبية، محدودة جدا وخاضعة لمعايير ضيقة. جزء كبير يأتي من العلاقات الشخصية بين الكاتب والمترجم (ولا ضرر في ذلك)، وأغلب هذه الترجمات تكون مدعومة من الجامعات، ونشرها يكون بكميات قليلة، نادرا ما تصل نسخ منها إلى قراء من خارج الدارسين الأكاديميين للأدب العربي، أو تصدر عن دور نشر صغيرة يكاد ينحصر نشرها على الأعمال التي تتلقى دعما مسبقا من جهات مانحة. وتبقى هناك أعمال قليلة، ذات طبيعة جدالية (تعزز النظرة الاستشراقية)، تحصل على اهتمام الناشرين الكبار.
باختصار، عملية الترجمة ناقصة جدا، وجزء من السبب يعود لغياب صناعة نشر عربية حقيقية ولهيمنة العلاقات المصلحية في الوسط الثقافي العربي.
- يعاني المبدع من سلطة الرقابة خاصة (الاجتماعية والسياسية والدينية) إلى أي درجة تشعر بهيمنتها على أعمالك؟ وهل تحدّ من إيصال رسالتك الإبداعية وهل أنت مع نسف جميع السلطات الرقابية؟
خلال كتابة أكثر من مقطع من رواياتي توقفت وأنا أفكر أن هذا لن يكون لائقا وهذا قد يكون جريئا أكثر من اللازم وهذا من المحتمل أن يساء تأويله. لكن في النهاية أترك المقاطع كما هي. حتى الآن يمكنني القول بأنني نجوت من سلطة الرقابة الذاتية، على الأقل، الجزء الواعي منها.
أعتقد أن أخطر أنواع الرقابة الذاتية هي التي تتم بشكل غير واع. لا أعرف إن كان ثمة حل لهذا.
موضوع نسف السلطات الرقابية معقد. أعترف، لا رأي نهائي لي حول الموضوع، حتى الآن.
- ما هي رسالتك لقرّائك؟
شكرًا لكم على اهتمامكم بالقراءة لي وسط الزخم السنوي من الإصدارات، التي يغطي الغث منها على السمين. ممتن لكم على وقتكم، واهتمامكم بالتواصل معي وبكتابة آرائكم.
محمد سعيد احجيوج
ولد الكاتب محمد سعيد احجيوج في مدينة طنجة المغربية في الأول من أبريل 1982. أصدر من قبل مجموعتين قصصيتين، "أشياء تحدث" و"انتحار مرجأ"، وسبق له الفوز بثلاث جوائز شعرية عن قصائده "انتحار المتنبي في رماد الحلاج"، "أغاني محمد الدرة"، و"انكسارات الحلاج". كما أصدر مجلة "طنجة الأدبية" وعددا من المشاريع الأدبية والثقافية قبل أن يغيب عن الساحة الثقافية لفترة تجاوزت عشر سنوات. صدرت له في القاهرة، ديسمبر 2019، نوفيلا "كافكا في طنجة". فازت روايته "ليل طنجة" بجائزة إسماعيل فهد إسماعيل للرواية القصيرة، وتصدر له قريبا روايته "أحجية إدمون عَمران المالح" عن دار هاشيت أنطوان، بيروت.
0 تعليقات