الرواية نت - لندن

يشدّد الروائي السوري محمّد تركي الدعفيس على أنّ الرواية عالم مواز، محكوم بالشغف، وبالتجديد، وبالقدرة على استيعاب كثير من الفنون.

وفي حواره مع الرواية نت يعبّر مبدع "البلم" عن قناعته بأنّ الرواية استوعبت على الدوام التغيرات والأزمات والمشكلات التي مرت بها المجتمعات، ورصدت أبعادها على المستويات كافة..

في هذا الحوار يصرّح الدعفيس عن بعض آرائه في قضايا ومسائل أدبية وفنية وحياتية..

- كيف تقيّم تجربتك مع القراء؟

بداهة نحن نكتب لنُقرأ، فلا أثر للكتابة إن لم تقرأ.

من هنا، فإنني أرى القارئ صديقاً قريباً.. يسعدني أن أضع يدي على كتفه، ونمضي معاً، أحدثه بحميمية، وأنثر أمامه عالماً من الأسرار والحكايات التي تزخر بها الرواية، كأنما أبوح بها لنفسي، أشعر حين تطحن الأحداث إحدى شخصياتي بألمه، أكاد أسمع دقات قلبه تتعالى وتضطرب حين تهوي قذيفة في رواية فوق رؤوس بعض الشخوص أو قريبا منهم.

كثيراً ما أحببت أن أخاطب القارئ دون وسيط، ودون وصي، وحين ينغمس في ورق الرواية، أشعر كأنني أخذته من عزلته، وأقحمته شيئاً فشيئاً في ذاك العالم المخطوط حتى يصبح جزء منه، وليس مجرد متفرج عليه.

- ما أهم الأعمال الروائية التي أثرت في تجربتك الإبداعية؟

كل رواية قرأتها كان لها أثرها، سواء لجهة التحريض، أو الامتناع، أو حتى وزيادة رصيد وثراء التجربة.. ثمة أعمال تستفزك، تشعر وأنت تطوي صفحتها الأخيرة أنها شحنتك بطاقة إضافية لاقتحام عالم الكتابة من جديد، على الرغم من أنك لم تفارقه..

وثمة أعمال تجعلك تطلق زفرة وتعلن: "أف، يا لهذا الوقت المهدر!".

وهناك أعمال كثيرة يمكن للمرء أن يذكرها على مستوى الإثراء، ربما في طليعتها تلك الواقعية السحرية التي أنتجتها أميركا اللاتينية، وروايات كثيرة تمنيت لو نسجت على منوالها، دون أن أقول أنني أتمنى لو كتبتها، فلكل منا عالمه وتجربته، ولكل منا رؤيته الخاصة للتفاصيل والأشياء المحيطة، ولكل منا خيالاته وإبداعه، ولا يمكن لأحد تقمّص الآخر، وإلا لتطابقنا، والتطابق ليس من مصلحة الأدب، وهو يتنافى أساسا مع الإبداع.

- ما الرواية التي تتمنى لو كنت مؤلفها؟

ثمة روايات تمنيت لو أحطت بعوالمها وأنتجت أشياء على غرارها، مثل "شرق المتوسط" لعبدالرحمن منيف بكل ما حملته من توصيف لواقع الإنسان العربي التعيس، و"عرس الزين" للطيب صالح بكل تفاصيلها المفعمة بالحياة والصخب والبساطة والغموض والتصوف في توليفة بدت في الظاهر قصة بسيطة للغاية لكنها في العمق رصدت كثيرا من التحولات، و"اللاز" للطاهر وطار بكل تمردها على التقنيات السردية التقليدية واقتحامها الجريء للتجريب والحداثة في السرد الروائي، "وفرانكشتاين في بغداد" لأحمد السعداوي من حيث توظيفها لشخصية شهيرة من عالم الرعب في واقع مدينة تعاني شبح تفجيرات إرهابية أودت بحياة كثيرين.

- هل من رواية تندم على كتابتها أو تشعر أنك تسرعت في نشرها؟ ولماذا؟

أما بالنسبة لمسألة الندم، أو التسرع في طباعة أي من رواياتي، فلا أعتقد أن للندم مساحة، والندم هو خطأ ثان نرتكبه كما قالت أحلام مستغانمي، خصوصاً حين تصبح الأشياء التي فعلناها خلف ظهورنا، ولا نعود قادرين على تعديلها.

حاولت عبر أربع روايات، أزعم أنها تكاد تشكل رباعية متصلة منفصلة أن أرصد وقائع وطن، وذلك بكل التحولات التي عاشها خلال العقد الأخير، وأزعم أنني انحزت خلالها للضحايا، للإنسان المطحون، لذاك الهامشي الذي لا ينتبه إليه الآخرون، لذاك الذي فقد كل شيء وعاش دهراً من الهروب نحو أمان لم يطَله.

- كيف ترى مستقبل الرواية في عالم متسارع يمضي نحو ثقافة الصورة؟

الصورة في الغالب انعكاس للواقع كما هو، أما الرواية فهي عالم مواز، محكوم بالشغف، وبالتجديد، وبالقدرة على استيعاب كثير من الفنون.

ومن هنا فِإن الرواية التي ازدهت وانتشرت في السنوات الأخيرة، على الرغم من شيوع ثقافة الصورة، قادرة على الصمود لسنوات أخرى طويلة وعديدة.

الرواية استوعبت على الدوام التغيرات والأزمات والمشكلات التي مرت بها المجتمعات، ورصدت أبعادها على المستويات كافة.. هذه الأزمات لن تتوقف، وتلك المشكلات لن تتبخر، والرواية بعالمها ترصد كل ذاك، ليس ككتابة تأريخية أرشيفية يخالطها الملل، وإنما كعوالم متحركة نابضة بالحياة.

ربما الإشكالية التي تطرح في هذا الجانب تتعلق بالحاجة إلى متسع الوقت ووافر الفراغ، وهما رفاهيتان تضيقان شيئاً فشيئاً، لكن الأمر ليس سوداوياً بالكليّة، فلن يعدم القارئ الوسيلة لاقتناص ما يتاح منهما لمطالعة رواية.

- كيف تنظر إلى واقع النقد في العالم العربي؟

النقد متشابك بشكل أو بآخر مع أزمة الثقافة والحريات في العالم العربي.. وهو بعض المشكلة أيضاً، إذ توقف عند التجارب الأدبية المعروفة، وأحجم عن تناول التجارب الإبداعية أو حتى الأعمال الجديدة.. كأنه يعمل وفق المنطق التجاري الذي يفضل "اللعب في المضمون"، ولذا بات عدم تناوله للتجارب الجديدة تقليداً راسخا أكثر منه تقاعساً.

النقد العربي أسير مجاملات، وشللية، وبدل أن يلقي الضوء على الجديد، وأن يسهم في تقديمه وقراءة مآلاته، وبدل أن يسلط الضوء على تجارب وكتّاب جدد، استمر يحفر في أعماق الأعمال القديمة محاولاً أن يستجر منها عنوة ما لم يعد يحتمل الاستجرار.

- إلى أيّ حدّ تعتبر أنّك تجربتك أخذت حقها من النقد؟

لا أعتقد أن أعمالي نالت ما أراها تستحقه من النقد، ربما باستثناء محدود وضيق جدا لرواية "البلم" التي تناولتها دراسات نقدية عدة من نقاد في بلدان عربية وأخرى أجنبية، لكن عموم التجربة ما زالت تحتاج مزيداً من البحث والتنقيب، خصوصاً وأن رواياتي الأربعة تنشد إلى بعضها بعضا بخيط يجعلها من قبيل السلسلة الروائية، حتى وإن بدت لوهلة متباعدة المواضيع والشخصيات والأماكن.

قراءة التجربة كاملة، لم تأخذ حقها، وربما ما زالت بحاجة لناقد لديه القدرة والوقت والرغبة في نفض الغبار، ونسيان مسألة "اللعب في المضمون"، وخوض غمار تجربة لا تقتصر على عمل واحد فقط.

- كيف تجد فكرة تسويق الأعمال الروائية، وهل تبلورت سوق عربية للرواية؟

أظن أن هذا السؤال يرتبط بتعاضد شديد مع سابقه.. فمسألة تسويق الأعمال ما زالت قاصرة جدا جدا.. بعض منشورات، وقراءة نقدية أو اثنتين، وحفل توقيع ضيق لا تسوق للعمل ولا تكشف جوهره.

نحن بحاجة إلى آليات جديدة تضع الأعمال حيث تستحق.. آلية غير تلك المبتذلة التي يضطر لها البعض عبر إهداء أعماله هنا وهناك، وربما تصادف من يقول في حقها كلمة عادلة، أو لا تصادف.

اليوم بعض مشاهير مواقع التواصل أنجح في تسويق أعمالهم ممن يملكون فكراً ويقدمون تجربة روائية ثرية.

في أحد معارض الكتاب الدولية اصطف أمام أحد المشاهير مئات من المراهقين ليحظوا بتوقيعه على كتابه الذي يفتقر لأبسط مكونات الكتاب، فيما لم يكن أمام المنصة المجاورة التي كان يجلس إليها أحد الأعلام المفكرين سوى بضعة قراء لا يتجاوزون عدد أصابع الكفين معا.. هذا خلل كبير، وهو ليس مسؤولية المؤلف والروائي فقط، بل هو خلل ومسؤولية عامة أطرافها كذلك الجهات المعنية بالثقافة في أوطاننا، ووسائل الإعلام، والناشر، والناقد، وحتى القارئ.

هي مسؤولية جماعية للاحتفاء بما ومن يستحق، وليس الاحتفاء بالمعارف والمقربين والأصدقاء.

- هل تحدّثنا عن خيط البداية الذي شكّل شرارة لأحد أعمالك الروائية؟

كانت دموع لصبية في مقتبل العمر.. تحدث بقسوة وألم عن حادثة غرق كادت تودي بحياتها في رحلة الهروب نحو أوروبا.. رحلة ظنت أنها ستضع من خلالها أوجاع الحرب خلف ظهرها، لكنها لم تكن تدرك أننا نحمل أوطاننا في دواخلنا حيث ذهبنا.

كانت دموعها حارقة بقدر تهدج الصوت في حنجرتها.. حتى ارتجاف أصابعها أثناء تذكرها لتلك الحادثة كان محرضا لكتابة رواية.. حملت الرواية عنوان "البلم"..

- إلى أيّ تلعب الجوائز دوراً في تصدير الأعمال الروائية أو التعتيم على روايات أخرى؟

في اعتقادي تلعب دوراً كبيراً في إظهار أعمال، وإخفاء أخرى.. الجوائز بمثابة ترويج لهذه الرواية أو تلك، خصوصاً في زمن لا يواكب فيه النقد الإنتاج الروائي، ولا يستطيع أن يقدمه كما يستحق.

الجائزة ليس تتويجاً لعمل روائي، وإنما ترويج له، وقد نختلف كثيراً مع كثير من الأعمال التي نالت جوائز من هنا أو هناك، لكننا لا يمكن أن ننكر أن الفوز بجائزة يشكل تسويقا جيدا للروائي، وسيثبت لك هذا من خلال مطالعة القراءات النقدية وأرقام المبيعات لأعماله قبل أو بعد فوزه بالجائزة.

الجائزة بمثابة بوصلة، تدفعك للقراءة لهذا أو ذاك حين تدخل مكتبة وتتساوى أمامك الأعمال والأسماء.. حينئذ فقط، تقودك الجائزة لاختيار كاتب وإهمال آخر، على الرغم من أن هذا الآخر قد يكون أكثر عمقا وأمتع أسلوباً.

- كيف تجد واقع ترجمة الأدب العربي إلى اللغات الأخرى؟

ما يزال قاصراً جدا، وما يزال يمضي بانتقائية ومزاجية، ونتيجة لعلاقة تربط الكاتب بالمترجم ليس إلا، أو نتيجة لاعتماد الرواية المترجمة مواضيع مثيرة حتى لو كانت سطحية.

الترجمة تُتخذ حالياً إطارا للمباهاة، لكنها في حقيقتها يجب أن تتناول العمل الذي يطرح بعداً إنسانياً، حتى يكون مهماً للآخر، أو تتناول عملاً يغوص في بيئته فيقدمها للآخر ليتعرف عليها هذا الآخر، أما ما يحدث اليوم من ترجمات فما يزال قاصرا عن تحقيق أي من هذين الهدفين، بدليل أن عددا لا بأس به من الأعمال التي ترجمت لا ترقى لأن تقدم نموذجا للرواية العربية بتجربتها الواسعة.

- يعاني المبدع من سلطة الرقابة خاصة (الاجتماعية والسياسية والدينية) إلى أي درجة تشعر بهيمنتها على أعمالك؟ أو الحد من إيصال رسالتك الإبداعية وهل أنت مع نسف جميع السلطات الرقابية؟

ثمة كثير من الرقابات تمارس على أعمالنا، بعضها ينبع حتى من داخلنا دون وعي منا، ونتيجة تراكمات كثيرة عشناها على مدى سنوات محكومين بما تسميه السلطة (اجتماعية أو سياسية أو دينية) "الصواب".. ثمة روايات طبعت وسمح بتداولها فقط لأن كتابها تحايلوا بتعويم المكان والزمان فيها، بدل الإشارة بوضوح إليهما، وذلك لأنهم شعروا سلفاً أنها لن تمر وتنشر إلا عبر هذا التحايل.

أنا مع نسف الرقابات غير الذاتية.. أي رقابة لا تعتمد على وعي الكاتب ورؤيته لعالمه هي رقابة متسلطة، تريد أن تفرض عليه أطرأً تتنافى مع حالته كمبدع.. ثمة رواية رفضت يوماً من جهة رقابية بمبرر قال "لا شيء وطني في هذه الرواية".. وأتساءل هنا عن معايير الوطنية التي تقصدها تلك الجهة، وهل يفترض بالعمل الإبداعي الروائي أن يكون خطابا أيديولوجيا مثلا.

- ما هي رسالتك لقرّائك؟

فقط.. اقرؤوا.

ـــــــــــــ

* محمد تركي الدعفيس: روائي وصحافي، مواليد سورية 1966، له في الرواية: "الرصاصة تقتل مرتين" ـ "قوافل الريح" ـ "هي والراهب" - "البلم". أعمال أخرى مطبوعة: "رحيل" مجموعة قصصية، "لا وقت للحلم" قصص قصيرة جدا.

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم