الرواية نت - لندن

يؤكّد الروائي المغربي هشام ناجح؛ المقيم في فرنسا، أنّ الرواية هي المقياس الحقيقي لتقييم الشعوب، وأنّ الكتابة البحت هي التي تعيد الحياة إلى الأدب، وليس العكس.

ويلفت صاحب "حديث الوجوه المائلة" في حواره مع الرواية نت إلى أنّ الندم كلمة لا تنسجم مع الكتابة، وأنّ ثمة مساحة شاسعة للتطلعات، وبإمكانك أن تكتب عملا آخر يتلقف العيب ويُقبره. 

يكشف هشام ناجح في حواره عن جانب من آرائه ورؤاه في عوالم الكتابة وما يدور في فلكها من مسائل..

- كيف تقيّم تجربتك مع القراء؟

-لا أحد يكتب عبثا. نحن نرغب في أن نستحوذ على أكبر شريحة من القراء، بالرغم من أننا ندّعي العكس أحيانا ونفاخر أمام الملأ بأننا نكتب لأنفسنا.. إنها لعبة جذب الحبل في رهان ألعاب القوة، حتى يسقط القراء في براثن النصوص. يجب أن نبتعد عن تلك الحالات الوجودية المغلفة بالطروحات الفيزيقية. إننا نكتب من أجل إشراك الآخر فينا عنوة ونفرح كما يفرح طفل يرى وجهه في المرآة أول مرة حين يثني علينا أحدهم. لهذا فأنا حريص جدا على أن تكون علاقتي بقرائي علاقة جيدة، أو على الأقل، تكون مبنية على توازن الرعب.. حين يلقي أحدهم بصفعة نقدية في وجهي أكون حينئذ فتانا في صفعه -أنا الآخر- ولو بالاعتماد على التمويهات، ما دام النص يقبل المغامرة السيميولوجية. القراء وجبة دسمة، ومن الأحسن أن نكثر من توابل الواقعية القذرة حتى تصبح هذه الوجبة ذائعة الصيت. على العموم، علاقتي بالقراء علاقة جيدة، غير مكلّفة وبعيدة عن الحواجز الشائكة.

- ما أهم الأعمال الروائية التي أثرت في تجربتك الإبداعية؟

ثمة روايات لا يمكن أن تخذلك، خاصة في البدايات حين يتطلع الكاتب المبتدئ إلى الكتابة على أعقاب النصوص الناجحة. أنا مدين للزعيم طيب صالح من خلال روايته "موسم الهجرة إلى الشمال". منذ قرأتها أدركت أن الأمم سرديات مرويات يمكنها أن تمرّغ وجه اللغة في وحل الواقع، مكسّرة تلك الهالة من القداسة الجاثمة على الروح. منذ قرأتها أدركت أن الكتابة هي نشوة التطلعات إلى النار المقدسة، التي يمكن أن تنير طريقك أو تندلع في كل ربوعك لاقتفاء زفرة الإنسان المعذب.

- ما الرواية التي تتمنى لو كنت مؤلفها؟

وثمة روايات أخرى كانت كهبوب رياح تسفوني بما تناثر منها، فحاولت أن ألملم هذه اللذاذات المنغومة بالاستحضار والمخيال والذاكرة، فتمنيت أن أكون أنا صاحبَها. رواية "زوربا"، على سبيل الذكر، للكاتب اليوناني نيكوس كزانتاتكيس؛ التي أعتبرها الإنجيلَ الخامس، لما تزخر به من تقاطعات تُحرّك الحيوي فينا.. من سوء حظ نيكوس أنه كان ينافس ألبير كامو في 1957، على جائزة نوبل. وكذلك رواية "الأخوة الأعداء" الكاتب نفسه؛ إنها الكتابة التي تعكس آخر ما تبقى من الفلاسفة الإغريق. إني أُجلّ نيكوس وأعزّه، ورحم الله رجلا ينقش السحر من كد يديه.

- هل من رواية تندم على كتابتها أو تشعر بأنك تسرعت في نشرها؟ ولماذا؟

الندم كلمة لا تنسجم مع الكتابة. ثمة مساحة شاسعة للتطلعات، وبإمكانك أن تكتب عملا آخر يتلقف العيب ويُقبره. روايتي الأولى "المدينة التي..." أحس بها غير مكتملة، بحكم المنار الذي أنظر منه الآن إليها. أعوض دائما كلمة "الندم" بعبارة أقربَ إلى العزاء: "سحر البدايات اللذيذ".

- كيف ترى مستقبل الرواية في عالم متسارع يمضي نحو ثقافة الصورة؟

لا شيء يمكنه أن يقف أمام الرواية.. إنها المقياس الحقيقي لتقييم الشعوب، بعدما عجز التاريخ عن أن يعتمد على تحليل تاريخي عقلاني يكرس الرؤية الحقة للأحداث. لقد أصبحت الرواية المعينَ الذي يزود كل العلوم الإنسانية بما ترغب فيه وتحتاجه. ويجب أن نؤكد أن الأجيال اللاحقة، وخاصة في العالم العربي، لا يمكنها معرفة تاريخ بلدانها إلا من خلال الرواية. يكفي أن نعود إلى نجيب محفوظ لنحيط بمركز المجتمع المصري، أو إلى محمد زفزاف لننغمر في المجتمع المغربي، أو إلى الطاهر وطار لنتلمس طريق المؤمرات التي حفت ثورة الجزائر، أو إلى البشير خريف للوقوف عند المستويات الفاعلة نفسيا واجتماعيا في الشخصية التونسية. من غير أن نسافر بعيدا يمكننا أن نحيط بالعالم من خلال الرواية؛ إنها الفضاء الرحب الذي يسع الكل. يجب ألا نؤرخ لشعب حسبما يرغب فيه، بل، حسبما تسرده رواياته.

أما عن ثقافة الصورة فهي جزئية؛ لا يمكنها أن تتوغل في الأحاسيس وأن تنقلها بإخلاص. إننا نستهلك الصورة في جانبها الانطباعي لا أقل.

 - كيف تنظر إلى واقع النقد في العالم العربي؟

*كلمة "النقد" كلمة غير قادرة على الوفاء بالشروط العامة التي تطبع هذه الكلمة، ما دام الناقد العربي غيرَ قادر على خلق نظريات تتماشى مع النص العربي، فهو يحاكمه انطلاقا من نظريات غربية، يقوم بإسقاطها مباشرة. لم يكلف نفسه عناء البحث في مَوقعة النص ضمن النسق النظري الخاص به. إن الناقد العربي يشبه أسطورة سرير بروكست.. فهو يكيّف كل النصوص مع مقاسات سرير النظريات الجاهزة. وقد زاد مال الخليج تأزّمَ أوضاع النقد، بعدما أصبح أغلب النقاد العرب يتهافتون على أموال البترودولار؛ من خلال كتب نقدية تحتفي بشاعرة مغمورة من شبه الجزيرة.. إن مشكلة العالم العربي الحقيقية تكمن في غياب النقد في كل مناحي الحياة، فما بالك بالنقد الأدبي، الذي أصبح مبقّعا بزيوت الخليج؟

شخصيا، لا أهاب النقد العربي لأنه يبقى عاجزا عن اللحاق بالنصوص. إنه نقد المناسبات، لهذا لا تجد تمثالا في العالم يحتفي بالنقاد. العالم يحتفي بالمبدعين والزعماء والشجعان.

- إلى أي حد تعتبر أن تجربتك أخذت حقها من النقد؟

 تجربتي السردية لم تسعف النقاد في الانتباه إليها، ما عدا بعض الاستثناءات؛ وهذا يمكن إدراجه بكل بساطة في إطار التحمي الاجتماعي والشللية التي تكرّس النسق الثقافي للسلطة. فأنا لا أملك سوى قلم لأبحث عن المزيد من الحرية والتحرر، ليس لدي الوقت لأن أشاكس النقاد وأدعوهم إلى شرب كأس أو هدية حسب الطلب.. من يعشق الحرية الأدبية لا يصلح لأن يكون رفيقا للنقاد.

- كيف تجد فكرة تسويق الأعمال الروائية؟ وهل تبلورت سوق عربية للرواية؟

ما زلنا لم نُلمَّ بثقافة السوق من أجل تسويق للأعمال الروائية. تنقصنا الحرفنة الحقة التي تقدم الكتاب على أحسن وجه.. مؤخرا، ظهرت بعض الدور التي تقوم بأعمال جبارة في صناعة الكتاب وتسويقه بالشكل العالمي، كـ"منشورات المتوسط" في ميلانو، التي يمكن أن نباهي بها العالم، وكذلك من خلال النصوص والترجمات. لكنْ عموما لا يزال يروادنا الحلم أن تتوسع الرؤية التسويقية حتى ندخل غمار السوق العالمي، فثمة كتاب بمقدرتهم منافسة كتاب العالم إذا توفرت الشروط.

- حدّثنا عن خيط البداية الذي شكّل شرارة لأحد أعمالك الروائية؟

الخطوة الأولى هي بداية الطريق، لهذا فمشكلتي تكمن في الجملة الأولى دائما في الرواية. إنها الجملة التي تحدد الحياة وأتلمس وجهتي السردية من خلالها. شخصيا لا أؤمن بالخطاطات والأجندات التي تعدّ العمل. إني أكتب تبعا لتصوراتي الذهنية التي تمليها اللحظة، مثل مسافر يكتشف الطريق لأول مرة. وقد يعرج السرد أحيانا في غفلة مني، إذ يتماهى مع انفعالات شخوصي، التي بدورها تفكر أحيانا في الانقلاب علي ككاتب. إن الكتابة الحقة في نظري لا تقبل سبق الإصرار. إنها لذة تبدأ بالقُبلة الأولى، أقصد الجملة الأولى حتى أصل إلى ذروة الشهوة. ففي روايتي "حديث الوجوه المائلة" حين كتبت جملتي الطويلة "الترومبيت اللعينة تزعق صادحة في أذني كطائر أبوعميرة، ينعق حسرة على انفلات هبة من مخالبه"... لحظتئذ صحت بأعلى صوتي: أوريكا!.. أوريكا!..

 - إلى أيّ حدّ تلعب الجوائز دوراً في تصدير أعمال روائية أو التعتيم على روايات أخرى؟

عندما تحدد البلدان التي لا تمتلك إشباعا في التاريخ مصير الجوائز، فاعلم أنّ ثمّةَ شرخا لا يمكن أن نقف عنده.. منذ شرعت دول الخليج -خاصة- في إقامة الجوائز توجهت كتابة السرد في العالم العربي إلى ما يرضي الرؤية الضيقة لهذه البلدان. أشك في نزاهة هذه الجوائز، مع بعض الاستثناءات التي تستحق، فالأغلبية تقف وراء دلالة الاسم. في المغرب، مثلا، عندما يكون أحدهم رئيسا (غالبا يكون دكتورا في الجامعة) في مسابقة ما، فهو يفرض طلبته ويشيد بسرودهم أوبأبحاثهم الأكاديمية. فكلمة "أكاديمي" في فرنسا مثلا ثقيلة جدا. لا يمكن أن نلقي بها حد السماء. وهذا ينطبق على كل رؤساء اللجن من مختلف البلدان العربية. بالإضافة إلى نظام المحاصصة. الجوائز أساءت إلى السرد، اللهم في جانبها المادي فقط.

- كيف تجد واقع ترجمة الأدب العربي إلى اللغات الأخرى؟

الترجمة ضعيفة جدا في العالم العربي، ويمكننا العودة إلى أرقام اليونيسكو، التي تؤكد أن مجموع الترجمات حوالي 500 عمل، وإذا ما قارناها بإسبانيا، مثلا، نجدها تترجم أكثر من 10 آلاف كتاب سنويا. ويمكن أن نتحدث عن الجودة كذلك. لا يمكن أن تسلم الترجمة هي الأخرى من الوضع الخاص في البلدان المتخلفة. الترجمة فعل دينامي ينتج عن العملية الكبرى التي تسمى الثقافة. نحن ما زلنا نعاني من الهامش الضيق للحرية، خاصة مع ظهور الفوبيا الدينية.

 - يعاني المبدع من سلطة الرقابة، خاصة الاجتماعية والسياسية والدينية، إلى أي درجة تشعر بهيمنتها على أعمالك؟ أو تحد إيصال رسالتك الإبداعية؟ وهل أنت مع نسف جميع السلطات الرقابية؟

أظنّ أن هذه الرقابة لا يمكن أن تنطبق عليّ، والأدب لا يُكتب بالعواطف وإن كتب كذلك سيكون أدبا سيئا، كما يقول أندري جيد. شخصيا، أشتغل في خضمّ الواقعية القذرة، التي لا تعترف بالحواجز المفتعَلة والمصطنعة. لا أؤمن بالكتابة الملائكية، بل أحتفي بالقاع وبالهامش. فأنا سليل الشوارع والأحياء الخلفية التي تكرّس فتنة السرد. أغلب شخوصي من جوّابي الآفاق ومن الفاشلين، العاطلين، القوادين والحرياتيين.

الكتابة البحت هي التي تعيد الحياة إلى الأدب، وليس العكس. ومن يلمس كتابك يلمس إنسانا، حسب والت ويتمان. فلتسقط كل الرقابات في العالم، حتى نكتب من نحن، لنعرف من نحن.

- ما هي رسالتك لقرّائك؟ 

أيها القراء الكرام لقد خذلتكم جميعا، ذلك الخذلانَ المنسجم مع طبيعة الحب، ذلك الخذلانَ الذي برح الجنة وتحول إلى قاطع طريق يعترضكم وفي نهاية المطاف يقتسم معكم نزوة التطلعات والانغمارات. إني أحبكم رواد حانة السرود.. نخبَكم أيها الشجعان في صحة الرّواية...

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم