الرواية نت - لندن

يعتقد الروائي العراقي صلاح عبد اللطيف، المقيم في ألمانيا، أنّ للروائي كاميرات خفية تلتقط لحظات السعادة والبؤس في عالمنا، الهشاشة البشرية في واقع عربي جهنمي لا يطاق، حيرة الناس اليومية، التي زادتها جانحة الكورونا خوفا على خوف، وأسئلة المستقبل الجارحة.. وغيرها من القضايا والتفاصيل.

يؤكّد صاحب "منشدو كولونيا" في حواره مع الرواية نت أن القراءة تحتاج إلى صبر مثل رحلة في طائرة أو سفينة إلى بلد بعيد، ويقول إنّ المهم الوصول إلى المراد الخاص، آنذاك فقط سيكون حكمك كامل الصلاحية.

في هذا الحوار يكشف لنا الروائي صلاح عبد اللطيف عن جوانب من آرائه في عدد من القضايا الأدبية والحياتية التي يعكسها بخبرته وتجربته المديدة في عالم الكتابة..

-    كيف تقيّم تجربتك مع القراء؟

قلت في مقالة قبل شهور نشرت على موقعكم، إن القارئ شريك فاعل في أي نص أو رواية أو قصيدة. ومن يزعم غير ذلك، فإنه يعمل دون أن يعلم لوضع كتاباته في تابوت تمهيدا لتجنيزه ودفنه إلى الأبد. وهناك بطبيعة الحال أصناف من القراء، صنف أناني لا يفكر إلا في متعته، واستقبال الكتاب كسلعة عادية ينبغي أن تستوفي الشروط التي يراها ضرورية، دون أي صبر أو مجهود معرفي للإقتراب من أفق المؤلف وجهده، ولا فرق عنده إن اجتمعت الفضائل والرذائل في سرير واحد. والصنف الآخريأتي إلى الكتاب، بأحساسيس منضبطة، وهو قد خرج للتو من مكتبة أو فيلم أو مسرحية، تنتمي لنفس سلالة المؤلف. الصنف الأول يطلب منك أن تكون نهرا ضحلا، يستطيع أي جاهل أن يسبح فيه، دون أي شعور بالخطر أو الخوف من خوض تجربة جديدة. إنه صنف متعب وغير نافع أو منتج للطرفين. أما الصنف الثاني، فهو يأتي إلى القراءة لاكتشاف شيء جديد، بكل ما يحمله الاكتشاف من خطر الاصطدام بفكرة جديدة تحتاج إلى بعض الوقت، وربما إلى التخلي عن بعض المسلمات القديمة، التي أثبت المؤلف أنها أفلت، ولا تنفع معها كل مدخرات التراث لإعادة إيقافها على قدميها. هذا النوع من القراء صديق لي، بصرف النظر عن عمره وتكوينه التعليمي، وسأنتفع من ملاحظاته، لأنه سيكون بمثابة مجستي للتحقق من كمية الجرعات النافعة التي سأضعها في كتابي القادم.

-    ما أهم الأعمال الروائية التي أثرت في تجربتك الإبداعية؟

الأعمال الروائية التي أثرت في صياغة ذائقتي الروائية تختلف من زمن لآخر، ففي سنوات الصبا والشباب، كانت القراءة تحاول أن تشبع جوع الخروج من المسلمات، كان جيلنا يقرأ ما كنا ندعوه الرقص على حافة الهاوية، بما انطوت عليه من بعض الأوهام غير القابلة للتحقق في مجتمعاتنا أمس واليوم وغدا. لكنها رغم ذلك، صلبت مفاهيمنا النقدية، كما أظن، في التمييز بين العمران الروائي السليم والتسلية بصفع المجتمع أو كل ما هو قديم، عبر دعوات ساذجة لطفرات وراثية دون الإلمام بما تتضمنه بعض النصوص القديمة من حداثة راسخة. كنا نقرأ بحماسة ديوان الشعر القديم، والتوحيدي، والأخوة كارامازوف أو دوستويفسكي إجمالا، المحاكمة لكافكا، الصخب والعنف، البحث عن الزمن المفقود، دون كيشوت، ذئب البراري لهرمان هيسه، الشيخ والبحرلهمنغواي، لوليتا لنابكوف، مدام بوفاري لفلوبير، ستندال، موبي دك لميلفل، وأشياء أجنبية أخرى إضافة لنجيب محفوظ ويوسف ادريس والطيب صالح، ونجمة لكاتب ياسين التي وصلتنا متأخرة، العراقي غائب طعمة فرمان بنخلته وجيرانه، الرجع البعيد للتكرلي، الوباء لهاني الراهب، حيدر حيدر، وأسماء عربية أخرى. وفي السنوات التالية، صارت شروطنا في القراءة أشد صرامة، لينتها كوكبة من الروائيين الذين شاكسوا المألوف الروائي في ميدان اللغة خصوصا، وفي طليعتهم سليم بركات، هذا النهرالذي يشبه النيل في كونه ينبع بصورة معاكسة من الجنوب ليصب في الشمال، على خلاف جميع الأنهارالتي تنبع من الشمال لتصب جنوبا. وبعد ذلك ظهرت الروائية العراقية المبدعة إنعام كجه جي، التي سجلت بروايتها طشاري، أجمل وصف لما حدث للعراق والعراقيين من تبعثر، واليوم يلفت نظري الروائي حجي جابر بموهبته اللافته، وأعتذرعن ذكر أسماء أخرى لكثرتها.

  • ما الرواية التي تتمنى لو كنت مؤلفها؟

أما الروايات التي كنت أتمنى أن أكون مؤلفها، فلم يخطر على بالي مثل هذا الهم، لكني أعترف بأني أعجبت أيما اعجاب برواية ذئب البراري لهرمان هيسه، وأعدت قرأتها مرارا، ربما بأمل أن أكتب شيئا يشبهها.

  • هل من رواية تندم على كتابتها أو تشعر أنك تسرعت في نشرها؟ ولماذا؟

  لم أندم على ما نشرت من قصص أو روايتين فحسب، فأنا مقل وحذر قبل النشر، ولطالما مزقت الكثير من القصاصات التي كتبتها، لأنني لا أريد أن أكتب عن الثورات من وراء زجاج نوافذ مكاتب البورصات، أو أن أكون غلاما في إحدى الإدارات التي لم تكف عن تكفيرالجديد نهارا، لكن كتابها يبكون في جلساتهم الخاصة تنفيسا عن أرواحهم المليئة بالذنب.

-    كيف ترى مستقبل الرواية في عالم متسارع يمضي نحو ثقافة الصورة؟

الرواية هي جزء من عالم الصورة، فهي تصور العالم بصورة صماء أحيانا. للروائي كاميرات خفية تلتقط لحظات السعادة والبؤس في عالمنا، الهشاشة البشرية في واقع عربي جهنمي لا يطاق، حيرة الناس اليومية، التي زادتها جانحة الكورونا خوفا على خوف، أسئلة المستقبل الجارحة، تفسخ قيم العدالة والمساواة، انعدام أفق الرحمة في بلداننا بين الرعاة والرعية. كل هذه الأشياء ستزيد من حاجة الناس للرواية، لأنها المرآة الكاشفة لعالم البرزخ الذي نعيشه اليوم.

-    كيف تنظر إلى واقع النقد في العالم العربي؟ إلى أيّ حدّ تعتبر أنّ تجربتك أخذت حقها من النقد؟

ـــ اختفى النقد المنهجي الذي ربانا أساتذتنا عليه. كنا نفكر عشرات المرات قبل أن نعرض نصا على أحد أساتذتنا يومذاك. اليوم تسير الأمور بخفة غريبة، فأنت تقرأ عرضا لكتاب، يصلح لأي كتاب آخر، لو غيرت الأسم أو العنوان. كان الناقد يومذاك يستخدم كل صنارات معارفه للقبض على سمكة النص، التي تراوغ بل تفلت من بين أصابعه، لكن نواياه النقدية النبيلة تظهر في حفرياته، التي تتفوق أحيانا على النص الأصلي. لم يبق عندنا إلا نقد صحفي ركيك، صارت هناك فتاوى وحدود لمن وضع عمامة النقد فوق رأسه، مشايخ لم يقرأ بعضهم ثلث العمل ليقرر فساده أو إدخاله في جنان مملكته المباركة. لكن ذلك لا يمنع من وجود نقاد من طينة أخرى، يقطرون الحكم الجاد، ولا يوزعوه إلا بالمثاقيل.

-    كيف تجد فكرة تسويق الأعمال الروائية، وهل تبلورت سوق عربية للرواية؟

لحسن الحظ ما زال هناك شيء اسمه معارض الكتب ومكتبات لبيع الكتب في عالمنا العربي. صحيح أن الكثير من زوار معارض الكتب يأتون إليها لتطريز بعض أيامهم بنشاط من نوع يختلف عن زيارة المولات، او لجمع تواقيع من الكتاب، رغم ذلك فأن معارض الكتب نافعة للكتاب وللناشرين الجادين لمعرفة مزاج القراء واتجاهات الجمهور وللبيع بالضرورة، لأنه بدون البيع فأن الكثير من دور النشر المتعثرة ماليا لا تستطيع البقاء في السوق، الذي تضابع عليه في السنوات الأخيرة بعض التجار الذين لم يقرؤوا في حياتهم رواية واحدة.

-    هل تحدّثنا عن خيط البداية الذي شكّل شرارة لأحد أعمالك الروائية؟

البداية هي من أصعب مراحل كتابة رواية. يشعرالكاتب أحيانا بأن عدوا مجهولا يحول دون وصوله إليها، يكاد الأمر أن يصبح لغزا محيرا. هناك أحداث نتداولها أثناء النوم، ثم تفلت بعد اليقظة. شخصيا أشتغل على رواية منذ ستة شهور، كان موضوعها متكاملا في ذهني أول الأمر، لكنني تعثرت بعد الصفحات العشرين. فقررت تركها، على أمل أن تتخلى عن مراوغاتها، ثم عدت إليها بعد أن شعرت بأن مقاومتها لانت، لكنني أثناء البداية الثانية، شعرت بأن الخيانة ظلت تسري في عروقها، ولم تنفع كل توسلاتي حتى لفظت آمالي أنفاسها ميتة، فرميت ما دونته في سلة الأزبال.

  لكنني واثق من أن لقاء جديدا منتظرا سيحصل بعد مكابدة ومشقة، إنها مسألة وقت لاغير، كما هو حال العشاق في حياتنا. ولطالما كان الإنتظارالمتفائل كفيلا بدفن ذلك الفراق المقدر، الذي ستدفنه تلك الممانعة بيديها. الإنتظار الصحي هو جزء من العدة الكتابية، ولا يجوز للكاتبة أو الكاتب إعلان حداده بعد مثل هذا الفشل. حصل لي نفس الأمر في مرات سابقة، وشعرت أن البداية الممانعة استدعتني كأن قناعتها تغيرت، ثم سارت الأمور بعد ذلك بسلاسة فارقة، حتى أني شعرت بأنها تكنس وتشطف طريقي كي تصبح هي نفسها ذكرى جميلة.

-    إلى أيّ تلعب الجوائز دوراً في تصدير الأعمال الروائية أو التعتيم على روايات أخرى؟

الجوائز تمنح الكاتب اعترافا عريضا، بصرف النظرعن التفصيلات، كما أنها تمنحه فسحة مالية نافعة لحركته ككائن وكاتب، إذا ما عرفنا بأن أغلب الكتاب في بلداننا من الطبقة الوسطى، التي تتدبر بالكاد وسائل مواصلتها للحياة، ناهيك عن حاجتها أكثر من غيرها لشراء الكتب ومصادر المعرفة المكلفة. لكن ما فائدة الجوائز المشروطة إذا جعلت الكاتب يكسب آلاف القراء الجدد وبعض المال ويخسر نفسه. شاهدت حيرة بعضهم في لحظات الصفاء النفسي، كيف يحسدون أو يتهربون ممن لم يبع روحه، ليس في أمر الجوائز فحسب، بل في تسلمهم مراكز ثقافية لا يحسدون عليها. وكم شعرت بالحاجة لمواساتهم بعد أن تعبر الساعة منتصف الليل، وفي أحيان أخرى شجعتهم على ترك المناصب التي تعذبهم في لحظات الصفاء النفسي تلك. عندما ينفق الكاتب الأصيل الكثير من وقته، بل من روحه على ما يراه مستحقا لتلك المكابدة، فما أغناه بالمكافأت المعنوية لجمهوره الخاص.

-    كيف تجد واقع ترجمة الأدب العربي إلى اللغات الأخرى؟

ترجمة الأدب العربي إلى اللغات الأخرى في تقدم ملموس بالمقارنة مع السنوات الماضية. والأمر مرتبط بانتباه الغرب الثقافي إلى حيوية ما ينشر بالعربية، وازدياد الطلب على الكتاب العربي للاقتراب أكثر من العقل العربي، وأغلب المترجمين هم من الأجانب الذين صار التشريق مهمتهم الأولى، فأصبح لزاما عليهم اطعام آلاف القراء الأوربيين وغيرهم بما تنتجه الثقافة في المحيط العربي. يقول البعض أنه مجرد فضول، لاعلاقة له بالثقافة، أنا لا أوافق على مثل التخريج، وحتى لو صح، فإنه لا سبيل لانتشار الكتاب العربي خارج بقعته الجغرافية إلا بالترجمة مهما كانت النوايا.

-    يعاني المبدع من سلطة الرقابة خاصة (الاجتماعية والسياسية والدينية) إلى أي درجة تشعر بهيمنتها على أعمالك؟ أو الحد من إيصال رسالتك الإبداعية وهل أنت مع نسف جميع السلطات الرقابية؟

لم تعد الرقابة كما كانت في السنوات الأخيرة، فأغلب الكتب تنشر كما هي حتى في البلدان المتشددة. المشكلة في مصادرة الكتب بعد خروجها من المطابع، وخصوصا في معارض الكتب، نتيجة لتحريض جماعات سلفية أو أصولية نائمة، مازال صوتها مسموعا. ومن المفارق أن الرعية لا تقاوم في الأغلب حالات المنع تلك، بل أن بعضهم في أحسن الأحوال ينتقد المؤلف الضحية، لأنه لم يعر بالا للمحظورات، بل أنني أشعر أن بعض المسؤولين عن المنع سيكفون عن إجراءاتهم لو تأكدوا من وجود رفض واضح لضغوط السفهاء من الداعين للتحريم. إنها مشكلة اجتماعية، إذن، قبل أن تكون ثقافية، تورط فيها المجتمع وانسحبت نخبه من تلك المعركة بجبن، رغم أنها من أهم معارك الحرية، التي يدعون لها في صحفهم فحسب.

-    ما هي رسالتك لقرّائك؟

ـــ أيها القارئ يا صديقي: طف في نواحي الرواية التي اخترتها بصبر في النصف ساعة الأولى، فإن وجدتها مملة أو تجاوزت قدرتك على الفهم، فلتذهب إلى فصول لاحقة، فربما يلمع حبها في عينيك، فالقراءة تحتاج إلى صبر مثل رحلة في طائرة أو سفينة إلى بلد بعيد، فالمهم الوصول إلى المراد الخاص، آنذاك فقط سيكون حكمك كامل الصلاحية. بعض الروايات مثل طفل صغير يتلعثم أول الأمر في حديثه مع الكبار، أو في لعبه مع حيوان أليف، إنه يحتاج إلى وقت لينير فانوسه الداخلي. أما إذا فشلت كل تلك المحاولات، ووجدت الكتاب ضنينا بما انتظرت، فشيّعه إلى المقبرة وابدأ حياتك من جديد.  

الرواية نت - خاصّ

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم