الرواية نت - لندن

يستفيدُ المبدعُ من آراء القراء ولا ينجحُ المشروع الإبداعي دون وجود الوعي بقواعده التي تنطلقُ منها عملية التجديد وتطور المنجز الأدبي.

في حوارها مع الرواية نت تصرّح الروائية اللبنانية "نسرين بلوط" بأنَّ القارئ هو عصب العمل الإبداعي لافتةً إلى أن تجربتها مع المتلقي أفادتها كثيراً بحيثُ اقتنعت بأن كل مبدع لابد أن يكون قارئاً بدرجة أولى.

- كيف تقيّمين تجربتك مع القراء؟

القراء عصب الكتاب، هم الحكم في كلّ ما ينضح بما في إناء الكلمات، عندما نقترب من القارئ، فنحن ندنو من عالمٍ فسيح كضبابٍ يغشى قمم الهضاب العالية ثم ينقشع وقد اخترقه نور المعرفة والفكر. يمحق الظلام ويبدّده في سبيل إرضاء المتلقي، هو كاحتراق الندى على أعتاب فصلٍ جديد، والانصهار في أعماق من يتتبّع سردك بمنتهى الأمانة، حتى لا تصل معه إلى تعرّجاتٍ انحنائية تشتّت أعماقه وتصرف عقله عن لبّ الحبكة. لقد قال الأديب نجيب محفوظ: "قارئ الحرف هو المتعلم، وقارئ الكتب هو المثقف"، وقد نهابهما الإثنين معاً، لأنّ من يتعلّم أصول القراءة فهو إنسانٌ حر، ومن أصعب الأمور أن تتعامل مع إنسانٍ حر، لا يستعبده ضجيج الأسماء كما يحصل أحياناً في الترويج الإعلامي، بل يكون حكماً عادلاً منصفاً لكلّ ما هو طالح وصالح في الإبداع. فهو من يستخدم عقله واستنتاجاته وحواسه كلّها ليسخّرها في خدمة الكتاب، ودور الكاتب أن يقدّس واجب القارئ حتى يقوم هو نفسه بالتالي بواجبه الإبداعي نحوه. تجربتي مع القرّاء أفادتني كثيراً، آراؤهم برهنت لي أن القراءة هي عادة قيمتها كبيرة ولها آثارها وتجاربها، أحالتني إلى قارئة نهمة بدوري، أنتقد نفسي كما أنتقد غيري من دون مواربة أو مبالغة أو تملّق.

- ما أهم الأعمال الروائية التي أثرت في تجربتك الإبداعية؟ ما الرواية التي تتمنين لو كنت مؤلفتها؟ هل من رواية تندمين على كتابتها أو تشعرين أنك تسرعت في نشرها؟ ولماذا؟

لقد أثرت روايات نجيب محفوظ في تبلور تجربتي الكتابية، وتمخّضت لي عن رغبةٍ حقيقيّةٍ في احتراف كتابة الروايات، احتوتني أحداث قصصه على تنوّعها بطريقة ترصّدية، حيث تلتمس الفلسفة على أنواعها من تعابيرها، سواء كانت فلسفية أم اجتماعية أم نفسية. كذلك تأثرت بتجربة الروائي فيودور دوستويفسكي الذي توغّل في الطبائع الإنسانية التي تولّد الجريمة والثأر مثل روايته "الجريمة والعقاب"، والانطوائية والكبت والانزواء الذي يجرف كلّ الحواس في طريق الثورة اللاأخلاقية، وقد قال في هذا: "إن أفضل طريقة لمنع سجين من الهروب بأن نتأكد أنه لا يعلم أنه في سجن". أيضاً تأثرت بكتابة نيتشه وغوته وجبران خليل جبران في نثرياته السردية، وميخائيل نعيمة في فلسفته الفكرية في سرد المحسوس والملوس في روايته "مرداد"، وماركيز في روايته "قصة موت معلن"، وانطون تشيخوف وغيرهم. صعبٌ أن أتمنى أن أكون من كتب إحدى تلك الروايات، فهي تتقمّص أفكار كاتبها وتتجرّد من تبعيتها لأيٍّ كان، ربّما تبنيّت أفكار المؤلف في الكثير من مفاصل الرواية ولكن في النهاية يبقى العمل سيّد نفسه وصنع قلمٍ لا يشبه قلماً غيره. بالنسبة لي، لم أتسرّع في كتابة روايةٍ من رواياتي، لأنّها وفي الوقت الذي كُتبت فيه، كانت عصارة تجربةٍ خاصة جداً في عالمي الإبداعي، فالرواية الأولى كانت محطة الانطلاق الأولى في عالمي الروائي واستمددت من تجربتي فيها الخبرة والانفتاح لآراء الغير.

-  كيف ترين مستقبل الرواية في عالم متسارع يمضي نحو ثقافة الصورة؟

مستقبل الرواية يزدادُ اشراقاً ويتموّج بانبلاج الفجر من قارعة الحزن، فحتى في عصرنا الحالي حيث يزخر بعلّة الكورونا، ويشكو الكثير من الناس من السجن البيتي، تتصدّر القراءة مركزاً رئيسيّاً في روتين عددٍ كبيرٍ منهم. الرواية فنٌّ ينتمي للمدرسة الواقعية حتى لو كتبت بخيالِ الأساطير، تتّقد من موقدٍ مضرمٍ على أجنحة المعاناة الحياتية، والعبر الماورائية، تشدّ الحواس كلوحةٍ متماسكة الملامح إذا انتمت إلى عالم التشويق والترغيب والارتقاء بالفكر نحو مدى أوسع.

- كيف تنظرين إلى واقع النقد في العالم العربي؟

النقد الإيجابي للأعمال بغضّ النظر عن جودتها الفنيّة هو السائد في عصرنا الحالي للأسف. التجويد والتعبير والإشادة بالرواية يعتقد معظم النقّاد بأنّه واجبٌ عليهم، وقد تغاضوا عن كلمة "نقد" بمعناها الحقيقي. عميد الأدب طه حسين وضع كتابه "نقد واصلاح"، مشيراً إلى أنّ النقد يصلح الحال ولا يفسده. وقد قال يوماً في تأمّل ٍحقيقي: "كل فكر يرى الحقيقة من جانب ويكشف منها عن جزء"، وواجب الناقد هو تنويري وليس مديحيّاً بحت، مآخذي على النقد كثيرة في أيامنا هذه، وبرأيي يجب أن يظهر سلبيات الكتاب وليس فقط إيجابيّاته.

-  إلى أيّ حدّ تعتبرين أنّ تجربتك أخذت حقها من النقد؟

ما كُتب عن رواياتي سواء كان مدحاً أو نقداً تقبّلته برحابة صدر، فلا يمكن لأيِّ كاتبٍ أن يكون كاملاً مهما بلغت عظمة كتابته، الغرور يعني نهايته، وتقبّل آراء المثقفين والنقاد دليلٌ على سيره في الطريق الصحيح، وبرأيي كلّ ما كتب عن تجاربي أفادني حتى لو لم يقنعني.

-  كيف تجدين فكرة تسويق الأعمال الروائية، وهل تبلورت سوق عربية للرواية؟

تسويق الأعمال الروائية أمرٌ ضروي جدّاً لتأمين الانفتاح العصري على الكتابة المتنوّعة الشاملة، وللأسف لم تتبلور السوق العربية اللازمة للرواية بعد، يجب أن تنجز خطة شاملة لترويج الإنجازات الأدبية على خطٍّ شامل.

- هل تحدّثيننا عن خيط البداية الذي شكّل شرارة لأحد أعمالك الروائية؟

كان خطّ البداية هاجساً داخليّاً بأن أترجم السرد الذاتي لقصصٍ كنتُ أتبنّاها وأبتكرها مع نفسي إلى رواياتٍ محبوكة في هيكلٍ فنّي، وقد بدأت عند كتابتي روايتي الأولى "مساؤك ألم" التي تجري أحداثها في فترة ثورة يناير في مصر، فقد أدّى الاحتدام السياسي إلى صراعٍ نفسي عند الكثير من الناس، فتضوّعت رائحة التمرد الذي شمل الكثير من الخبايا الإنسانية المكبوتة.

- إلى أيّ حدّ تلعب الجوائز دوراً في تصدير الأعمال الروائية أو التعتيم على روايات أخرى؟

برأيي الشخصي أن الكثير من الجوائز وليست كلّها تذهب لأسماءٍ مقرّر بها سلفاً، للأسف هي تقييمٌ شخصي وليس ابداعيّاً خالصاً، ولهذا نقرأ العديد من الروايات أو الأعمال التي تروّج لها الجوائز وينسفها الواقع عند قراءتها بهشاشتها وتكوّرها في جوٍّ فارغ، هناك كتاب كبار لم يحصلوا على جوائز مثل الكاتب الكبير ليو تولستوي الذي لم ينجح في نيل جائزة نوبل، فأجاب ببساطة بأنّ خسارة الجائزة وفّرت عليه حيرة التفكير في كيفية صرف أموالها، هذا الكاتب الكبير خسر جائزة عالمية ولكنه جذب قلوب الملايين من كلّ وجوه الكرة الأرضية.

-  كيف تجدين واقع ترجمة الأدب العربي إلى اللغات الأخرى؟

في أحيان كثيرة تفقد نكهة الحكاية في الرواية أو الكتاب دقّتها وروحها عندما تخضع للترجمة إلى لغاتٍ أخرى، ولكن ترجمة الكثير من الروايات برهنت عن نجاحٍ وتذليلٍ لعقبات تغيير اللغة، إذ نجح عددٌ من المترجمين المتمرسّين بالوصول بترجمة العمل إلى ذروة النجاح وبإحساس عالٍ كما فعل مثلاً الكاتب اسكندر حبش في ترجمته لروايات عتيق رحيمي.

- يعاني المبدع من سلطة الرقابة خاصة (الاجتماعية والسياسية والدينية) إلى أي درجة تشعرين بهيمنتها على أعمالك؟ وهل تحد من إيصال رسالتك الإبداعية؟ وهل أنت مع نسف جميع السلطات الرقابية؟

في روايتي "الخطيئة" اتّهمني البعض بالعنصرية المذهبية لأنّني كتبت عن فتاة مسيحيّة ولم يعيروا انتباهاً إلى باقي أبطال الرواية بأديانهم المختلفة، على الكاتب أن يكتب ويتقمّص ويعيش الحدث باسرافٍ داخلي واحتدامٍ تام، ولا يتأثر بالرقابة مهما كان نوعها، وهو بوصفه لإنسانٍ معيّن لا يهين دينه ولا جنسه ولا لونه، هو يقص ويعلّل ويؤول ويبسط العقدة والحل، وطبعاً الرقابة ضرورية بعض الأحيان في منع انتشار الأفكار المنافية للأخلاق في كتابة بعض المتجرّئين وليس الجريئين، فالجريء هو من يكتب الحقيقة حتى في الصور الجنسية، فهو ينقلها بأسلوبٍ راقٍ ومتّزن وليس بهدف الإنحلال والظهور. في روايتي الجديدة "سرير الغجري" كانت هناك ايماءات خفيّة حاولت أن أوصلها نقداً للسياسة الحالية التي تكرّرت في زمنٍ آخر مع أوطانٍ أخرى. فلا أدري هل وصلت الرسالة؟

- ما هي رسالتك لقرّائك؟

الكتاب يشبه سنابل القمح التي تعلوها الطيور المهاجرة من مكانٍ إلى آخر، تأخذنا معها في رحلةٍ مبهرة حول العالم، حيث لازورد المعرفة وبخور الفلسفة واحتضار أنفاس الغروب في جوٍّ خيالي، وهو صديقٌ صدوق فاقتنوه دائماً ولا تهجروه مهما تكالبت عليكم المحن.


0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم