الرواية نت - لندن

يصرّح الروائيّ العراقي عبدالهادي سعدون أن هناك ثقافة عشوائية غير منتظمة في العالم العربي، تنبع من فجوات ومصادر متضاربة ولا رابط يربطها غير طبيعتها المشكلة في زمنها، وأنّ منه يمكن النظر للنقد والأدب عموماً.

في حواره مع الرواية نت، يوصي عبدالهادي سعدون المقيم في إسبانيا، قراءه بالقراءة، وعدم الاتكال على آراء الآخرين، مشدّداً على أن القراءة مدعاة للفصل بين الغث والسمين، بين ما يستحق وما يمكن أن ينسى ويدفن في مهده.

يكشف صاحب "مذكرات كلب عراقي" في حواره للرواية نت عن بعض آرائه في راهن الرواية العربية، وواقع الترجمة إلى اللغات الأخرى، ودور الجوائز والتسويق في تصدير بعض الأعمال، بالموازاة مع تناول بعض القضايا الأدبية الأخرى..

- كيف تقيّم تجربتك مع القراء؟

إيجابية عموماً. أعتقد أن الكاتب ينتظر قبول القارئ مثل انتظار رأي ناقد خبير أيضاً. نوع من الإراحة الذاتية أن ما تكتب يؤثر ويمنح القارئ (حتى ذلك المجهول بالنسبة للكاتب) نوعاً من الترضية والممارسة المقنعة عبر الرواية. لو افترضنا أن ما نكتبه لنا ولنخبة محددة، فهذا نوع من التخاتل والتمويه المغرض. كلنا بحاجة لقراء، وإن كان قارئاً نبيهاً متمكناً، فتلك نعمة كبرى!

- ما أهم الأعمال الروائية التي أثرت في تجربتك الإبداعية؟ ما الرواية التي تتمنى لو كنت مؤلفها؟ هل من رواية تندم على كتابتها أو تشعر أنك تسرعت في نشرها؟ ولماذا؟

أعمال عديدة أثرت بي، لا سيما رواية القرن التاسع عشر الروسية والفرنسية مثل دوستويفسكي أو بلزاك، والبعض من موجات الرواية الحداثوية في بدايات القرن العشرين والتي ظهرت في أميركا ومن بعدها موجة رواية أميركا اللاتينية منتصف القرن العشرين. أما الرواية الحقيقية التي تمنيت لو كنت كاتبها وأعود لقراءتها كل عام تقريباً، فهي رواية (بطل من هذا الزمان) لـ ليرمنتوف، وهي تضاف لشغفي الكلي برواية ثربانتس (الدون كيخوته) التي لا أملّ من الرجوع لها في كل فترات السنة. تحفتان فنيتان وروايتان عابرتان لزمنيهما. من ناحية أخرى لست مكثراً بكتابة الرواية، لذا ما نشرته بعد تأنّ وكتابة ومراجعة طويلة.

- كيف ترى مستقبل الرواية في عالم متسارع يمضي نحو ثقافة الصورة؟

لا أجدها مضادة لحضور الرواية، بل مكمل لها. اليوم نحن في تداخل فنون مع فنون أخرى، والرواية بحد ذاتها فن الهضم الكلي لكل الموجات الفنية والأدبية، وتجد لها مكناً وحيزاً ممكناً في متن الرواية أياً كانت. الرواية موجة عصور مطولة وفي كل عصر تهضم وتتقبل وتضم ما تجده في دربها، بل تستفيد منه وتخرج به بحلة جديدة. أعتقد أن الرواية متجددة بتجدد ما تجده من ثقافات مغايرة في كل فترة معينة، وهذا سرها الأكبر.

- كيف تنظر إلى واقع النقد في العالم العربي؟

لنكن واقعيين بالنسبة لثقافتنا عموماً، فهي ثقافة عشوائية غير منتظمة، وتنبع من فجوات ومصادر متضاربة ولا رابط يربطها غير طبيعتها المشكلة في زمنها. ومنه يمكن النظر للنقد والأدب عموماً. لا تنظيم ولا واقع منظماً ولا مدرسة محددة، بل تشكيلات متناثرة وأصوات منفردة تشكل نفسها كأصوات نقدية ولكن دون مدرسة تنظيرية أو حركة قائمة بذاتها. مع ذلك فهذه الأصوات النقدية أكاديمية كانت أو لا، تحاول أن تحفر لنفسها حيزها وجدواها في التنظير لما يجري من حركات أدبية وفنية في عالمنا العربي. ربما سنستمر بهذا التصنيف إلى أزمنة قادمة، وقد نتصادف مع هزة وتقويمات مغايرة نتفاجأ بها في يوم ما.

إلى أيّ حدّ تعتبر أنّ تجربتك أخذت حقها من النقد؟

أعتبر نفسي محظوظاً لكثرة ما درست رواياتي وقصصي وكتب عنها لحد اليوم. أعرف ايضاً أن العديد من هذه القراءات تدخل في حيز القراءات الصحافية، ولكنها مجدية ونافعة مع ما يدرس منها في الحقل الأكاديمي. لست متذمراً بطبعي، لذا أجد ما تم كتابته عن تجربتي الروائية بالعربية او بلغات أخرى مقنعاً وجيداً وأفادتني كثيراً.

كل كتاب يولد تحت طالع نجم معين، ولا قدرة على شجب أو حجب أو تعتيم على نص أدبي جيد.

كيف تجد فكرة تسويق الأعمال الروائية، وهل تبلورت سوق عربية للرواية؟

للأسف لا وجود لعملية تسويق للأعمال الروائية العربية، والسبب أننا لم ندخل بعد في فكرة الوكيل الأدبي للروائي العربي وهذا عامل مهم ومؤثر جداً ونراه ونرى قوته في الأوساط الأدبية الغربية. لذا تبقى العملية مجرد قناعة ودعم طوعي من الناشر نفسه للروائي والأعمال الروائية التي يعتقد بأهليتها وأنها ستدر عليه أرباحاً وتقييماً معيناً. مع ذلك هي خطوة جيدة، وهي البداية المقنعة، وحتى وقت قصير لم تكن رائجة ومعروفة في أوساط النشر العربية. بعد ذلك لا بد ان تجيء فكرة الناشرـ المركز كثقل للنشر والترويج والمعاينة. هناك بذور للناشر المركز، وهي بذور تحتاج لرؤية ما تطرح وما تؤول له في الأعوام القادمة من نتاج كبير أو الاستمرارية بالنهج نفسه.

- هل تحدّثنا عن خيط البداية الذي شكّل شرارة لأحد أعمالك الروائية؟

ما حصل مع روايتي (مذكرات كلب عراقي) إنني كنت أحفظ الجملة الأولى منها منذ أكثر من عشر سنين قبل أن أقدم على البدء بكتابتها. لم أكن أعرف كيف تمضي، مع معرفة ضبابية بأحداثها، وقناعة تامة أن ذلك الكلب المدعو (ليدر) سيفاجئني بالنباح في أية لحظة. في يوم ما من عام 2010، وكنت في جنوب لبنان بالقرب من بوابة فاطمة عند خط القوات الدولية المعروف ب (بلو لاين)، وفي يوم مطير تلاقت عيناي بكلب عجوز منهك يحتمي من المطر والبرد أسفل عربة خشبية عتيقة، في تلك اللحظة كنا ننظر لبعضنا البعض نظرة تساؤل وربما عتاب لصديقين قديمين، وكل واحد منا كان يردد "ماذا افعل أنا هَهنا؟". لم ألتق بالكلب ذاك مرة أخرى، ولكن نظرته الحزينة المتعبة كانت الشرارة لاستحضار تلك الجملة الأولى وبناء ما أردت بنائه عن الحرب والمنفى والدمار في العراق من خلال تلك الصورة. ذلك الكلب أهداني للطريق وتصوراتي عما ستكون عليه أحداث روايتي.

- إلى أيّ حدّ تلعب الجوائز دوراً في تصدير الأعمال الروائية أو التعتيم على روايات أخرى؟

لنتفق أولاً أن لا وجود لجائزة ناصعة مائة بالمائة، وليس هناك جائزة منصفة، وليست تلك الرواية التي لا تحصد أية جائزة معناها رواية فاشلة وغير جديرة بالقراءة والترويج. طبعاً لا. أقول هذا لأؤكد أنني شخصياً مع فكرة الجوائز وزيادتها في عالمنا العربي كما عليه في بلدان العالم قاطبة، ليس لقيمتها المادية فحسب، بل ايضاً للصدى المشكل للرواية من ترويج وتصعيد وتواجد في سوق الكتب. ثم انني لا أعتقد بأن رواية جائزة قادرة على حجب رواية أخرى. كل كتاب يولد تحت طالع نجم معين، ولا قدرة على شجب أو حجب أو تعتيم على نص أدبي جيد. النصوص الروائية تخلد أو تختفي لأسباب لا علاقة لها بجائزة أو تقريظ، مدح أو ذم. النص الميت يولد ميتاً والنص الحي يعبر زمنه ولا يموت.

الأحداث السياسية والاجتماعية والتاريخية التي تعصف بمنطقتنا قد ساهمت بشكل كبير في عملية النقل والترجمة والنشر بلغات أخرى.

- كيف تجد واقع ترجمة الأدب العربي إلى اللغات الأخرى؟

كمياً نجد إقبالا كبيراً من دور النشر الغربية (أتحدث هنا عن إسبانيا تحديداً)، وقد يقابله إقبالاً نوعياً ايضاً، ولكن كل هذا تابع لذائقة معينة ولرغبات ذاتية تحددها رغبة الناشر نفسه أو المترجم. مع ذلك ليست هناك بوادر إقبال كبير ومدروس، بل عملية انتقاء عشوائي يتدخل فيها ظروف النشر نفسه، إصرار المترجم أغلب الأحيان، وعوامل الجوائز والترويج من جانب آخر. الإنصاف أن الترجمة سابقاً في إسبانيا كانت تدور ضمن الحيز الأكاديمي وضمن رقعة دور نشر جامعية أو صغيرة الحجم تجارياً. أما اليوم فتفرعت وتوسعت وأصبح للأدب العربي (الرواية تحديداً) إقبال ورواج لدى القارئ الإسباني وبالتالي الحرص والتحيز من دور نشر مهمة على ترجمته ونشره. لا بد هنا من القول إن الأحداث السياسية والاجتماعية والتاريخية التي تعصف بمنطقتنا قد ساهمت بشكل كبير في عملية النقل والترجمة والنشر بلغات أخرى. أقول كل هذا والتوسع الكبير الذي شهدته السنين الأخيرة بنشر الأدب العربي المترجم عن سنين القرن العشرين مثلاً، مع ذلك ما نزال نقبع في الطبقة المتخلفة قياساً لآداب دول صغيرة تترجم بالعشرات للغة الإسبانية. لعل كل ذلك مدعاة لفهم أوسع للآخر والتعاون والترويج الضروري من العرب أنفسهم لآدابهم وفنونهم، وهذا ما لم يحصل بشكل مهم وكبير حتى اليوم.

- يعاني المبدع من سلطة الرقابة خاصة (الاجتماعية والسياسية والدينية) إلى أي درجة تشعر بهيمنتها على أعمالك؟ أو الحد من إيصال رسالتك الإبداعية وهل أنت مع نسف جميع السلطات الرقابية؟

أنا بالطبع مع نسف كل أنواع الرقابات. لم تعد مقنعة ولا مجدية في هذه الأزمنة، أزمنة التواصل والنشر الإلكتروني بكل أنواعه. يستطيع الواحد منا أن يكتب وينشر ولا تستطيع أكبر رقابة أن تمنعه، وهذا قمة ما يجب أن تكون عليه الرسالة الكتابية في عالمنا العربي الذي تأخر كثيراً في هذا الشأن. ما عاناه أوائل الكتاب العرب مع الرقابة الاجتماعية والسياسية والدينية والتي تحولت إلى رقابة ذاتية، لم يعد له جدوى ولا غاية في زمننا اليوم. وعلى الرقابات العربية إن كانت ماتزال في بعض دولنا، فلم تعد سوى أدوات قديمة لا نفع فيها إلا لممارسة الضغوطات وتحجيم دور المثقف فيها. الصدق انني ومنذ كتابي الأول الذي أصدرته خارج العراق، لم تسيطر عليّ فكرة الخوف من الرقيب السلطوي، وربما لأنني كنت بعيداً عنها ولأنني وجدتني منذ كتاباتي الأول في حيز حرية غير مشروطة وفرتها لي فترة العيش خارج الوطن. ربما ما أقوله من شروط لا يجدها الكثير من الكتاب العرب في بلدانهم، ولكنني متحمس بطبيعة الحال أن يكتب كل واحد منا بحرية غير مقيدة وإلا فالكتابة ستكون مقيدة هي الأخرى ولا جدوى منها. سلطة الرقابة العربية ماتت منذ فترة حتى لو بقيت دولنا تمارسها لسبب وآخر. لم يعد من مجال لرقابة ولا سلطة على الكتابة الحرة.

ما هي رسالتك لقرّائك؟

اقرؤوا ولا تتكلوا على آراء الآخرين، القراءة مدعاة للفصل ما بين الغث والسمين، بين ما يستحق وما يمكن أن ينسى ويدفن في مهده. ما دامت الكتابة حاجة ومسؤولية كبيرة، فالقراءة متعة ومعرفة تنتشلنا من النسيان.

عبدالهادي سعدون: ولد في بغداد عام 1968، و مقيم في إسبانيا منذ عام 1993. كاتب وأكاديمي ومترجم وناشر. دكتوراه في الآداب والفلسفة من جامعة مدريد. حاز عام 2009 على جائزة الإبداع الأدبي (جائزة أنطونيو ماتشادو العالمية في إسبانيا) عن كتابه الشعري (دائماً)، جائزة مدينة سلمنكا عام 2016 عن مجمل أعماله الأدبية، وجائزة صندوق الشعر العالمي في مدريد 2016. كما سبق وحاز على جائزتين عربيتين في قصة الأطفال ورواية الخيال العلمي. كمترجم نقل من الإسبانية إلى العربية أكثر من ثلاثين كتاباً لأهم أداء إسبانيا وأميركا اللاتينية مثل بورخس، أنطونيو ماتشادو، رامون خمينث، لوركا، ألبرتي وغيرهم.  من إصداراته الروائية والقصصية: اليوم يرتدي بدلة ملطخة بالأحمر 1996، انتحالات عائلة 2002، مذكرات كلب عراقي 2012، توستالا 2014، العودة إلى الأرض 2015، و تقرير عن السرقة 2020.

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم