قال الناقد والروائي هيثم حسين: إن الرواية أفسحت الطريق أمامي للتعبير عن هويّتي وكينونتي بعيداً عن الفرض والإملاء، وبعيداً عن الإلغاء والإقصاء، تجاوزت عبرها حالة التهميش التي تمّ تكريسها واضاف في حوار مع جريدة بين نهرين: الرواية كغيرها من الفنون والأجناس الأدبية والفنية تستجيب لمتغيرات الواقع، تتحرك مع التغيير وتمضي مع التجريب إلى بقاع جديدة كلّ مرة، ويمكن القول إنّ الرواية العربية بدورها هي رواية معولمة، نظراً لانحسار الحدود بين العالم وكسر المركزية من خلال وسائل الاتصال والتواصل، ولا ننسى أنّ هناك مئات الروائيين الذين يكتبون بالعربية يعيشون في كنف المجتمعات الغربية كمهاجرين ولاجئين ومقيمين ومنفيين، هؤلاء يكتبون ذاكراتهم بالتوازي مع مشاهداتهم وواقعهم، يكونون حلقة من حلقات عولمة الرواية العربية وتوسيع آفاقها وحدودها. هيثم حسين ناقد وروائيّ ومترجم كردي سوري ومؤسس موقع الرواية نت المتخصص في الفن والنقد الروائي. يعمل ككاتب مستقل ومتعاون مع عدد من أبرز الصحف والمواقع والمجلات العربية، يكتب في الشأن الثقافي والأدبي العربي والعالمي، له أربع روايات باللغة العربية "آرام سليل الأوجاع المكابرة"، "رهائن الخطيئة"، "إبرة الرعب"، عشبة ضارّة في الفردوس". وأربعة كتب نقدية: "الرواية بين التلغيم والتلغيز"، "الروائيّ يقرع طبول الحرب" ، "الرواية والحياة" ، "الشخصية الروائية مسبار الكشف والانطلاق"، وله في الترجمة عن الكردية: "مَن يقتل ممو..؟! أرجوحة الذئاب" وهي مجموعة مسرحيات للكاتب الكردي بشير ملا. غياب المجتمع البرجوازي: - من المعروف ان الرواية وبحسب لوكاتش ملحمة البرجوازية، حيث ظهر هذا الجنس الادبي بصورة متزامنة مع الثورة الصناعية وصعود تلك الطبقة ﻋﻠﻰ ﻤﺴﺭﺡ ﺍﻟﺘﺎﺭﻴﺦ ﻓﻲ ﺃﻋﻘﺎﺏ ﺍﻟﻨﻬﻀﺔ ﺍﻷﻭﺭﻭﺒﻴﺔ، ﺍﻟﺘﻲ ﺠﻌﻠﺕ ﻤﻨﻬﺎ ﺍﻟﻁﺒﻘﺔ ﺍﻟﺴﺎﺌﺩﺓ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺠﺘﻤﻌﺎﺕ ﺍﻷﻭﺭﻭﺒﻴﺔ. في حين أعدها هيغل شكلاً فنياً بديلاً عن الملحمة في إطار التطور البرجوازي، وأنها تنطوي على خصائص جماليّة، ألم تر معي أنه لا رواية حقيقية في غياب المجتمع البرجوازي في العالم العربي ؟

  • أعتقد أنّ المتغيّرات التي شهدها ويشهدها العالم الحديث قلبت معايير الحياة والفنون، واستجابت الرواية لهذه المستجدّات بطريقة لافتة، بحيث أصبحت ملحمة الناس اليومية، كسرت القوالب الجاهزة والصور النمطية، ألغت الحدود بين الطبقات، انتقلت لتصوير عوالم المهمشين وتقديم أحلامهم وآمالهم، أصبحت ملحمة الناس العاديين، لأنّها أكبر من أن يتمّ تقييدها بطبقة أو فئة، تتوجّه إلى الإنسان من مختلف الطبقات وفي مختلف الأمكنة والأزمنة. وأعتقد أنّ من الخطأ استجلاب الأنماط الغربية وتلبيسها للرواية العربية، والتضييق على الرواية العربية وكأنّه يتمّ تفصيلها على شروط الرواية الأوربيّة، لأنّ ظروف الحياة مختلفة، والتاريخ في الرواية متجدّد وغير مقيّد أو دائر في فلك محدود. هوس الجوائز الادبية: - في العالم العربي هناك هوس جماعي لكتابة الرواية تحت هاجس الجوائز الادبية (لم تظهر بهذا الكم إلا بعد تأسيس جائزة البوكر بنسختها العربية وجائزة كتارا) هذا التكاثر العشوائي للرواية نتيجة الاستسهال في النشر والتوزيع على الرغم من غياب الكثير من العناصر والمقومات.. كيف ترى ذلك؟
  • يمكن النظر إلى الظاهرة من وجهتي نظر متعاكستين، وجهة نظر متشائمة ترى في هذا الكمّ تسفيهاً للفنّ الروائيّ وتمييعاً له من جهة الاستسهال والانكباب على النشر من دون الاشتغال المطلوب على النصوص، بحيث تظهر نصوص باهتة، مستعجلة، تبحث عن مكان في سوق النشر، وفي قوائم الجوائز، وهذا الاستسهال ينعكس عليها بصورة سلبية بحيث تظهر مثيرة للشفقة والاستياء وتفرض على أصحابها بعد مدّة ضرورة مراجعتها، أو البدء بنقدها وربّما التبرّؤ منها.. وهناك وجهة نظر أخرى، أقلّ تشاؤماً، ترى في هذا الكمّ شرارة البدء بالتحضير لنوع يمكن تصنيفه بالتراكم والغربلة والتقادم، وهنا لا يمكن خداع القارئ وفرض رواية بائسة عليه وتصديرها على أنها أفضل رواية في موسمها.. ولعنة الجوائز أنّها جعلت الفنّ الروائيّ موسميّاً، وكأنّ الرواية التي لا تجد مكاناً لها في لوائح الجوائز تصبح قديمة بائتة لا رغبة لأحد بقراءتها.. وتسقط في حسابات السوق والقرّاء.. هذه مشكلة كبرى في عالم القراءة العربيّة الذي يعاني أصلاً من ندرة القرّاء.

متحف الفنون: - الرواية تعد الان (متحف الفنون) حيث تتداخل الأسطورة والخرافة والملحمة والواقع، هل استطاع الإنتاج الروائي في العالم العربي بلورة خطابه المختلف والخاص الذي يميزها عن غيرها من الفنون المتقاطعة معها؟

  • لا أعتقد أنّ هناك خطاباً روائياً عربيّاً واحداً، ربّما هناك تنويع في الخطاب بحسب البيئة والزمان، بحسب خلفية الكاتب وبنيته الفكرية وتوجّهاته، بحسب محلّ الإقامة أو الولادة، بحسب الثقافة والتوجّه.. وتكون الروايات تظهيراً لأفكار الروائيين ورؤاهم لزمنهم ووتاريخهم وعالمهم وذاتهم في خضمّ العالم المحتدم. الرواية لا تحتلّ مكان أيّ فنّ، هي تتكامل مع الفنون الأخرى في رسم لوحة الإبداع الإنسانية. هذه الهبّة الروائيّة التي يشهدها العالم العربيّ تهيّئ لبلورة تصوّرات عن الحاضر والمستقبل، وتوجب مقاربة مواضيع وقضايا كانت تصنّف في خانة الممنوعات والمحظورات. حركة التجديد: - هل من الممكن ان نعد الروائيين العرب مجددين بشكل جذري، ليس فقط في بنية الكتابة الروائية وإنما في النظريات الفلسفية وكذلك في الخطاب النقدي؟
  • ربّما القول بالتجديد المعمّم يحمل شيئاً من المغالطة واللبس، ويتضمّن توصيفاً رغبوياً غير محمود، ذلك أنّ المجدّدين في الرواية العربيّة قليلون.. أما النظريات النقدية وتطبيقاتها، فالعالم العربيّ ما يزال في طور النقل عن الغرب، ثم يكون تلبيس النظريات المنقولة وتطبيقها على النتاجات العربيّة، من دون الأخذ بالفروقات الثقافية والحضارية والفكرية بين العالم الغربي والعربي. لا يمكن فصل النظريات والرؤى النقدية عن أزمنتها وتاريخها، والتعاطي معها على أساس الفصل وزعم الاستقلالية.

زحف العولمة: - في ظل العولمة التي طالت جميع الانساق الثقافة والآداب، وغيرت حتى تركيبات الهويات، أتساءل عن المتغيرات التي طالت الرواية في العالم العربي ؟

  • الرواية كغيرها من الفنون والأجناس الأدبية والفنية تستجيب لمتغيرات الواقع، تتحرك مع التغيير وتمضي مع التجريب إلى بقاع جديدة كلّ مرة، ويمكن القول إن الرواية العربية بدورها هي رواية معولمة، نظراً لانحسار الحدود بين العالم وكسر المركزية من خلال وسائل الاتصال والتواصل، ولا ننسى أنّ هناك مئات الروائيين الذين يكتبون بالعربية يعيشون في كنف المجتمعات الغربية كمهاجرين ولاجئين ومقيمين ومنفيين، هؤلاء يكتبون ذاكراتهم بالتوازي مع مشاهداتهم وواقعهم، يكونون حلقة من حلقات عولمة الرواية العربية وتوسيع آفاقها وحدودها.

إبرة الرعب: - في روايتك (إبرة الرعب)، ثمة خطاب ايروتيكية، ماهي وظيفة المشهدية الايروتيكية في الخطاب الروائي؟

  • أعتقد أنّ الخطاب الروائيّ هو صيغة مصغّرة لخطاب الحياة نفسه، ولك أن تتساءل عن حضور الجانب الإيروتيكي في حياة كلّ امرئ حتّى تستدلّ إلى وظيفته وأهميته في خطابه الحياتي، ومن ثمّ في خطاب الروائيّ. في "إبرة الرعب" كان هناك سعي لاستفزاز القارئ، وإشعاره بالصدمة، وتنبيهه إلى أنّ كثيراً من الموبقات تغرقه في واقعه ومحيطه، ولا يجدي عدم التحدّث عنها، وأنّ التغاضي عنها أو التعتيم عليها لا يلغيها أو يمسحها من خارطة الممارسات الحياتية والسلوكات اليومية الحاضرة والراسمة لتفاصيل حياة الإنسان، والإشارة إلى أنّ الانتقام يدمّر الإنسان ويدفعه إلى رهن نفسه من أجل إفساد حياة غيره، في حين أنّه يفسد حياته ويبدّدها.. أردت التركيز على فكرة أنّ عدم الخوض في مواضيع محظورة لا يعني عدم وجودها، أو اندثارها، بل هي تتنامى في العتمة وتصبح وحشاً مرعباً. وقد جاء اشتغالي في روايتي الجديدة "عشبة ضارّة في الفردوس" كمحاولة لخوض مغامرة جديدة في حقل المعتّم عليه.

تفتت الهويات: - هل من الممكن أن يساهم الأدب والثقافة والفكر في تشكيل وبلورة هوية وطنية، في ظل تنامي الدعوات العنصرية لتفتيبت المجتمعات؟

  • هناك استعار للدعوات العنصرية في الشرق برمّته، وما هذه الحروب الطائفية المقيتة إلا تظهيراً للحقد الدفين الذي يتجلّى كتعارك دمويّ عنيف لا يستدلّ إلى أيّ طريق للتهدئة أو التوقّف والتراجع.. كلّ امرئ يزعم أنّه يملك الحقّ والحقيقة، وأنّه موكل بتغيير العالم، والتغيير من وجهة نظره هو جعل الآخرين مثله، قولبتهم وتقييدهم ليصبحوا نسخاً مشوّهة عنه وعن فكره، وكأنّ إعدام الاختلاف هو الطريق لبلورة صيغة مفترضة من شعارات منشودة. الوطنية تثرى بالاختلاف والتنوّع، ولا يمكن لأحد احتكار الوطنية أو تجسيدها في ذاته ووجوده من دون الآخرين. الفنون والآداب تقتفي أثر الناس تارة ووتفتح لهم آفاقاً جديدة ودروباً مبتكرة ليسيروا فيها بحثاً عن صيغ للتعايش والتآخي وتقبّل الآخر كما هو من دون البحث عن ذرائع لقتله أو تخوينه أو تأثيمه. الرواية ضد المحو والاقصاء: - تعد الرواية احد أنواع المقاومة الثقافية للهيمنة وأشكال المحو والإقصاء التي تمارسها الثقافة المركزية على الثقافات الأخرى. فالسرد في الكثير من الاحيان يعيد الاعتبار لما هو في طور المحو والزوال والمسكوت عنه. هل شكل السرد بالنسبة لك احد ادوات المقاومة ؟
  • أفسحت الرواية الطريق أمامي للتعبير عن هويّتي وكينونتي بعيداً عن الفرض والإملاء، بعيداً عن الإلغاء والإقصاء، تجاوزت عبرها حالة التهميش التي تم تكريسها وفرضها علينا ككرد في سوريا. حاولت أن تكون هويتي الكردية صورة من صور الحضور الإنسانيّ الثريّ الذي لا يمكن إغفاله أو تجاهله أو تحطيمه. محاولات المحو لا تجدي ولن تجدي، والرواية سلاح من أسلحة المرء للمواجهة، والذاكرة هي ميدان مواجهة دائم، لذا فأن تكتب بصدق وإخلاص فأنت تظهر بؤس الآخر الذي يستعديك لغايات عنصريّة، ويكتوي بنيران بغضه بينما تتفوّق عليه بإنسانيّتك. رهائن الخطيئة: - تعالج رواية "رهائن الخطيئة" الهوية الجماعية الممزقة للأكراد، الهوية التي تعرّضت لتمزيق جغرافي ومجتمعي، لتضطلع بدور التاريخ. هل تشكل صرخة سردية ضد النسيان والتهميش؟
  • بصيغة ما هي رواية مواجهة التاريخ بتفاصيله التي أهملها، أو تمّ إسقاطها بوعي أو بجهل. الانقسام الذي تعرّضت له الهويّة الكرديّة تجلّى بصيغ شتّى، لدرجة أصبحت هناك هويّات كرديّة، فالكرديّ السوريّ يتحدّث العربية كلغة أم إلى جانب كرديته، في حين أن الكردي في تركيا يتّخذ التركية كلغة أم إلى جانب كرديته، واللغة هنا تتجاوز دورها كوسيلة تواصل، بل هي حامل حضاري وهوياتي، وهي ترسم هوية المرء في واقعه..حياكة التاريخ وحكايته ونسجه بطريقة تعيد فيها الاعتبار للمهمّشين من وسائل التحدّي للمستعمرين والمستبدين والطغاة الذين يحرصون على تزوير التاريخ لتصدير التاريخ الذين يريدونه. الانفجار الرقمي: - هل يغير الانفجار الرقمي وجه العالم كما فعل اكتشاف الطباعة من قبل؟ هل يتحكم العالم الافتراضي بما يحيط بالإنسان في عالمه الواقعي ويبقيه سجين تفاصيله وأدواته؟
  • نحن على أعتاب عالم متغيّر باطّراد وتسارع، كلّ يوم هناك اكتشاف جديد يفرض نوعاً مختلفاً من التعاطي معه، وهذا الانفجار يهيئ لإبداعات مختلفة، إذ هناك قضايا واهتمامات وانشغالات تظهر على السطح معها، وعلى الروائيّ تقصّي دوائر تأثيرها والتقاطها ومحاولة المواكبة كي لا يبقى متخلّفاً عن ركب الحضارة. الثورة الرقمية غيرت كلّ شيء، خلقت عالمها الخاصّ الذي يجب التعامل معه بأدوات مختلفة، والاستنكاف عن المواكبة أو خوض غمار التحدّي يخرج المرء من واقعه ويبقيه أسير ماضٍ يتحوّل إلى قيد خانق يوماً بيوم.

عن جريدة "بين نهرين" الثقافية العراقية.

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم