"مياه متصحرة" النص الذي يناقش أكثر المراحل خطراً في وجود الإنسان، ذلك المكان الذي لم يطأه أحد وعاد منه ليخبرنا ما حدث معه، الرحلة الأخيرة المشتهاة نحو العالم الآخر بكل ما يحمل الموت من معانٍ عديدة تسير في "مياه متصحرة" عبر مسارات أرساها الكاتب بتقنيات عديدة. أعمدة النص الغائبة: يقوم نص الكاتب في عقله الباطن على ثلاثة أعمدة لا يدركها المتلقي، الأول هو "ضياء كمال الدين" ابن عم حازم، سينمائي عراقي داهمه الموت بوقت مبكر فغادر ذاكرة جيله وخرج من المعادلة الثقافية العراقية المتنكرة لأبنائها مِن أصحاب المواقف الثابتة بحسب ضيفنا، الثاني هو الفنان العراقي حمادي الهاشمي الذي عثروا عليه بعد أيام من موته بجلطة دماغية مرمياً بجانب سريره في بيته بمدينة خينت البلجيكية فكان لموته ارتداداته النفسية عند حازم كمال الدين الذي عاد لممازجة أربعين عاماً كاملة من ذاكرته مع ضياء وحمادي بقالب درامي يقوم على ثيمة الموت الذي بدأ يشعر به يتسرّب إلى أطرافه، يعترف هنا أنه أخبر المقربين بكثير من الحمولة الزائدة عن الحياة لأن رفاقه حزموا حقائبهم فجأة وغادروا. تشويه الفيلم: هنا يغدو للموت قيمة أخرى كما يراها حازم، ليس الخوف هو الناظم فيها، إنما الإحساس بالعدم والنكران من المحيط الثقافي والإنساني للميت الراحل، ثالث الأعمدة في النص يقوم على فيلم "مياه متصحرة" الذي يقوم الديكتاتور وأجهزته بإعادة تركيب مشاهده ليخدم الخطاب الرسمي ما يؤدي إلى تشوّه الحكاية، هذا الفيلم لصاحبه الحقيقي السينمائي "قاسم حَوَل" الذي عاش التجربة كاملة في عقاب الديكتاتور الذي يقوم على مفصل يراه حازم كمال الدين اليوم بوضوح تام، فالديكتاتور يسعى لتحويل المثقف إلى خائن وليعيش المثقف في عباءة الخيانة المفترضة متظلّلاً بإحتقار الآخرين له على اعتباره خائن، هذا العقاب يعتبره ضيفنا أقسى من الموت، حادثة السينمائي "قاسم حوَل" الذي أنجز فيلم "بيت في ذلك الزقاق" ثم غادر العراق ليعيد الرقيب انتاج الفيلم بصورة جديدة، هذه الحادثة كانت العامل الدرامي الذي دفع الكاتب لنسج حكاية كاملة ألبسها لضياء كمال الدين وحمادي الهاشم خصوصاً أن قاسم حول ما يزال على قيد الحياة والرقيب أيضاً الذي أعاد انتاج الفيلم و تشويهه!. عرض مسرحي في كتاب: يعترف ضيفنا أنه سعى لإنجاز عرض مسرحي فضاؤه الكتاب، الهدف عنده في الخطوة الأولى لم يكن كتابة نص مسرحي أو رواية تحمل الطبائع المسرحية، فما سيطر عليه هو الفضاء المسرحي الجديد، أو فسحة السرد، وشخوصه وذلك لإضفاء صفة الآنية في ذهن المتلقي، هذه الخلطة التي اعتمدها دفعته للإشتغال على أنماط مختلفة، أولها النمط التفاعلي الحي بأن ما يحدث، يحدث الآن ضمن بنى سردية لها علاقة بالماضي والمستقبل معاً، اختراق الزمان هذا كان لا بد له من ارتباط ميثيولوجي أو أسطوري يتناسب مع الحكاية، هذه الخلطة كان لا بد لها أيضاً من بناءين الأول لا يراه إلا الكاتب يتعلق بشخوص الظل والفاصل الوهمي بينهم والثاني يتعلق بالمتلقي الذي يتعامل مع النص كبوابة للحكاية. الانصهار مع الواقع: حازم كمال الدين ينفي صفة الغرائبية عن شخوص "مياه متصحرة"، فشخوص الرواية – كما يراها ضيفنا- كانت منصهرة مع الواقع حدّ الكمال الكلي فكل ما تنطوي عليه المسارات السردية في الحكاية- خلا الميثيولوجيا- حدثَت وتحدث أو يمكن أن تحدث في الواقع اليوم، الواقع الذي يصفه ضيفنا بالعاري من خلال علاقته بالآخرين. سألنا ضيفنا عن إصراره في غالب شخصياته الروائية على تقديمها بصورة مشوّهة ومهزوزة، يقول حازم إنّه لا يسعى لذلك فتلك الشخصيات موجودة في الواقع وهي منه سواء في عهد الديكتاتورية أو في ظل الاحتلال الذي أعاد انتاج الحالة الثقافية التي كانت موجودة أصلاً في زمن الديكتاتور، هي تجليّات لا يمكن إنكارها أبداً كما يصفها ضيفنا الذي فاز عام 2014 بجائزة المسرح العربية. الحقيقة الغائبة: من خلال تفكيك النص وإعادة تركيبه، تمكن ملاحظة أن الشخصيات تمثل في مجموعها الحكاية الكاملة بينما كل منها على حدة يقدم حكاية منفصلة لها وجهها الكلي. نسأل حازم عن المصادفة في هذا، ليقول إن كل فاصلة وكلمة ونقطة مقصودة في النص، فتدوير الحقيقة النسبية يؤدي إلى إنتاج حقائق أخرى، ربما هنا كما يرى ضيفنا كان التجريب هو الحالة المُثلى لفرض حالة النص في فضاءاته المختلفة، لتقديم الحقائق المختلفة في سياق الحقيقة الثابتة القائمة على ثيمة الموت. هذا المزج أتى بصورة ضياء كمال الدين وحمادي الهاشمي وقاسم حول من خلال فيلمه "بيوت في زقاق قديم" لتكون "مياه متصحرة" هي الحكاية الكاملة عن عصر الطائفية اليوم وعصر الديكتاتورية في العراق، ذلك العصر الذي استمر بسقوط الديكتاتور ولكن بأشكال مختلفة، يبوح هنا حازم عن حالة الإقصاء التي فُرضت ضده في زمن حكم البعث وخروجه من العراق إلى المنافي البعيدة ويقارنها بما يحدث اليوم من خلال تغييبه– غير المفهوم وغير المبرر- عن المؤسسات الثقافية وصفحات الإعلام العراقي بعد ترشّح الرواية للقائمة الطويلة في البوكر وقبل ذلك بفوزه بجائزة المسرح العربية العام الفائت. الإقصاء الذي يتّخذ أشكالاً عديدة تبدأ من الحالة الاجتماعية ولا تنتهي عند الحالة السياسية ناقشها ضيفنا بكثير من المهارة عبر روايته الأخيرة لتكون الشاهد الحي عن الحياة الضاجّة بالحياة التي تنتهي بموت بارد يقود صاحبه إلى أن يُنسى، هذا الموت الذي انتفض ضده حازم كمال الدين عبر العديد من الأعمال الأدبية صدرت بالعربية وبلغات أخرى لتكون الشاهد الحي الباقي إلى الأبد.

الرواية نت

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم