أجرى الموقع الألكتروني الكولومبي (Semana)، حواراً خاصاً مع الكاتبة البيلاروسية الحاصلة على جائزة نوبل للآداب حول الصحافة، وتشيرنوبيل، وسياسة بوتين.

كل كتابٍ نشرته كان يحمل بين ثناياه فاجعة عظمى. وفي كل صفحة منه تجسّد سفيتلانا ألكسييفيتش الألم، والرغبة في النسيان أو التذكر، وحاجة الذين نجوا من الفاجعة للتنفيس. ومن خلال أدنى المداخلات تبني ما يسمى "أصوات من تشيرنوبيل"، أو "جوقة ملحمية" كي تتقل الصورة عن شخصياتها الحقيقة كما هي، دون رتوش، على الرغم من التعتيم السوفيتي. تعكس كتب ألكسييفيتش تأريخ الإتحاد السوفيتي والجمهوريات السوفيتية ال 15، بعد تفكك الوطن الأم. ومن أبرز مؤلفاتها (لا يوجد للحرب وجه أنثوي) 1981، و(أولاد الزنك) 1989، و(أصوات من تشيرنوبيل) 1997، و(زمن مستعمل) 2013. ويعرض كتابها الأول دور النساء في الجيش الأحمر خلال الحرب العالمية الثانية (أو الحرب الوطنية العظمى بالروسية)، وكيف كانت المقاومة النسائية حاسمة في المعارك الرئيسية في لينينغراد وستالينغراد. ويكشف الكتاب الثاني عن قصص الجنود السوفيت الذين شاركوا في الحرب في أفغانستان، واحدة من الهزائم الكبرى للإتحاد السوفيتي. بينما يصوّر الكتاب الثالث الألم الذي خلّفته كارثة تشيرنوبيل، وعمليات الإجلاء، والإرتباك، والأمراض الإشعاعية. ويسلط الكتاب الأخير الضوء على أسباب إنهيار المنظومة الإشتراكية. رغم أنها تعد أول كاتبة تفوز بجائزة نوبل عن أعمال غير سردية، إلاّ أن ألكسييفيتش إستطاعت أن تمنح معنى جديداً للتحقيق الصحفي، وللإبداع الأدبي. ما بين الدراما البشرية، ولغة التعبير الشعرية وتلاحم الأصوات، تكتشف الكاتبة مساراً كان مجهولاً، من أجل أن يتعرف القارئ عن كثب الأسباب الحقيقية التي كانت أخفتها ولم تعلن عنها سلطات الإتحاد السوفيتي سابقاً.

- ماذا يعني لصحفية بيلاروسية الفوزر بجائزة نوبل للآداب؟ لا زلت حتى هذا اليوم غير مستوعبة للحدث. لم تغيّر الجائزة طريقتي في الكتابة. وأعتقد أن الصحافة ليست هل التي فازت بجائزة نوبل. لماذا يجب على الأدب أن لا يطرق أنواع الكتابة التقليدية؟ وتحديداً في الوقت الحالي، حيث نحاول البحث عن أشكالٍ جديدة للتعبير، وخاصة في الفن والأدب... أن "أصوات من تشيرنوبيل" أو "جوقة ملحمية"، تعد نوعاً جديداً في الكتابة، لكن ضمن الجنس الأدبي.

- ولكن هل تعتبرين نفسك صحفية أكثر أم كاتبة؟ أجمع المادة كصحفية، لكن أنقلها إلى الورق ككاتبة أدبية. في مقابلة صحفية يمكن أن أسجل 100 صفحة، هذا لا يعني أنها ستكون ضمن العمل في النهاية. أن الأدب، مثل أية وسيلة تعبيرية معاصرة يبحث عن طرق جديدة، والنوع الذي لدي يعتبر واحداً منها. لا يمكن لصوتٍ واحد أن يحدد رؤيا كاملة عن الحاضر. هناك حاجة لعدة أصوات. ومن هنا تأتي الحاجة إلى أدب الصحافة.

- كيف ترتبين جميع تلك الشهادات في كتبك؟ في البداية، لا تكون لدي أدنى فكرة عما سيكون الموضوع الرئيسي للكتاب، لأنني أقوم فقط بجمع وتحليل المواد، وبعدها أشرع في وضع شكل الكتاب. هي ليست، بالضبط، مقابلات، بل أحاديث عن الحياة. الأهم من ذلك، إثارة إهتمام الشخص وطرح أسئلةٍ جديدة دائماً.

- عندما يقرأ المرء كتبك تبدو الشهادات في غاية الكمال، والشعرية، والتأملية... ما الذي تفعلينه كي يبدو النص هكذا؟ دائماً أضع نصب عيني نموذج النحات رودان: كان يأخذ قطعة من الرخام وينزع عنها كل ما يبدو زائداً، حتى يخلق منها عملاً فنياً. أهيأ أسئلة صعبة كي تكون تلك اللحظة مثمرة وغنية. من المثير للإهتمام، أن الناس يتحدثون بشكلٍ أفضل في هذه اللحظات، ويروون أحداثاً حقيقية، بعضها لم أكن أعرف أنها موجودة. أنا أبحث عن الفن في الحياة نفسها. هناك لحظتان في الحياة يتحدث الإنسان خلالها بطريقة أفضل: لحظة الموت، ولحظة الحب.

- هذا المزيج، الموت والحب، نراه جليّاً في كتابك "أصوات من تشيرنوبيل". تحديداً، في 26 نيسان/ أبريل صادف مرور 30 عاماً على هذه المأساة. لا زلت تعتقدين أنها كارثة عصرنا؟ تشيرنوبيل شكلت تأريخاً يشار إليه بقبل وبعد. منذ كارثة تشيرنوبيل، أدركنا أننا في نوع آخر من الحرب، تفرض علينا تحديات أخرى. عدد الأشخاص الذين قتلوا في هذه الكارثة أكثر من عدد الذين راحوا بسبب الحروب المحلية، وظهرت بسببها العديد من الأمراض التي لم يتم تشخيصها حتى يومنا هذا.

- لماذا هذا العنوان الفرعي للكتاب "سرد تأريخي للمستقبل"؟ أشير في العنوان الفرعي للمستقبل، لأن تشيرنوبيل ليست حالة وحيدة. إنظروا إلى ما حدث في كارثة فوكوشيما!

- لماذا تقولين أنها تؤثر على تأريخ البشرية؟ تخيّل هذه الصورة: الجنود يقومون بإجلاء سكان المنطقة المتضررة، ويدخلون منزلاً، وإمرأة مسنة ترفض قائلة: "هل هي حرب؟ الجنود هم من بلدي، وهناك تغني الطيور، وهناك فأر، هذه ليست حرب". لكن، نعم كانت حرب مختلفة. ليس بمقدور الناس الشعور بمدى خطورة تشيرنوبيل. لم يكن هناك قصف، أو إطلاق للنار. لا يمكن رؤية الإشعاع، ولا سماعه، ولا الشعور به، والخطر إتخذ أشكالاً مختلفة وجديدة.

- ما الذي بقي عالقاً في ذهنك من هذه الكارثة؟ لقاء الأشخاص الذين عانوا من المنطقة المتضررة كان بحد ذاته مأساةٍ كبرى، كانوا ينظفون كل شئ، المنازل والشوارع، ويدفنون الأرض حتى! كان المشهد كارثياً: لم يكن بمقدوري الجلوس على الأرض لكونها ملوثة، أو أن أكل تفاحة أيضاً، ولا السباحة في النهر. كان الموت منتشراً في كل مكان.

- عندما يقرأ المرء قصصك يصاب بالفزع. ماذا عنك؟ دائماً أضع القارئ أمام عيني. أنا لا أعرض الكوارث فقط: أنا أكتب عن المخاطر التي نعيشها أيضاً. من الطبيعي أنها تؤثر فيّ، لأنني لست روبوتاً. لو لم أكن متأثرة، لما إستطعت التعبير عنها. أنا من دعاة السلام، وضدّ الحرب، وكي أعبر عن مشاعري يجب أن أدخل في التفاصيل. هكذا أنقل رسالتي إلى القارئ.

- يقال، عادة، أن جائزة نوبل تحركها دوافع سياسية، في إعتقادك، هل كان لموقفك المعارض للرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو دوراً في حصولك على هذه الجائزة؟ (تضحك). أنه لغز كبير. لماذا تتصرف الأكاديمية السويدية بهذا الشكل؟ أنا أجهل السبب الحقيقي لنيلي بالجائزة، لكن في رأيي على الكاتب أن ينحاز إلى جانب الخير. أنا لست سياسة، ولا عالمة سياسة، أنا فنانة.

- ما هو الفارق الكبير بينك وبوتين؟ ذات الشئ الذي يفرق بين سياسي إستبدادي وفنان. موقفان مختلفان تماماً تجاه الحياة. كنت أودّ أن أرى بلداناً حرة، سواء أكانت روسيا أم بيلاروسيا، وليس روسيا اليوم. أعرف أنه لا يمكن بلوغ مثالية أفلاطون، والتي تدعو إلى أن تكون السلطة في أيدي المثقفين والمتعلمين. ومع ذلك، على القادة أن يكونوا مؤهلين ويحترمون الحياة.

- هل تعرضت كثيراً للرقابة، وما مدى ممارستك للرقابة الذاتية؟ يمكن أن نتحدث عن الرقابة فقط في الحقبة السوفيتية. في أيام الإتحاد السوفيتي خضعت للإنتقاد، وتأخر نشر كتبي لأكثر من عامين وصدر حكم سياسي ضدي بسبب نشر كتابي (أولاد الزنك). وأخضعت نفسي لرقابة ذاتية أيضاً، ولكن منذ عدة سنوات قمت بإدراج ما تركته جانباً في كتبي مرة أخرى. خلال زمن الإتحاد السوفيتي، عندما كان لديه إعتزاز كبير بجيشه، لم يكن بمقدوري نشر فقرة في كتابي (لا يوجد للحرب وجه أنثوي)، والتي تقول أنه بعد إنسحاب القوات الألمانية، كان الجنود يأخذون جثث الألمان المجمدة ويستخدمونها كمزالج. النصر لم يكن جميلاً فقط، مثلما رسموا صورته في الإتحاد السوفيتي، ولكن مرعباً أيضاً.

- ما الذي جرى للأشخاص الذين لم تُدرج أصواتهم؟ أغلب النساء اللاتي تحدثت إليهن عدن ليقلن لي أنهن لا يرغبن في الموت، بعد مرور عدة سنوات، قبل أن يروين الحقيقة كاملة. كن قد أخفين بعض الأمور في الجولة الأولى من محادثاتي معهن. جميعنا نعيش سجناء عصرنا، في داخل قفص، ومن الصعب جداً أن نفتحها كي نكون أحراراً. ولذلك، لا يتعلق الأمر بحرية بدنية فقط، بل روحية أيضاً، وأن ندرك أن الحياة أكثر بكثير مما تراه أعيننا.

- هل ما زالت الشيوعية باقية على قيد الحياة؟ في التسعينات كنا جميعاً رومانسيين، كنا نتطلع إلى حياة مثالية، ونظن أن الشيوعية قد ماتت. ولكن، ذلك لم يكن صحيحاً، إذ لا تزال على قيد الحياة.

عن جريدة إيلاف الإلكترونية

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم