تمهيدًا ﻹعلان النتيجة النهائية لـ "الجائزة العالمية للرواية العربية - البوكر"، يوم الثلاثاء المقبل، ينشر "مدى مصر" عروضًا للروايات الست التي وصلت للقائمة القصيرة للجائزة، وهي "نوميديا" لطارق البكاري من المغرب، "حارس الموتى" لجورج يرق من لبنان، "عطارد" لمحمد ربيع من مصر، "سماء قريبة من بيتنا" لشهلا العجيلي من سوريا، "المصائر.. كونشرتو الهولوكست والنكبة" لربعي المدهون، و"مديح لنساء العائلة" لمحمود شقير من فلسطين.

_____________________

تدور أحداث رواية "حارس الموتى" للبناني جورج يرق (منشورات ضفاف، 2014) في فترة الحرب الأهلية اللبنانية، وبين فضاءين مكانيين، أحدهما ريفي تبدأ به الرواية، والآخر حضري يظهر بعد انتقال بطل العمل "عابر ليطاني" إلى المدينة.

من القراءة الأولى للعمل، يظهر أن جورج يرق يركِّز على وصف أجواء الحرب بكل ما حملته من بشاعة وقسوة في القتل والاختطاف والاغتصاب والسرقة. وهي الممارسات التي لم تكن محصورة في مكان بعينه، بل في كل موضع تتحرك فيه الرواية مكانيًا: المدينة والقرية، الثكنات العسكرية والمستشفيات وثلاجات الموتى. لا مهرب من كل هذه الوحشية المقيتة التي جلبتها الحرب.

مع مضي ما يزيد على ربع قرن على انتهاء الحرب اللبنانية، نجد أنها لا تزال مادة خصبة للأعمال الإبداعية، وللروائيين خاصة. أسأل جورج يرق: هل تبدو الحرب الأهلية اللبنانية لعنة أصابت اللبنانيين عامة، والروائيين على وجه التحديد، لا يمكن الفكاك منها على مستوى الانشغال اﻷدبي؟

فيقول: "ليس سهلًا نسيان خمسة عشر عامًا من القتل اليومي والقهر اليومي والخوف اليومي. من عاش الحرب وأهوالها وانعكاساتها القاتلة لم يخرج منها سليمًا. الحرب دمرت أحلام جيلين كاملين وخلفت فيهما جروحًا عميقة".

"أنا ممن عانوا من الحرب. لولاها ربما كنت شخصًا آخر. كانت لديّ أحلام كثيرة تداعت، الواحد تلو الآخر، مع تتالي الويلات والانتكاسات وموت الأصدقاء وتهجير الأقرباء إلى ديار الله الواسعة. لا بد من انتقال هذه القتامة إلى العالم الكتابي ما دامت مترسخة في الوجدان والذاكرة والجروح الداخلية. وقد تسربت إلى الشعر والرواية والمسرح والسينما. ليست الرواية وحدها هي المعنية بالغوص في الحرب وكواليسها ومآسيها. الفنون كلها معنية، وأكثرها السينما التي تطرقت إلى الحرب وأثمرت أفلامًا رسمت جوانب عدة من الحرب الأهلية. الحرب زاخرة بالموضوعات الجذّابة. وطبيعي أن يعود إليها الروائي بحثًا عن ثيمة غير مطروقة. في "حارس الموتى" فتحت بابًا على مكان بكر لم تلجه روايات الحرب، وهو المستشفى، تحديدًا ثلاجة الموتى. وقد استمددت نواة الرواية من شخص اشتغل في الثلاجة وكان ينقل إليّ أخبار المستشفى وأهالي القتلى ومشاهد الجثث والأشلاء. اختزنت هذه اﻷخبار نحو خمسة وثلاثين سنة حتى قررت إفراغها في قالب روائي. هكذا ولدت "حارس الموتى". وأنا شاكر لذلك الشخص حماسته لمعاودة سرد ما جرى له وما رأى في عمل لم يعد يزاوله. قبل كتابة الرواية التقيته لساعات، واسترجع الكثير من ماضيه في المستشفى. الرواية لا تحكي قصته لكنها استفادت من مروياته".

"نعم، الحرب لعنة ضربتنا في لبنان ومضت اليوم تضرب بلدانًا عربية أخرى".

****

مع ما تحمله الانتقالات المكانية التي حدثت في مسار حياة عابر، الراوي، من إشارات قوية إلى ظهور الحرب في كل ما هو محيط، يبدو مسار الأحداث كله دائريًا. فمن كون عابر شاهدًا على عملية خطف حدثت في قريته في بداية العمل، نجده قد أصبح مخطوفًا في النهاية. وعلى امتداد المسار الزمني للعمل من البداية للنهاية، يتورط عابر لأسباب عدة تتأرجح بين الحتمية والاختيار، في هيئات وظيفية متنوعة بين المشاركة في حراسة مجموعات القتال والسرقة، وفي خضم ذلك كله، نراه شاهدًا مرة أخرى على أعمال اغتصاب وسلب وغيرها من الأفعال البربرية التي تجلبها الحرب. وتظهر التناقضات التي يحملها القدر له.

تجلب هذه التناقضات بلا شك خوفًا يتملك عابر، والخوف هنا جزء رئيسي من حركة الأحداث، ويؤثر في انفعالاته وقراراته تأثيرًا ملفتًا. فهروبه من قريته كان تحت داعي الخوف من الانتقام منه بسبب عملية خطف لم يرتكبها، ولم يكن إلا شاهدًا عليها.

ومع الخوف الذي يظهر كمحرك أساسي لمسار الأحداث بالنسبة لعابر بطل العمل، أسأل صاحب "حارس الموتى"، من أي شيء يخاف، كروائي وكإنسان؟

فيجيب: "كروائي لا خوف لديَ إنما شيء من القلق. قلق متصل بضرب قطاع النشر الذي يتعرض للسطو المباشر الذي قد يذهب به إلى الإفلاس إن لم يُلجم. ومن يقوم بالسطو الكثير من المواقع المتخصصة بنشر الكتب. تسرق الكتاب وتنشره وهو لا يزال في طبعته الأولى. وهذا ما يكبِّد الناشر خسارة فادحة ومن ثم الكاتب الذي لن يحصل على حقوقه الشحيحة ما دام ناشر كتابه لم يكسب شيئًا. لست ضد هذه المواقع بل على العكس، أشجعها لأنها تقدم الثقافة مجانًا للراغبين في الاطلاع والمعرفة. ولأنها مكتبة القراء غير القادرين على شراء كتاب. لكني أناشدها ألا تنشر الكتب الجديدة، وإنما تنتظر ثلاث سنوات على الأقل ثم تنشرها. استمرار السطو على هذا النحو يؤثر سلبًا على قطاع النشر بل يدمِّره. ويهدد الكتاب الورقي".

"أما كإنسان فأخاف أن أفقد حريتي في القول والمعتقد والحركة. كما أخاف المرض الذي يدك الجسد ويعيث فيه أوجاعًا قبل أن يميته. أجمل الميتات هي الميتة المفاجئة والمرء نائم. أحب عبارة "الموت بين الأهل نعاس" التي اختارها الروائي اللبناني جبور الدويهي عنوانًا لمجموعته القصصية الأولى. عندما شرعت في كتابة "حارس الموتى" تصالحت مع فكرة الموت. بت أتحدث عن الجثث والموت كأني أتحدث في موضوع عادي ومألوف. لاحظ المخرج الجزائري خير الدين مبروك هذا عندما نفذ فيلمًا وثائقيًا عني، دار نصفه في إحدى ثلاجات الموتى، وكان أحد الجوارير يحوي جثة مضى على وجودها في الثلاجة نحو خمسة أشهر. كل شيء يألفه الإنسان يفقد هالته".

***

عندما يذهب عابر إلى بيروت، يحتمي بثكنة لحاجته إلى مكان يأويه، ثم يهرب منها ليعمل في ثلاجة الموتى بالمستشفى تحت أثر الخوف من القتل بعد مقتل صديقه. وينتهي به اﻷمر ملقى تحت جسر بعد خطفه وإطلاق النار عليه. يفضي بنا هذا كله إلى الشعور بأن عابر أقرب لكونه مسيّرًا ومضطرًّا لفعل ما يفعله دون أن يكون لممارساته هذه معنى بالضرورة. يبدو عابر هنا مثالًا للكثير ممن وقعت الحرب عليهم وشاركوا فيها كأدوات لها وكضحايا في الوقت نفسه.

وفي داخل المدينة-بيروت، يتنقل يرق من خلال عابر، بين الثكنة العسكرية والمستشفى. وتظهر لكل منهما دلالاته الملفتة، ففي الثكنة تظهر ملامح الحرب بكل تفاصيلها وقبحها، وفي المستشفى تظهر مساوئ البشر من استغلال وفساد ومحاولة الاستفادة من حالة الفوضى التي تخلفها الحرب وتؤثر في إدارة المكان. المستشفى هي النتيجة الحتمية التي يؤول إليها ما تفرزه الثكنة.

****

كل الأحداث التي تدور في الثكنة أو المستشفى، نعرفها من خلال مجموعة من الشخوص التي يرتبط حضورها الروائي بما يقوله عابر عنها كراوٍ، أو من خلال علاقته بها، وهو الشكل الذي اختاره الروائي ليحرِّك به عمله. فالقناص بو فهد يقتل المارّة ويبرر هذا بأنه خدمة للوطن، وينتشي حين تُذاع أسماء القتلى. ورئيس الوحدة العسكرية "نابوليون" يسلب صائغًا ويطلق النار عليه، ثم يحذّر الراوي من نطق أي كلمة. وبتتبع هذه الشخصيات وغيرها في جنبات العمل يظهر لنا أن معظمها مصاب بخلل ما في سلوكياته. وهو الخلل الذي يبدو أن المتسبب الرئيسي فيه هو الحرب بما تجلبه من أهوال.

أسأل الكاتب عن ظهور المكان بتنوعاته ما بين الريف والمدينة، ثم داخل المدينة ذاتها ما بين الثكنة والمستشفى، وكأن المكان يحمل دلالات وإسقاطات بعينها، ثم هل يؤثر هذا الغوص المكاني بالسلب على عمق الشخوص؟

يخبرني أن الأمر في ظنه على العكس، فهو يرى المكان مثريًا للشخصيات. عابر ليطاني أتى من الريف إلى المدينة حيث عاش متشردًا ومحاربًا رغمًا عنه، وتأقلم واندمج في جو الثكنة والمستشفى، وفي معسكر التدريب وبناية القناصين. يرى يرق أن "حارس الموتى" رواية مكان أيضًا. لا حدث بلا مكان وزمان وشخص يقوم به، أو عنصر طبيعي أو أحد الكائنات. هذه العناصر الثلاثة تتبادل التأثير. وهذا التبادل هو تربة السرد الذي يشيد البنية الروائية. المصدر: مدى مصر

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم