الكاتب يقيم في اللغة ويغرف من معين طفولته، لكن ماذا لو تعددت اللغات في طفولة كاتب يعيش بعيدا عن بلده في مجتمع آخر بلغة أخرى، هنا يبدأ انشطار الذات الكاتبة، لكنه انشطار يمنحها مسافة للتأمل في عناصرها، لذا يبقى كتاب المهجر الذين ينجحون في الوقوف بحرية وعلى مسافة من ذواتهم من أبرز التجارب الأدبية. “العرب” التقت الكاتب والنحات السوري عاصم الباشا للحديث حول الكتابة والذات.

“أظنني ولدت متمرّدا، ونبراسي في كل مجالات الحياة هو ضرورة التمرّد على كلّ ما هو قائم، أيا كان هذا، لا يمكن أن نتوخّى تقدّما من دون هذا التمرّد”، بهذه المباشرة والوضوح يبدأ الكاتب والنحات والمترجم السوري المولود في الأرجنتين والمقيم حاليا في أسبانيا، حديثه لـ”العرب” التي استضافته بمناسبة صدور روايته الأخيرة “غبار اليوم التالي” عن دار توتيل العربية في العاصمة التركية إسطنبول. التمرد عند ضيفنا يغدو أسلوب حياة ومسلكا يقيهِ من كل أمراض المجتمع التي قد تداهمه بعد الغوص في كتابة “غبار اليوم التالي”، فعبر ما يقارب 200 صفحة يطوف النحات والكاتب السوري عاصم الباشا في زوايا الحكايات السورية، متنقلا بين أمكنة عدة بتقنية التصوير الفوتوغرافي للأحداث، معتمدا على رؤيته للعقد الاجتماعي السوري من الداخل والخارج معا في وقت واحد.

بطل ذاتي

من خلال شخصية لواء الذي يكاد يتطابق مع مفاصل هامة في حياة عاصم الباشا الكاتب والنحات، وربما هذا التطابق هو الذي دفع الكاتب إلى ترك مسافة بين الراوي وبطل القصة من خلال ابتعاده عن استخدام ضمير الأنا الذاتية في السرد، فجاءت الحكاية على لسان الغائب، فتجربة عاصم الباشا الخاصة أغرقته، كما يقول، في غربة لم يخترها أبدا لذا نراه يلجأ إلى تدوين ما مر به، فهو الطفل ذو الأحد عشر عاما، الذي تم وضعه في مجتمع افتقد فيه طفولته وأُجبر على التعامل بلغة لم تكن لغته الأم. هذا الواقع الذي وجد الكاتب نفسه مبكِّرا فيه فرَضَ عليه مسافة من المجتمع والناس على حد سواء، تلك المسافة التي تفوق الباشا فيها على نفسه فانغمس في اللغة العربية والثقافة والتاريخ العربي، فظلَّ يمارس حياتهُ بطريقة المكتسب لهذه الثقافة.

وبالرغم من كل المحاولات إلا أن العلاقة الإشكالية مع المجتمع يفرضها ضيفنا على بطل الرواية لواء الذي عاش مراحله الأولى بين جغرافيا ولغة غريبتين، لذا نراه يلقي باللوم على إخفاق جيل الوالد الأب الذي أرسى حياة منقوصة الحرية والاستقلال، فكانت معطوبة لجيل قادم أكمل رحلة الإخفاق في مواجهة الاستبداد.

تسير شبكة الأحداث نحو عالم السُلطةِ من الداخل حين يجد البطل نفسه تحت ضغط تكاليف الحياة موظّفا بمديرية الآثار، حيث يتّخِذ الراوي من هذا المكان مسرحاً لاكتشاف عملية نزيف التاريخ تحت إشراف الدولة ومسؤوليها من خلال حلقة مكتملة الإغلاق تتألف من رجالٍ في الدولة وسماسرة وتجّار آثار، هنا يجد البطل نفسه مضطرا لمغادرة بلاده التي تعلَّق بها بعد أن رفَض إنجاز تمثال للحاكم بالرغم من كلّ المُغريات والعَوَز.

بحث عن وطن

البحث عن وطن حتى للفن والحب هو العنوان المخفي في كل زوايا النص. وفي بحثِه عن الفردوس المسروق يغرق الراوي شخصياتِه بالسوداوية العدَمية، وعن هذا يقول الباشا إن تلك السوداوية واجهها في مختلف مراحل تجربته -باستثناء الطفولة وبضع لحظات نيّرة قليلة- على حد وصفه، فالفن والحب كما يراهما الراوي والنحات السوري هما المَهرَبُ والملجأ عندما يُطبِقُ سواد الواقع من كل الجهات، فيتلمَّس الإنسان المسافة الشاسعة بين ما يأمله وما يستطيع الحصول عليه، ذلك الواقع المتشظي أصلا، أجبر الباشا على اختيار النفي الذاتي لإنقاذ نفسه وكي لا يتّبِع مصير أصدقائه الراحلين كمَدا من أمثال فواز الساجر وسعيد مراد وسعيد حورانية وسعدالله ونوس.

انهيار العقد الاجتماعي

في “غبار اليوم التالي” يبدو العقد الاجتماعي منهارا عند الراوي، فالسلطة تطارد أبناء المجتمع الذين بدورهم يمارسون الطبقية المعلنة، فتطفو على السطح أمراض كانت دفينة للمئات من السنين، فيواجهها الكاتب بشراسة المباشرة التي تكون فاضحة في الكثير من الأحيان، وهنا يقول عاصم الباشا عن هذه الأحكام المطلقة التي مرّرها ضمن بنية النص والتي تتعلق بالسلطة والمجتمع ردا على التساؤل عن أصل الخراب أو الفساد الذي يبدأ من سلوك السلطة، أم تتّخذه الشعوب أسلوب حياة في الجغرافيا التي تقع تحت سيطرة الدكتاتور، فيقول إنَّ كلّ “مطلق” عنده نسبيّ، قليلا وللضرورة، فالجهالة المنغرسة في المجتمعات هي التي سهّلت وجود الاستبداد واستمراره -والحديث لضيفنا-، ويضرب هنا مثالا عن الخنوع الذي لمسه في سوريا في السبعينات والثمانينات، فيتذكر نصا كتبه قبل أن يغادر البلاد عام 1987 بعنوان “أرى الشواهد تمشي من حولي”.

وفي روايته الأخيرة “غبار اليوم التالي” التي تأخّر صدورها لعشرين عاما، يخترق عاصم الباشا المقطع العرضي للمجتمع السوري من خلال النماذج التي اشتغل على تكوينها من خلال التفاصيل الكثيرة التي أسبغها عليها، فجاءت الحكاية منسوجة بين أمكنة جغرافية مفتوحة وزمان متجمد بفعل الدكتاتور الذي يصادر كل أسباب الحياة، الدكتاتور الذي يعتمد في سطوتِه على أمراض المجتمع، والتي يأتي في مقدمتها “الجهل” الذي يراه الباشا

قادما من اتجاهات عدة تؤدي به إلى الغيبوبة الدائمة. وعاصم الباشا هو كاتب ونحات ومترجم سوري يقيم في أسبانيا، صدرت له “بعض من أيام أُخَر” عام 1994، “رسالة في الأسى” مجموعة قصصية عام 1998، “الشامي الأخير في غرناطة” التي فاز بها بجائزة ابن بطوطة للرحلة العربية عام 2010 عن فئة اليوميات.

عبدالله مكسور

عن صحيفة العرب

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم