بروفيسور الآداب البلجيكي إكسافير لوفين يرى أن الأدب العربي يتميز بصفات عالمية لكنه مهمل.

بدأت القصة باتصال هاتفي سرعان ما تحوّلَت إلى محاولة اكتشاف الشرق بعيون غربية ثم تعمّقَت لتكون صيغة متطورة من التواصل الإنساني، تعرفت عليه في جامعة بروكسل حيث يعمل أستاذاً للغة العربية وآدابها نظراً لتخصصه العميق في اللغات الشرقية، البروفيسور إكسافير لوفين الأوروبي البلجيكي العاشق للشرق وحضاراته، يشتغل بحب على كثيرٍ من المشاريع التي لا تلبث أن ترى النور تباعاً، بديناميكية ذات إيقاعٍ متوازن ينطلق بالتعبير عن نفسه بلغة عربية صحيحة ذات لكنة شامية صريحة. في حواره الأول بالصحافة العربية يبوح إكسافير برأيه عن الكثير من القضايا الشائكة و يعلِن أيضاً عن مشاريع تشاركية قادمة لترسيخ جسور التواصل بين الشرق والغرب اللذين يحمل كلٌّ منهما صورة نمطية مسبقة عن الآخر، حوارٌ من نوع خاص انطلق به ضيفنا من علاقته باللغة العربية التي أتت مصادفة وصولاً إلى آرائه في الاستشراق و الاستغراب وقضية الهوية في الأدب وصورة المثقف العربي في الغرب.

الصدفة الغريبة

“أنا أستاذ في جامعة بروكسل الحرة وجامعة لوفن، أعلِّم الأدب العربي الكلاسيكي والحديث وأدرّس اللغات واللهجات الشرقية”، هكذا يبدأ بروفيسور الآداب حديثه لـ”العرب” ليحكي عن العوامل التي قادته إلى الشرق، حيث بدأت الحكاية من علاقة شخصية مع صديق طفولته التركي في بلجيكا حيث افتتن إكسافير الشاب حينها باللغة التركية لينطلق في مرحلته الجامعية لدراستها، لكنّه اصطدم بقانون التعليم البلجيكي حينذاك حيث يفرض على الراغبين بتعلم التركية دراسة العربية أولاً، ومن هنا كان المدخل لتكون لغة الضاد وآدابها هدفه ولغة حياته ونفسه.

سبَق هذا التأسيس اللغوي الشرقي دراسته للآثار والتاريخ والفنون، وهذا ما عمّق اهتمامه بالحضارة اليونانية والشرقية بشكل عام ليشارك بعد ذلك بحفريات أثرية في اليونان وإيطاليا وسوريا التي زارها مرتين حيث أقام في تل بيدر بمحافظة الحسكة بالجزيرة العربية السورية وهناك وجد الفرصة الحقيقية لاستخدام مخزونه اللغوي من العربية.

في عام 2004 أنهى ضيفنا الأكاديمي أطروحة الدكتوراه التي اتجه بها نحو العمق الأفريقي ليغوص في مجاهل أفريقيا باحثاً في “اللهجة العربية في شرق أفريقيا وكينيا وأوغندا”، هناك في تلك البلدان وقع إكسافير على بقايا السودانيين الذي هاجروا في نهاية القرن التاسع عشر إلى أفريقيا بسبب الصراعات في وادي النيل ولكنهم احتفظوا بلهجة عربية قريبة جداً من بعض اللهجات العربية الموجودة في السودان، هناك قام ضيفنا بتسجيل كلام العامة ودراسة قواعد اللهجة واللغة.

الفصحى و المحكية

حديثُه عن اللهجات واللغة الفصحى الرسمية دفعني لسؤاله عن رؤيته في بقاء وأبدية لغة الأدب أم اللهجات المحكية في عموم الوطن العربي ليقول إنها مفارقة غريبة فيقارنها بأوروبا في القرون الوسطى واستعمالهم للغة اللاتينية إلى جانب اللهجات المحكية التي تطورت فيما بعد لتكون لغات قائمة بحد ذاتها، وهنا يرى أستاذ الأدب أن العالم العربي أمام هذا الخيار القائم في استعمال العربية الفصحى والدارجة كلغة رسمية، لكنه في ذات الوقت يصرّح أن لذلك سلبيات وإيجابيات، فالفصحى لا تعكس علاقات الناس بين بعضهم اليوم، لذلك يعزو استخدام بعض الكتّاب اليوم للهجات المحكية في تقنيات السرد للحوارات في الرواية العربية الحديثة.

يُبدي ضيفنا استغرابه من عدم تدريس الجامعات العربية للّهجات المحلية المحكية في البلدان العربية، هذا الاستغراب يأتي من كون ذات الأكاديميات في “القاهرة وفلسطين” مثلاً تُدرِّس اللهجة العربية المحلية للأجانب الذين يودّون تعلُّم العربية، فضلاً أنَّ المحكية هي لغة التعليم خارج نطاق الكُتُب الجامعية وهي لسانُ المثقَّفين وغيرهم في ندواتهم وبالرغم من هذا فهُم -أي المثقفون- يعتبرون أن اللغة الصحيحة هي الفصحى والخطأ هي الدارجة وهذا حيفٌ كبير، يبرر هذا بقولِه إن التراث الشعبي العربي مكتوب باللهجات الدارجة فضلاً عن أنَّ كثيرا من أدبيات العصر الفاطمي في مصر والعصر الأندلسي في أسبانيا كانت مكتوبة وتمّ نقلها باللهجات المحكية وهذا ما يرى أنَّهُ يحتاجٌ إلى اهتمام كبير.

التجديد و الترجمة

الحديث عن التقنيات الحديثة دفعني لسؤاله عن حالة التجديد التي يعيشها الأدب العربي اليوم بالنظر إلى عصوره المختلفة، ليقول إنه ليس هناك تأثير فردي بين حضارتين، فالتأثير كما يراه هو علاقة عكسية تحتكم للتاريخ والجغرافيا معاً، ففي القرون الوسطى لعب التبادل الثقافي بين القوميات دوراً كبيراً في التأثير العربي في الأندلس، وهنا لا يخفي ضيفنا إعجابه بمصطلح الواقعية السحرية التي نشأت في أوروبا ثم تطورت في أميركا اللاتينية، ليستذكر حديثاً لغابرييل غارسيا ماركيز مع أحد الصحفيين حين سأله عن مصادر كتابته فأجاب ماركيز في أحد التفصيلات عن “ألف ليلة و ليلة” بنسخة مترجمة من العربية إلى الأسبانية ودورها في ترسيخ الكاتب بداخله، مثاله هذا قادنا للحديث عن الترجمة من العربية إلى اللغات الأخرى حديثاً، ليقول إن أغلب الترجمات تتم بمبادرات فردية من قبل دور النشر في أوروبا التي تفتح الباب أحياناً لبعض الكتّاب العرب ليكونوا في السوق الأوروبية بلغاتها المتعددة لكن هذه المعادلة تتم وفق ضوابط معينة بحيث تحكمها قوانين السوق في العرض والطلب، ويستذكر إكسافير هنا المقولة العربية “القاهرة تكتب وبيروت تنشر و بغداد تقرأ” حيث يُعلن معارضتها في التركيز على مصر بوصفها منبعاً للكتابة الجيدة مشيراً بذات الوقت إلى وجود أقلام مهمة عربياً في المغرب والخليج وسوريا، تلك الأقلام يجب أن تأخذ فرصتها في الاهتمام الأوروبي.

عالمية الأدب العربي

يُقرُّ ضيفنا أن لكل أدب أو ثقافة خصوصيتها واستعدادها للعالمية في ذات الوقت، فتفاصيل اللغة أحياناً تضع المترجمين أمام عوائق عديدة ولكن أمام هذا فإن المترجم القادر والممسك بأدواته يقوم بفعل كل شيء، يتحدث أستاذ اللغة العربية عن خصوصية الشعر العربي وصعوبة ترجمته رغم تقاطعه واختلافه مع آلية كتابة الشعر في الحضارات الأخرى من حيث علم العروض والوزن والقافية، الفكرة في العالمية كما يراها ضيفنا تقوم على مسألة قبول الفكرة الأدبية، فعندما نقرأ نصا مترجماً نشعر دوماً بنقص شيء ما، هذا النقص يحاول المترجم تداركه من خلال مساعدة القارئ على فهم المقصود عموماً مع غياب الروح التي تبثُّها اللغة الأصلية.

يتابع ضيفنا حديثه بمقارنة بسيطة بين المؤسسات الثقافية الأوروبية ومثيلاتها العربية حيث لا تولي الأخيرة الاهتمام ذاته للثقافة، ويُرجِع هذا إلى العديد من الأسباب السياسية والاقتصادية رغم أن الأدب العربي ما يزال -والحديث لإكسافير- يحمل تميُّزاً عن غيره من الآداب الأخرى من حيث الالتزام بقضايا المجتمع والتعبير عن همومه ومشاكله وقضاياه، هنا يبرز الفارق بين الكاتب العربي المهموم بانتقاد المجتمع والحديث عن قضاياه المصيرية بينما ينشغل الكاتب الغربي بالكتابة عن نفسه وتجاربه الذاتية أو الصادرة من ذاكرةٍ محيطةٍ به رغمَ أن الحدث العربي اليوم في سوريا والعراق بات يشكِّل منبعاً للأحداث والفضاءات السردية بالنسبة إلى المبدع الأوروبي.

الاستشراق والاستغراب

يبدأ البروفيسور إكسافير لوفن حديثه هنا عن وقوفه ضد فكرة إدوارد سعيد التي تتحدث عن أن الغرب لا يسمح للمثقف العربي أن يُمثِّل نفسه لأنَّ هناك من يقوم بهذا الدور نيابةً عنه، فحوار الحضارات الموجود في كتاب ” الاستشراق” منقوص الرؤية بحسب ضيفنا الذي يبرر ذلك بقوله إن إدوارد سعيد يقول إن الغرب يحمل صورة مسبقة عن الشرق ولكنه لا يذكر أنّ الشرق أيضاً يحمل صورة مسبقة عن الغرب رغم علمه ذلك، ومن خلال تجربة ضيفنا الذاتية يُعلِن أنه خلال أسفاره المتكررة إلى دول الشرق الأوسط يلمس تلك الصورة غير الحقيقية للغرب في الذهنية الشرقية، فصورة الآخر مختلفة عن الواقع الحقيقي، ويشير إلى كتّاب “شرق، غرب، رجولة وأنوثة” للراحل جورج طرابيشي.

أمام الاستشراق هناك مصطلح جديد يراه ضيفنا تحت عنوان “الاستغراب” وهذا سيقوده كتّاب جُدد يقيمون اليوم في البلدان الأوروبية وباتوا يعرفون هذه المجتمعات من الداخل مع تمسُّكهِم بثقافتهم الأولى وبالتالي يخلقون توازناً في كتاباتهم تنعكس بصورة ثنائيات “الهوية، اللغة”، “القالب الغربي للأدب، المدارس الشرقية”، “الحداثة، الكلاسيكية العربية”، وهذا ما يُعمِّق معرفتهم عن المجتمعات الجديدة بعيون عربية.

عن الانسياق خلف معايير الثقافة الأوروبية يذكر أستاذ اللغة العربية وآدابها معرفته لكُتّاب عرب يقيمون في الغرب ويكتبون رواية بقوالب معينة وبأفكار قد لا تُطابِق أفكارهم الدفينة، فقط لتلقى رواجاً لدى المتلقي الأوروبي، وبالمقابل هناك كتَّاب يمتلكون أساليب عالمية في الكتابة ولكن لم يأخذوا نصيبهم من الشهرة أو الانتشار فقط لأنهم يمارسون الكتابة لأجل الكتابة، من هؤلاء يذكر كاتبا سودانيا من جيل الطيب صالح اسمه إبراهيم إسحق حيث اتّبَع استخدام مفردات غارقة في المحلية السودانية ما جعله محاصراً بمتلقّ واحد فقط وبالرغم من هذا ظلّ هذا الأديب يفكِّر بالفن لأجل الفن والأدب لأجل الأدب.

أدب الرحلة وصورة الآخر

يعتبر أدب الرحلة من المسارات الهامة التي يشتغل عليها إكسافير لوفين، وهذا ما قادنا للحديث عن الفروقات بين الإنتاج العربي “قديماً وحديثاً” في أدب الرحلة والأدب الأوروبي الخاص بهذا النوع، ليقول إنهُ وقعَ على دراسة جميلة تتحدث عن الرحلة في الفترة العثمانية حيث يصف الكاتب فنّ كتابة أدب الرحلة بالعربية والتركية كفَنّ متجدد له أصول قديمة، فتأثيرات الفن الأوروبي في عصر النهضة في القرن التاسع عشر على الأدب الشرقي واضحة عموماً، فضيفنا يهتم بهذا الصنف الأدبي كونه يعطي صورة عن الآخر و يتيح الفرصة لاكتشاف صورة الآخر في اتجاهين مختلفين بذات الوقت، ويذهب إلى اعتبار أدب الرحلة وثيقة تاريخية تُدوِّن التاريخ إذا ما توافرَت فيه صفة الموضوعية، لكن يقرُّ أن هناك انتقائية في الرحلة الأوروبية إلى الشرق فلا يتم تدوين كل شيء انطلاقاً من مواقف مسبقة كانت سائدة في زمَن ما.

هنا يكشف ضيفنا النقاب عن قيامه حالياً بترجمة رحلة عبدالرحمن البغدادي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر إلى البرازيل حيث أقام هناك ثلاث سنوات وعاد إلى الأستانة ليكتب رحلته من منطلق عروبته وإسلامه وشرقيّتِه بذات الوقت، لهذا في هذه الرحلة مثلاً من الممكن ملاحظة أشياء لا يذكرها الأوروبيون في رحلاتهم إلى هناك مثل وجود بعض الأفارقة المسلمين الذين تم استجلابهم ليكونوا رقيقاً قبل فكرة التحرير والانعتاق في أميركا اللاتينية. فيذكر البغدادي تفاصيل أعدادهم وعاداتهم وطقوس حياتِهِم بينما تعامل الرحّالة الأوروبيون مع هذا التكتُّل البشري على أنَّهُ كتلة مسيحية كاملة، في ذات النطاق يذكر كتاباً آخر قام بترجمته هذا العام من الإنكليزية إلى الفرنسية عن رحالة أفريقي اسمه ” إدوارد بلايدن” يروي فيه رحلته من مجاهيل أفريقيا إلى فلسطين في ستينات القرن التاسع عشر، فهذا الكتاب هو أول وصف للشرق الأوسط من قبَل كاتب أفريقي اهتم باللغة العربية وتعلّمها وأقام فترات متقطِّعة بين مصر ولبنان وفلسطين، ففي تلك الرحلة هناك كمّ هائل من المعلومات غير موجودة في كتب الرحالة الأوروبيين الذين زاروا الشرق الأوسط بذات الفترة، وينوِّه ضيفنا إلى أنّ الاطِّلاع ودراسة كل هذه المصادر يشكِّل في نهاية المطاف الصورة الكاملة للمشهد البعيد وربما يساهم بشكل أو بآخر في فهم الواقع الحالي.

مؤتمر في بروكسل اهتمامه بأدب الرحلة دفعَهُ لتعميق الشراكة مع مركز ابن بطوطة للأدب الجغرافي الذي يتَّخذُ من العاصمتين البريطانية والإماراتية مقرَّاً له، حيثُ يعلِن أستاذ اللغة العربية عن مؤتمر مشترك سيقام في وقت لاحق من هذا العام في العاصمة البلجيكية بروكسل حيث ستستضيف جامعة بروكسل الحرة باحثين عربا لعقد ندوات حوارية حول هذا النوع من الأدب في مؤتمر هو الأول من نوعه أوروبياً وسيتم على هامش فعالياته توزيعُ جائزة ابن بطوطة للرحلة في دورتها الحالية، كما يكشف البروفيسور إكسافير لوفن النقاب عن نيَّة جامعة بروكسل إقامة ملتقى للثقافة العربية بشراكة بين الجامعة ومجلة “الجديد” الثقافية الشهرية الصادرة في لندن حيث سيتم تنظيم حلقات حوارية تتناول الثقافة العربية والأوروبية وآليات ترسيخ جسور التواصل الحقيقي.

عن صحيفة العرب

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم