الكثير من الروايات العربية اليوم باتت تحاول مجاراة السواد الذي يحيق بالواقع، وإحداها رواية “فصول من سيرة صاحب الكرامة أبي صابر حامل الأسفار ومؤنس الزوار” للكاتب السوري حسام سفان، التي تطمح من خلال الكوميديا السوداء إلى تعرية الواقع. “العرب” التقت الكاتب وكان لنا معه هذا الحوار حول السرد وتقنياته والواقع وانعكاساته على العمل السردي اليوم.

“دير الزور مدينة تستفز للكتابة وللجنون، التعدد ليس نابعا من الاختلاف بل من التناقض فيها، فالتناقض سمة هـذه المـدينة إنها مدينة زراعية وسط بادية، تحتضن نهرا، بل نهرين فحتى الفرات ينفصم حين يطأها إلى اثنين، فهي نهر يعانق الصحراء، نخلة تعاند إسفلت الطريق، ورقصات على نغمات أغنية حزينة، مدينة تحدها بساتين الحويقة من جهة وعلى الجهة المقابلة مقبرة، إنها مدينة التناقضات اللامتناهيـة، ليست مدينة سكنتها بل هي مدينة تسكنني، ولأنها هي التي تسكنني كمـا هـو حال أبنـائهـا الآخرين فإنها عجنتنـا بطينهـا فاختلطـت بدمنـا حرارة الشمس بعذوبة الفرات بعنفوان نخلة ووداعة جسر، هذه الذوات المتعددة في الذات الواحدة والمدن المتعددة أو العوالم المتعددة ضمن عالم واحد جعلت السرد والخيال والتخيل من الأمور التي تخفق بها أفئدتنا”. هكذا يبدأ الكاتب السوري المقيم في الإمارات العربية المتحدة حسام سفان حديثه لـ”العرب”، عندما سألناه عن الأثر الذي تركه مسقط رأسه في الأدب الذي يقدمه، من خلال هذا الانثيال يفتح سفان بابا للحنين، ذلك الحنين الذي بدأ مع الأدب منذ أكثر من عشرين عاما، حيث نشأ ضيفنا في أسرة أدبية فيها شعراء ومسرحيون وكتب ضيّقت عليهم مساحة البيت ووسعت عوالم ساكنيه.

فكان من الطبيعي أن يتوجه إلى كتابة الشعر والمسرح منذ نعومة الأظفار، بيد أنه رغب في أن يشق طريقا جديدا في العائلة فكتب القصة عامدا متعمدا كما يقول، فقادته خطواته الجديدة نحو المنصات متوّجا بجوائز عديدة ومرشَّحا لأخرى، آخرها جائزة الشيخ زايد للكتاب عن روايته “فصول من سيرة صاحب الكرامة أبي صابر حامل الأسفار ومؤنس الزوار”.

لاشيء ثابت

عشرون عاما كاملة كافية لنضج الشخصية وكفيلة بنضج التجربة الإبداعية والأسلوب الأدبي بما يتراكم على أوداجها من مطالعات ورؤى وتجارب وخبرات كما يعترف ضيفنا، وإن كانت ملامح الأسلوب كما هي ملامح الشخصية الإنسانية ثابتة ومتغيرة في الوقت نفسه، فهو لا يذكر تسرُّب عوالم الآخرين إلى الأدب الذي قدّمَهُ مبكرا للجمهور، الذي اكتشف تلك الظلال مؤخرا.

من خلال النماذج التي قرأناها لضيفنا في القصة، هناك نزوع نحو البساطة في الطرح والإسقاطات الذكية التي يقومُ بها حسام سفان بين عدة عوالم، هنا نسأله عن الأعمدة التي تقومُ عليها القصة القصيرة عنده، ليقول إن السهل الممتنع هو العتبة التي تمثل عنده العنوان في النتاج الأدبي، فالبعد الجمالي للإبداع الأدبي يتوقَّف على مدى قدرة المتلقِّي على فهم واستيعاب العمل الذي بين يديه، فدور المتلقي هنا ليس محدودا بل هو ركنٌ أساسيٌّ في المعادلة الإبداعية، عليه أن يفكك شيفرات النص الأدبي ورموزه ليصل إلى المتعة الجمالية، التي تنطلق من الإبداع وتستقر في التأويل، وبالرغم من هذا إلا أن ضيفنا يرى أنَّهُ لا أركان ثابتة للأدب بل هو حالة إبداعية جنونية تقفز من فوق أسوار المذاهب والمدارس، وتتسرب من بين قضبان الأشراك التي ننصبها لها كلما حاولنا تقييدها، فالأدب ليس بنيانا لا يستقيم إلا بمقاييس وأعمدة، ففي الأدب لا شيء ثابت البتة.

انطلق حسام سفان إلى عالم الرواية من خلال روايتِه الأولى “فصول من سيرة صاحب الكرامة أبي صابر حامل الأسفار ومؤنس الزوار”، الصادرة عن دار فضاءات للنشر والتوزيع في الأردن، الرواية التي وصلت إلى القائمة الطويلة لجائزة الشيخ زايد في أبوظبي عن فرع المؤلف الشاب، عن اتجاهه نحو الرواية الأدبية كفن سردي يقول حسام إنها روايته الأولى التي يطلُّ من خلالها على القراء بيد أنها ليست الأولى حقا، فقد سبقتها عدة روايات نوهت بإحداها جائزة دبي الثقافية عام 2011 وهي “زوايا الميل والانحراف”، وفازت أخرى “عطر وأوراق وأشواك” بجائزة دبي الثقافية 2013، وهي قيد الطبع.

في انتظار غودو

يبرّر هذه الانعطافة ودوافعها بغير القصدية، سوى أن الحامل السردي في الرواية يمكن أن يعطي المبدع مُتَّسعا من القول والحكي أكثر من القصة القصيرة، رغم أن هناك من يفسر اتجاه كُتاب القصة نحو الرواية بالجوائز المغرية التي يشهدها عالم الرواية العربية بحسب ضيفنا.

عن روايته “فصول من سيرة صاحب الكرامة أبي صابر حامل الأسفار ومؤنس الزوار” يقول حسام سفان إنها رواية من نوع الكوميديا السوداء فهي لا تعتمد على الإضحاك بل على تصوير الواقع ومفارقاته الأليمة والسخرية منه. وقد غامر السرد فيها بتوظيف تقنيات الرواية الجديدة، تلك التقنيات التي لم يألفها القارئ العربي تمام الألفة، كما أنها لم تعتمد على الحبكة المتسلسلة فالزمن متشظ، لكن الكاتب أمدّ القارئ بمفاتيح ربط الأحداث بحيث تبدو الرواية مثل لعبة فكرية مبعثرة على الورق، لكنها منتظمة في ذهن المتلقي الذي سيكتشف في نهاية المطاف كم كان هذا الغموض واضحا.

تتشابه تقنيات القصة والرواية في الكثير من مفاصلهما فاللغة في كل منهما تقوم على السرد حتى لو نحت اللغة نحو الشعرية “وهذا من مظاهر الرواية الجديدة” – والحديث لضيفنا- إلا أن هذه الشعرية تبقى شعرية سردية وإلا أصبحت هذرا لا طائل منه، ومن هنا فإن كتابة القصة القصيرة تعد مرانا لغويا أدبيا على الإحاطة بعوالم متباعدة ومختلفة ومتشابكة في الرواية، بعد أن كانت تقتصر على حدث أو زاوية ما في القصة القصيرة.

بين القصة و الرواية

إن القصص التي يقدِّمها سفان في تجربته الأدبية تقوم على اقتناص ذلك الحدث أو التفرد بزاوية الرؤية جعلته يمارس هذه الغواية في الرواية أيضا، فالسير في عوالم الرواية عنده لم يكن بحثا عن الغريب والعجيب من الأحداث بل جنوحا نحو اقتناص حدث واقعي عادي، وتحويله إلى أدب عجائبي، فالدهشة التي يسعى إلى تقديمها تتمثل في سؤال القارئ نفسه بعد أن يتم قراءة الرواية ليتفاجأ بأن الكاتب طيلة الرواية يمارس فعل المراقبة السرية من مكان خفي.

حديثه عن الوضوح في الرؤية دفعنا إلى سؤاله عن رؤيته للتخندق الواضح الذي تشهده الساحة السورية تبعا للمواقف السياسية، ليقول إن التخندق في سوريا ليس ناتجا عن مواقف سياسية، لأن السياسة فن اكتساب المصالح عن طريق الحوار، ومن الطبيعي أن تختلف مصالح الفرقاء فنجد مواقف سياسية متباينة، لكن حينما يتعدّى الأمر حالة الاختلاف في الرأي إلى الصراع، فإن الأمر قد تجاوز السياسة إلى العنف، وبالطبع فلا أحد من الأدباء -الأدباء الحقيقيين- يمكن أن يكون مع العنف والدمار والموت والخراب.

الحديث عن سوريا قادنا إلى الطرح الذي يقول إنه على الكاتب انتظار نضوج الحدث، خاصة في ما يتعلَّق بالشأن اليومي، عن هذا الطرح وأصحابه يقول ضيفنا إنهم لا ينتظرون نضوج الحدث بل ينتظرون غودو، خمس سنوات ولم ينضج بعد؟ لقد احترق الحدث أيها المنتظرون، ثم إن الكاتب لا ينتظر -والحديث لضيفنا- الانتظار شأن المنافقين والمتسلقين والسياسيين الفشلة، أما الأديب فهو الذي يصنع الحدث ويبصِّر الناس بخباياه كافة. عن صحيفة العرب

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم