أثناء الثمانية عشر يومًا لثورة 25 يناير قابلت سهير المصادفة امرأة مختلفة. ظلت تراقبها لساعتين في ميدان التحرير. في اليوم التالي التقت بنسخة ذكورية منها، رجل كان يصرخ ويشتم الجميع دون تمييز، وفجأة ودون مقدمات حلت لحظة الإلهام، وقتها كان مبارك يخطب خطبته الأخيرة. تتذكر:"الثوار والنظام وكل السائرين في الميدان والكون كله، كان كثير الحركة حتى إنني لم أستطع تأمله لأكثر من ربع الساعة. وهذان ظلا يطاردانني حتى رأيت بناء الرواية أمامي كاملاً".

لحظة الإلهام تلك كانت ضرورية لتبدأ سهير المصادفة في كتابة "بياض ساخن". فكما كل أعمالها يطاردها ملهمٌ أو ملهمة العمل دون هوادة لأيام طويلة "حتى أكاد ألمح من علٍ خريطة الزمان والمكان بخطوط واضحة، كأنني على متن طائرة عالية، أخمن أن هذا نهر وهذه بحار وهذه حدود، وهذه نهارات مشرقة أو غائمة، وهكذا..." لحظتها تبدأ الكتابة وفقًا لهذه الخارطة الزمكانية، تهبط إلى الأرض كلما تقدمت، فترى الشخوص أوضح وتزداد حركتها صخبًا فتعيش أيامها أمامها وتتحدث لتقوم بمغامرة وجودها الكبرى.

الرواية تتشعب بعد ذلك ولا تتوقف عند هذه اللحظة، لتكتب المصادفة عن عبلة/مصر المصابة بالفصام، التى قررت الهرب إلى رحابة الجنون، الممزقة بين الميادين، التي تسير عارية في التحرير ورابعة فيرجمونها هنا ويلعنونها هناك، ولا تتوقف عن نشر عارها على الجميع، ولا يلجمها إلا سؤال واحد: هل هم أحد أبناءها لقتل الآخر في الميدان؟!

تتآكل ذاكرتها، وينتشر البياض على عالمها كله ماسحها ذاكرتها بعنف، لكنها لا تزال متمسكة بالحكايات.. تحدث نفسها بعشرات الحكايات، كل حكاية تقود لأخرى لتغوص في التاريخ والعمارة والفلك، والثورة، تخلق لنفسها عالما بديلا من الخيال المتراكب، راصدة النفس البشرية من زواياها كافة.

هنا تكشف سهير المصادفة للمدن تفاصيل أكثر عن عبلة وبياضها الساخن.

- في أي مرحلة من مراحل الكتابة ظهر العنوان؟

* ما حدث مع عنوان "بياض ساخن"، كنت قد عشته من قبل عند نشر روايتي الأولى "لهو الأبالسة"، حيث انتصر العنوان الأول الذي وضعته والذي تكاد تكون الرواية أسمتْ نفسها به. في البداية وعندما أنهيت الرواية وطبعتها للدفع بها إلى النشر تحت عنوان "بياض ساخن"، جهزت فصلاً ليُنشر في جريدة الأهرام اليومية، وتحدثت مع صديق مبدع عن ذلك، فسألني عن اسم الرواية فأخبرته موصية إياه أن يقرأ الفصل بعد أسبوع فما كان منه إلا أن هتف بمجرد سماع الاسم: يا وعدي! بياض، وساخن أيضًا؟! فاندهشت من رد الفعل وخفت من إيحاءات العنوان الأولى وقبل أن أرسل الفصل بلحظات غيرته إلى "ميراث الجنون" وبهذا الاسم وصلت الرواية إلى الدار المصرية اللبنانية، ولكن في الحوار مع الأستاذ محمد رشاد ونرمين رشاد وأحمد رشاد، اتفقنا أن "بياض ساخن" أفضل وأنسب على جميع المستويات عن العنوان الكلاسيكي "ميراث الجنون".

- في الرواية جهد بحثي واضح جدًّا في علم النفس.. كيف سمحت لك كل تلك المعرفة الدقيقة بهذا العالم؟

* علم النفس والفلسفة حقلان درستهما ولا أزال شغوفة بمتابعة الجديد فيهما حتى هذه اللحظة، ولكن الأهم أن الرواية وخصوصًا الحداثية وما بعد الحداثية صارت الآن هي كتاب العالم.. كتاب الحياة كما يطلقون عليها في الغرب، فلم يعد مقبولاً ولا مثيرًا أن تحكي الرواية حكايات، فالحكايات ملقاة على الأرصفة، وقد تستمع إلى جدة عجوز وهي تحكي حكاية فتنبهر بها، أو أحد رواد مقهى وهو يحكي حكاية فتندهش من قدرته المذهلة على حكيها بشكل أبرع ممَّا يوجد في عشرات الروايات التي تعتمد فقط على الحكي. ولكن سؤال الرواية منذ نصف القرن من الزمان صار مختلفًا، وأصبحت الفروق واضحة بين الروائي والحكاء، فالأول يحمل متن الحكاية على رؤى فلسفية ومعرفية وفكرية ونفسيةـ والثاني يسردها بشكلها الخام الشفاهي الذي يحتاج بدون شك إلى كتابة، لقد أصبح توق الرواية الأكبر الآن تأسيس ما هو أكبر من الحكي.. تأسيس عالم تحلق في فضائه الأسئلة الوجودية الكبرى، وتطور مآزق الإنسان النفسية، ورؤاه ورؤيته للكون الشاسع من حوله، وحكاياته أثناء محاولاته للخلاص للانطلاق إلى آفاق أرحب، ورهان الرواية الجيدة أن يتم كل ذلك بالتلميح والإشارة، وأن يتحول كل ما لا يمت للحكاية بصلة إلى خيوط رئيسية في نسيجها.

- كثيرون تحدثوا عن أن الثورة كموضوع ليست صالحة للكتابة الآن.. وفي "بياض ساخن" الثورة حاضرة وبقوة بل تكاد تكون المحرك الرئيسي للأحداث، فكيف ترين هذه المسألة؟ وكيف ترين تعرض الرواية ــ كفن ــ للأحداث الآنية بشكل عام؟

* أرى أن ما يستطيع كتابته نوعٌ آخر من الكتابة فهو غير صالح للرواية، فمثلاً أكره كثيرًا الروايات التاريخية المتكئة على التاريخ اتكاء كاملاً، وأكره روايات السيرة المتكئة على أبطال حقيقيين شهيرين ومعروفين اتكاء كاملاً. وأكره كتب السيرة الذاتية المتنكرة في ثوب روايات، وبالتالي كنت مرتعبة وأحداث الثورة تداهمني أثناء كتابة فصول الرواية، لكن أظن أنني لم أقع في فخها، كانت تتقاطع فقط مع الأبطال الذين يتحركون في فترة زمنية محددة بعام 2012 ــ 2013، وهذا العام بالمصادفة وقعت فيه أحداث مصر الأخيرة الجسام، وكان مسرحها الأشد سخونة هو نفسه مكان تحركات الأبطال في ميادين القاهرة الأشهر. المدهش أن عدد الصفحات التي جاء فيها ذكر الثورة بشكل واضح يكاد لا يتعدى العشر صفحات من حوالي ثلاثمائة صفحة.

- الرواية مقسمة لفصول بالتناوب بين عبلة ونفسها أو ظلها، لتكشف في كل فصل جانبا كان مظلما من جوانب شخصيتها، لكن الأمر لا يبدو بهذا التبسيط في الرواية بطبيعة الحال، فبناء الرواية مركب، ومليء بالإيحاءات... كيف خططت للبنية الفنية لهذا العمل؟

* كل عمل يفرض بنيته الفنية، لو ترك الكاتب له مساحة حرية مناسبة. أتأمل لمدة شهور الشخوص وأستشعر نبضاتها والأماكن التي تجوبها والزمان الذي تتحرك فيه، قبل أن أكتب حرفًا واحدًا، فقط أتأملها وأعيش معها فترة زمنية معقولة حتى تنطق، قبل هذه اللحظة لا يوجد بالفعل ما يُكتب، ولكن ما أن تأتي حتى أجد الشخوص تكتب نفسها، والبناء يكتمل أمام عيني، وكأن كل دوري أن أرفع عنه ستائر كانت تحجبه عن رؤيتي، تمتلئ الخارطة الأولى بالمعمار والنباتات والمخلوقات والذكريات والتفاصيل الصغيرة والأغاني والصرخات وبالموت والحياة.

- تقولين على لسان بطلتك "ماذا تعني الكتابة سوى طريقة مثلى للقتل" وبدوري أسألك ماذا تعني لك الكتابة؟

* الكتابة هي محاصرة الخيال غير الموجود كأنه هو الموجود الوحيد، هي مديح المهزومين والحيارى والمأزومين والمنحرفين والموتورين والمثاليين الذين لا يصدقون أن الحوائط ماثلة أمامهم إلا بعد ضرب رءوسهم بها وشجها ورؤية دمائهم أمام أعينهم. الكتابة هي محاولة لمساءلة الكون، وربما تعذيبه حتى يعترف بروعة الإنسان على الرغم من ضآلة حجمه، هي حرث في أرض جديدة يتقاسمها الملائكة والأبالسة على حد السواء، هي محاولة مثلى لقتل الأباطرة والطغاة وصلبهم على أياد المعذبين في الأرض بسببهم، هؤلاء الذين سرقوا المساكين ولعبوا بمقدراتهم وتركوهم يمرون مرورًا عابرًا على الحياة دون أن يجربوا مذاقها الحلو، وهي أيضًا صفعة تنبيهيه على وجه المساكين والضعفاء حتى يفردوا ظهورهم ويرفعوا رؤوسهم ويواجهوا الطغاة، والكتابة أخيرًا هي قفزة في هوة الروح الإنسانية لسبر عمقها.

- هناك دائما شخصية نسائية فى أعمالك، وهناك تحقير للممارسات الذكورية العنيفة ضد المرأة، هل يمكن القول إن هذا الحضور المكثف للنصوص السردية النسوية يؤكد أن المرأة تريد تحرير مملكة الحكي من الرجل؟

* الكتابة نفسها مؤنثة، الحكاية كانت ومنذ الأزل مؤنثة. مملكة الحكي هي مملكة نسائية بامتياز. فالمرأة منذ الأزل هي التي تحكي الحكايات لابنها لكي ينام، والعمل الوحيد الأهم والمتربع على ذروة الهرم السردي منذ قرون، والذي هو "ألف ليلة وليلة" هو لذات ساردة مؤنثة، وعلى الرغم من مئات الكتب والدراسات عن مؤلف / مؤلفي "ألف ليلة وليلة" المجهولين، فإن الشعوب بأسرها وبكل لغات العالم تطلق على الكتاب: "حكايات شهرزاد". كل ما في الأمر أن المرأة اختفت لقرون في محبسها بالحرملك الذي أسسه لها الرجل، ونحن لا ندري ماذا قالت / كتبت طوال هذه القرون، وأي النصوص من نصوصها تم الاستيلاء عليه من قِبل سجانها، وأيها وصل سليمًا كما كتبته في الأصل، ثمة شبهة مؤكدة دائمًا حول السجانين بأنهم يسرقون متاع السجناء ومتعلقاتهم الشخصيّة وربما جزءًا من أرواحهم، وبدون شك، حدث شيء من هذا القبيل. والدليل أنه ومنذ فتح سجن المرأة وخروجها من محبسها وهي ترفع أعلامها وعن جدارة في أراض سردية جديدة ومدهشة وبالغة الروعة.

عن صحيفة المدن

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم