الصراع الفكري والفني بين الأجيال الأدبية مثل في مرحلة سابقة مفاصل مهمة في تاريخ الأدب العربي، ساهمت في الدفع به إلى التجدد وطرق أبواب ومناطق لم يعرفها من قبل، لكن اليوم وفي ظل ما يشهده العالم من تسارع قلص حتى الفارق الزمني والثقافي بين جيل وآخر، تطرح تسمية الأجيال إلى جنب، للتركيز أولا وأخيرا على الأدب، الذي بات حريّا به اليوم أن يجد للمثقف العربي صوته التائه بين أصوات القذائف وجلبة الحرب وصراخ السنوات. للحديث عن مسألة الأجيال والأدب والشعر العربي اليوم، التقت "العرب" بالشاعر والكاتب التونسي جمال الجلاصي، الذي نحتار في تصنيفه بما أنه شاعر وقاص فروائي ثم مترجم، ليكون لنا معه حديث شيق حول الشعر والرواية والترجمة.

بدايات جمال الجلاصي الذي نحار في تصنيفه شاعرا أو روائيا، قاصا أو مترجما، كانت من القصة القصيرة حيث نشر أولى قصصه في جريدة الأيام التي كان يرأس إدارة تحريرها روحي رباح وكذلك في صحيفة الصدى، حين كانت الصحف والمجلات تمثل منبرا للأدباء الشبان في تونس، وتقريبا كل كتاب جيله مروا بهذه التجربة ونشروا في هذه المنابر على اختلافها، ويذكر ضيفنا مثلا: عادل المعيزي ومجدي بن عيسى. لكن هذه المنابر لم تعد موجودة اليوم، وربما يعود ذلك، كما يرى الجلاصي إلى تطور أساليب النشر التي تمثل بالنسبة إليه سلاحا ذا حدين. يقول: كانت المنابر الإعلامية الكبيرة في العالم العربي من صحف ومجلات تمثل الواجهة الأولى للمبدعين، وكان دورها مهما في اعترافها بهم والنشر لهم، إذ كانت بمثابة المحرار، وعلى كل الكتاب تقريبا المرور بها لصقل تجاربهم وتطويرها، ولعل خفوتها حاليا ساهم في ما نراه من فوضى كتابية هنا وهناك، حيث غاب دور الاعتراف النقدي الذي كان على قدر كبير من الأهمية، لقد كانت المنابر الكبرى واجهة حقيقية لما ينتج من إبداع وما يترجم أيضا.

صراع ثقافي

أول كتاب لي كان رواية “الأوراق المالحة” وقد طبعته على نفقتي الخاصة، بعدما عرضتها على أكثر من دار نشر، لكنها كانت تقابل دائما بتعلات الناشرين، لأن جرعة الجرأة على مستوى الكتابة والموضوع آنذاك كانت تمنع الناشرين من المغامرة بإصدارها في ظل واقع سياسي فرض رقابة خانقة على الكتاب، إذ كان النشر لا يتم إلا من خلال تصريح مسبق. غير أنّي تمكنت بتدخل من الكاتب جلول عزونة في النهاية من نشرها على نفقتي الخاصة.

“الأوراق المالحة” كانت رواية التطهير بالنسبة إليّ، أفرغت فيها حينها كل ما عندي من هموم وأحلام وأوهام كسرها الواقع، شخوص الرواية كانوا حقيقيين استلهمتهم من أبناء جيلي من التسعينيين الذين عانوا من ضياع الأحلام، وتبخر فكرة إنشاء حركة إبداعية جديدة قادرة على طرح بدائلها من خلال صراع فكري وثقافي مع الأجيال السابقة في ظل واقع مهترئ، لكن للأسف فشلنا حتى في التأسيس لرابطة كتاب تجمع شتاتنا. فكتاب التسعينات كانوا في تعارض فكري مع من سبقهم حول مفهوم الكتابة وغاياتها، لكن الصراع لم ينف العلاقة الجيدة بين الأجيال، وأذكر جيدا مساعدة كمال بوعجيلة أو يوسف رزوقة لنا، لذلك ففكرة الصراع لا تقوم على النفي بل هي مبنية على التواصل.

الشعر غابة

يكتب جمال الجلاصي قصيدة نثر مختلفة غنية بما أهمله الآخرون، يقول عن الشعر: الشعر غابة وليس حديقة، غابة فيها أشجار ألفية وشجيرات صغيرة وأعشاب ونباتات، ولا تنفي عظمة شجرة جمال شجيْرة أو عشبة. ويمكننا أن نسحب هذا على ما نراه اليوم من صراع واهم تخوضه تقنيات الكتابة الشعرية مع بعضها البعض، فصراع قصيدة النثر الحقيقي مثلا ليس مع الآخرين أو مع التقنيات الكتابية الأخرى، بل الرهان الأدبي أعلى من ذاك ورهان القصيدة هو ذاتها، وقصيدة النثر بما هي مستقبل شعري موجودة ومنتشرة، لكن يبقى الإشكال هو أن الكلاسيكيين والتفعيليين مازالت بيدهم السيطرة المؤسساتية سواء في وسائل الإعلام أو المنابر الثقافية والسلطوية وغيرها، فهم يستبطنون صراعا واهما مع قصيدة النثر التي لا تطرحهم طرفا مقابلا من أصله، ومن الضروري في رأيي أن تتعدد تقنيات الكتابة، من أراد أن يكتب شعرا عموديا فليفعل، ومن أراد نظم التفعيلة أو إنتاج النثر فليكتب، ويبقى الرهان هو جوهر الشعر الذي ينتصر للإنسان والجمال أينما كان، ولا للشكل.

يضيف: أذكر أنني عام 2012 ذهبت إلى الجزائر كعضو لجنة تحكيم في مهرجان “الشاطئ الشعري” وكان أغلب المشاركين فيه من الشباب الطلابي الجزائري، المفاجأة أنه من بين خمسة وعشرين مشاركا، عشرون قصيدة لم تتجاوز مجرد شعارات عمودية موزونة تدافع عن الرسول وذات مواضيع تحسبها كتبت في صدر الإسلام ولا علاقة لها بزمنها وواقعها، ثم لا علاقة لها بالشعر من أصله لا عموديا ولا تفعيلة ولا نثرا. هنا يمكن أن نلاحظ كيف يتقهقر الشعر إلى الماضي دون أن يمتلك حتى آلياته الجمالية أو الفكرية، فقط ردة نصية لا غير.

بنت وقتها

يعتبر الجلاصي أن قصيدة النثر هي مستقبل الشعر العربي مهما اختلفنا حول شروطها وتسمياتها وطريقة كتابتها، في رأيه، إنها تمثل الالتقاء الصافي بين ما هو يومي تفصيلي وبين ما هو كلي شعري، لذلك يقرّ ضيفنا أن قصيدة النثر خلصت الشعر من كل ما ليس شعرا؛ من شقشقة لفظية وضرورات معيقة، وزينة مفتعلة، واصطناع بلاغي وكلامي.

يقول ضيفنا: من يحاربون قصيدة النثر اليوم هم نفسهم من يحاربون كل نفس تحديثي وكل انفتاح، رغم أن قصيدة النثر موجودة في تراثنا العربي منذ أكثر من قرن حتى قبل ظهور القصيدة الحرة. لكن ما حدث منذ 11 سبتمبر بأميركا زلزل كيان الفرد العربي وخاصة المثقف الذي كان يبحث له عن متكأ، وهذا في رأيي سبب بارز لظهور تيارات ارتدادية تتحصن بماض تليد خوفا من الحاضر والمستقبل، فقد وجد المثقف العربي أن الحاضر غريب عنه، كله مشاكل حارقة وانتكاسات، لذلك ارتأى بعضهم أن أسهل شيء هو الارتداد والرجوع إلى الخلف والماضي التليد المليء بالانتصارات الوهمية.

من مؤلفات جمال الجلاصي الشعرية نذكر، “لا مجد لصوتي خارج أغنيتي” و”أعشاب اللغة” و”ديوان الإقامات”، وكلها ضمت بين طياتها قصائد نثر تحاول أن ترصد الجزئيات المهملة في يوميات الحياة، فضيفنا يعتبر أن قصيدة النثر تحاول أن تكون وريثة حقيقية لكل ما كتب في العالم، ويرى أن المبدع الذي لا يكون مطلعا على أحدث ما يكتب سيكون خارج التاريخ. فالكتابة بنت وقتها بالضرورة، كما يقول.

باي العربان

الشعر والرواية كانا متوازيين عند جمال الجلاصي فإلى جانب كونه شاعرا وقاصا هو روائي ومترجم أيضا، يقول: أحس براحة كبرى في السرد ومنذ البداية كنت أقول “أنا شاعر مؤقت، ومكاني في السرد”. ثم إن اتجاه الشعراء إلى السرد ظاهرة صحية فالأجناس الأدبية ليست في صراع في ما بينها، ثم من ناحية أخرى مهما اتسع القصيد فقد يضيق أحيانا على التعبير عن أحلامنا وهمومنا، عندئذ نتجه إلى رحابة صدر الرواية، إذ الرواية هي السفينة الأوسع.

نالت روايته الأخيرة “باي العربان” جائزة لجنة تحكيم كومار في الشعر والرواية، فعن تجربته الروائية الأخيرة هذه والتي تطرق فيها إلى دور اليهود في التاريخ التونسي، وهو أمر مغيب ومهمل عمدا من الذاكرة العامة وحتى الإبداعية، يحدثنا الجلاصي: لا أحد يمكنه أن ينكر دور التونسيين اليهود في الفن والموسيقى والمسرح وغيره من الفنون، ولكن وإن وقع تغييب كل هذا، فدور الروائي هو تلك اللعبة الأنثروبولوجية، فيبحث في المناطق المعتمة التي تهملها المدونة التاريخية والكتب الرسمية والمدرسية.

ويستذكر جمال الجلاصي هنا خماسية مدن الملح للكاتب السعودي عبدالرحمن منيف، والتي مثلت، في رأيه، تأسيسا لرؤية جديدة للرواية، تلك الرواية التي تنفصل عن دورها القديم، أي دور الحكاء (الفداوي باللهجة التونسية).

ربما يمكننا إدراج رواية “باي العربان” ضمن الروايات التاريخية، فماذا يقول صاحبها؟: “باي العربان” يمكن اعتبارها رواية تاريخية، لكنها ليست مشابهة للرواية التاريخية التي يكتبها حسنين بن عمو أو جرجي زيدان وغيرهما، حيث تخلو تلك الروايات من وعي عميق باستعمال المادة التاريخية والغاية منه، فالرواية التاريخية في رأيي هي إعادة تشكيل التاريخ وإبراز عمقه، وهو تمش مهم في الكتابة الروائية اليوم، إذ أن إعادة كتابة التاريخ روائيا بات ضرورة فكرية لإعادة قراءة تاريخنا قراءة تخلو من الثأر والتأثر وتبتعد عن القراءات الرسمية التي لا تضيء بقدر ما تعتّم، فمثلا الروايات التي كتبت عن فترة الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة الجيدة منها اقتطعت مرحلة بعينها دون عمق واقتطعت بذلك جزءا صغيرا من الواقع والأرواح التي عاشته، فكانت بذلك تحت ظل ضرورة معينة التقطها الروائي وعمل على تقنينها، رغم أن الروائي عندما يكتب رواية تاريخية سيركز بالتأكيد على فترة ما، لكن هذا التركيز والتقنين يكون إبداعيا يطمح إلى سبر العمق بما يتماشى والمسارات الروائية لا لهدف وأسباب أخرى.

ويستشهد الجلاصي برواية ترجمها لأستورياس بعنوان “السيد الرئيس″ إذ يعمد فيها الكاتب إلى اقتطاع حقبة تاريخية لكن عن وعي حاد، ما يجعلنا نحس أن مصائر الأبطال في الرواية تخرج للواقع وتتحقق ما إن تتحقق نفس الظروف، من هنا يمكننا أن نفهم الإسقاطات أو القياسات التي يمكن أن تأخذنا إليها الكتابة السردية للتاريخ تلك التي يدفعها الوعي الفني والفكري والجمالي. فالوعي، كما يقول ضيفنا، يجعل الرواية التاريخية كالتجربة العلمية كلما توفرت نفس الظروف ستؤدي حتما إلى نفس النتائج.

ومن ناحية أخرى يرى الجلاصي أن الكتابة الخالية من فعل المقاومة والدفاع عن المبادئ والمثل الإنسانية الكبرى كالعدالة والخير والجمال والسلام وغيرها، ستتحول إلى مجرد لعب بالكلمات لا يقنع حتى كاتبها.

مهربو الأرواح

لجمال الجلاصي عدة تراجم من أهمها ترجمته للأعمال الشعرية الكاملة للشاعر السنغالي ليوبولد سنغور، كما ترجم عددا من الروايات منها “السيد الرئيس” لأستورياس إضافة إلى “إضراب الشحاذين” لأميناتا ساوفال، و”الإلاه الصغير عقراب” لروبير إسكاربيت، كما ترجم مختارات شعرية لإيميل سيزير، وعدة نصوص شعرية عربية نقلها الجلاصي من العربية إلى الفرنسية، إضافة إلى ترجمات لم تصدر بعد. يعتبر جمال الجلاصي نفسه مترجما، ويرى نفسه مترجما مغامرا، إذ يختار لنفسه كتبا تعجبه من روايات وشعر، ويقوم بترجمتها ثم يبحث بنفسه عن ناشر مغامر مثله.

يعتبر ضيفنا أن مشروعه في الترجمة هو رافد من روافد مشروعه السردي، فهو لا يترجم تحت توصية فقط يترجم ما يقنعه.

يقول الجلاصي: سيظل المترجمون خيول التّنوير، وستظل التّرجمة دبلوماسيّة الحضارات، والمترجمون هم مهربو أرواح إخوتهم البعيدين. فالتّرجمة هي التي تخرج الإبداع من ضيق أنهار اللّغات إلى محيط التّواصل الإنساني الرّحب. كان وسيظل هناك مرتزقة وسيظل هناك صانعو أجنحة ومترجمون هواة يفتحون لنا آفاقا أخرى عبر تهريب النّصوص الإنسانيّة، وهي في الحقيقة لمسة شكر لمبدعين أحببناهم واستضفناهم في حضارتنا ليس عبر تحويلهم للغتنا، بل عبر تطويع لغتنا لكي تكون وعاء لأرواحهم وأفكارهم. عن صحيفة العرب

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم