صديقتي لا تحب لندن كثيرا لكنها تفضل العيش فيها على العيش في أي مكان آخر في عالمنا العربي، قالت بشيء من اللامبالاة إن لندن مدينة متحركة زاخرة بالحياة لكن أعماقها مظلمة، لا تقتربْ من أعماقها ولا تقحمْ نفسك فيها وعش، عش على السطح تعش مرتاحا، وأكدت على السطح وليس في الهامش أو في الأعماق ولفّت معطفها حولها في حركة لاشعورية تجنبا للسعة برد شديدة. أزعجها تأخر الحافلة بضع دقائق خصوصا أن البرد كان شديدا، اقتربت مني حتى التصقت بي ربما بحثا عن دفئ مستحيل فباستثناء المعطف لم يكن في ملابسها ما يقيها من برد فاجر بلغ ال٥ درجات تحت الصفر بحسب ما أشارت إليه شاشة هاتفي النقال.

تساءلت بيني وبين نفسي عن اختيارها لملابسها في صباح شديد البرودة كصباح اليوم، تنورة (الأصح نصف تنورة) سوداء لا تكاد تغطي مؤخرتها الدائرية الجميلة وحذاء أسود عادي مع جوارب سوداء تلامس الركبة ومعطف داكن.. أحسست دفء أنفاسها وهي تحاول الالتصاق بي لتحتمي بي من لسعة البرد.

"هذا طقس البقاء في الفراش الدافئ" قلت "وليس للعمل"، ابتسمتْ موافقة واقتربت أكثر حتى التصقت بي وكأننا زوجان يبحث كل منهما عن الدفء في جسد الآخر.

الشارع خالٍ تقريبا من المارة، الساعة السادسة صباحا وبعض ظلام خفيف ينسحب ببطء، يمر بين الحين والآخر بعض المسرعين إلى أعمالهم الصباحية المبكرة.

حين بدأت بعض ندف الثلج تتساقط قالت متذمرة يلعن لندن وأبو لندن واللي جاب العرب للندن..

قلت يبدو إن الجماعة في القناة عادوا لإزعاجك مرة أخرى، تذمّرت ولم تجب إذ يبدو انها لا تريد أن تبدأ يومها بما يزيد من تعكير مزاجها إذ يكفي ما يفعله بنا هذا البرد وما يجلبه من إحساس الانغلاق داخل الذات والانكماش داخل ما نرتديه من معاطف بحثا عن دفئ يكاد يكون مستحيلا. تركتها لصمتها مرتاحا لالتصاق جسدها بجسدي حين قالت فجأة ودون مقدّمات أو سبب ظاهر هل تدري أنّي لا أعرف أحدا من جيراني، عشر سنوات بنفس المنزل ولا أكاد أعرف أحدا منهم، ربّما تعرفت على أحدهم إذا اعترضني في مكان عام لكن لا أعرف عنهم شيئا ولا يعرفون عن حياتي الشخصية شيئا ولا أحد منهم يعرف أنّي صحفية بقناة إخبارية عربية معروفة، لم يسألني أحد منهم منذ حلولي بهذا البلد والسكنى بينهم من عشر سنوات. غريب والله أمر الإنجليز، التصقت بجسدي أكثر في حركة مفاجئة وسألتْ أليس هذا أمرا رائعا، لا تشعر أبدا أنك مراقب من أحد، تفعل ما تشاء، تلبس ما تشاء، تذهب حيث تشاء، تأكل، تسافر، ترقص، تصرخ، تمارس جنونك الشخصي دون مراقبة ودون إحساس بأي مانع ودون عيون ترصد ما تفعل، عكس ما يحدث عندنا في تلك المعتقلات التي تُسمّونها اعتباطا دولا عربية حيث يراقبك الجميع أكثر مما يراقبك الله نفسه ولا تسلم من أحاديثهم وتعليقاتهم.. يسلخون جلدك من وراء ظهرك بحثا عما فيك من عيوب ظاهرة وباطنة، التصقت بي أكثر.. أنت كرجل لا تدري ولا تحس ما نحس به نحن النساء نحن نتحرك ونمشي ونلبس وفق ما تريدون أنتم، ما يريد مجتمعكم الذكوري وما يريد شيوخكم... نحن محكومون بماضيكم وعقدكم النفسية...

فضلت أن لا أجيبها، فقط نظرت إليها مبتسما، ربّما تواطئا بالموافقة.

سادت لحظات صمت باردة، قبل أن تلكزني بمرفقها وهي تقول ضاحكة في سخرية واضحة انظر، انظر مشيرة بعينيها إلى شاب إنجليزي في العشرينات من عمره يرتدي ملابس رياضية وشورطا قصيرا.. مرّ أمامنا وهي تتابعه بنظراتها لتقول لي وقد ابتعد قليلا "البرد يجمّد الدم داخل العروق وهو لابس شورت ليعرض جمال أفخاذه" وانفجرت ضاحكة " هذا أكيد ذكره متجمّد.. كيف يقدر يمشي وعيره مْجمّد".. انفجرت ضاحكا بدوري.. نظرت إلى تنورتها الأقصر من شورت الشاب الإنجليزي ولم أعلّق.

ما يميز صديقتي عن النسبة الكبيرة من "الزملاء" في القناة أنها صحفية حقيقية.. أكثر من 500 عامل وموظف بالقناة أكثر من نصفهم "صحفيين"، هي لا تسميهم صحفيين، تقول إن ذلك صفعة وإهانة للصحافة.. جيش كامل من المستكتبين العاملين بالإعلام وتوابعه ليس فيهم من يحسن كتابة خمسة أسطر باستثناء خمسة أو ستة كُتّاب جاؤوا من عالمي الرواية والشعر (هي تصر أنهم خمسة فقط وليس ستة). كلّما جلسنا في مكان منفردين أو انفتح أي نقاش بيننا إلا وتحوّل الحديث إلى شكاوي لا تنتهي من إدارة القناة ومن زملاء العمل الحشريين ومن العرب والعمل مع أمة التخلف... اتفقنا من زمن أن العمل الإعلامي هو أنجس الوظائف، أنجس من السياسة بأشواط لأننا نعمل عند الأنجاس ونسعى لتطهيرهم وتلميع صورتهم ..لأننا كإعلاميين لسنا سوى جنود في معارك لا تخصنا، نحن نحارب في صفوف العدو، مجرّد أبواق تضخم أصوات السياسيين والفاسدين والأغنياء، نحن طبول تُدَقُّ في معاركهم... كنّا نسخر من كل قادم جديد إلى عالم الإعلام والصحافة من الذين يتقدمهم حماسهم أن الصحافة مهنة البحث عن الحقيقة وأنها من ضرورات الديمقراطية فتسمعهم يُنظِّرون مفتخرين بمهنتهم في حين نتغامز نحن مخفين ابتسامات سخرية مرة. والحقيقة أن أمثال هؤلاء المتحمسين قد قلّ عددهم لأن الزملاء الجدد يتم تعيينهم في معظم الحالات من فوق.. ومن فوق، كما تشرح الصديقة دائما، لا تعني بالواسطة، هناك فرق.. قد تكون صحفيا ويتم تعيينك بالواسطة وهذا كان يحدث كثيرا في أيامنا نحن عجائز الصحافة.. التعيين من فوق غير ذلك.. التعيين من فوق هو أن يأتوا بنصف أمّي ليصبح مسؤولا أو رئيس تحرير.. المهم الولاء.. المهنية لا تهم....

وصلت الحافلة...

*شاعر وكاتب وإعلامي تونسي مقيم بلندن

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم