الذهاب إليها مقترنٌ بكلمة "نزول" والخروج منها مرتبطٌ بكلمة "طلوع". (نزلنا على الجسر وطلعنا من الجسر)، فكل ما يحيط بها يعتليها، لكنها تعتلي نهر العاصي وعناده، وقد اعتلت قلبي وتمرده. وما كنت أتخيل أن الطلوع منها هو واحد من معاني "طلوع الروح"، فأصابعها الساحرة الخفيّة عرفت كيف تدكّ أسوارَ أضلاعي، وتتسلل إلى أعماقي لتأسر قلبي، هذا ما شعرت به يوم أجبرتني الطائرات المسعورة على الرحيل عنها، شعرت أن جسدي قد فقد الكثير من مزق روحه التي بقيت هناك عالقة في شباكها.
والغريب ليس أنني لم أكن أحبها فحسب؛ بل لم أكن أرى فيها "مدينة" ولا بلداً كما يطلق عليها سكانها، وسكان ريفها " الطالعين من البلد والنازلين إلى البلد " 
كنت أراها تجمع أرياف لا أكثر، ويغيظني بعض سكانها من أبناء العوائل المنتفخين غروراً وهم يتشدقون بالتعالي على أبناء الريف "الضيعجية"، وخاصة سكان شرقي العاصي؛ وأنا منهم.
كنت أراها مدينة منافقة في كلّ شيء؛ حتى في موقعها على منتصف الطريق بين حلب واللاذقية، فلا هي حلب بأموالها وتجارتها وصناعتها، ولا هي اللاذقية ببحرها وسيّاحها ومصايفها، وفرص العيش فيها، كانت بينهما تتمرغ على أقدام جبال الساحل وأحراشها من الغرب، وتُشرع أبوابها ونوافذها مُتملقةً امتدادات سهلي الغاب والروج من الشرق، ولم تستطع عبور العاصي إليهما إلا بعد مئات السنين، وبحارتين خجلتين من فقرهما هما حارة ســـوق الهال وحارة سوق السحت " الدواب "  
كنت أراها من قريتنا التي على سفح الجبل الوسطاني أطلالاً متقوقعة، مستسلمة لقدرها الجغرافي، تقبع في حفرتها من حوض العاصي كضفدعة نافقة على ضفّته.
كنت أرى كلّ شيء في الجسر يتلوى كثوب رافيا، كلّ ما فيها انتهازيٌّ، متسلقٌ يركب بعضه بعضاً، حتى بيوتها وحاراتها وطرقها، فحين تهبط إليها من الجنوب قادماً من معمل السكر تطالعك بيوتها المتراكبة بدءاً من جسر العاصي، يمتطي بعضها بعضاً، تحاول تسلّق التلال الأولى للجبل الغربي، لكنها تستكين عاجزة عند تلة محطة القطار و"شفتلك" بيت قطرون وبيت القرميد من جهة، وحتى مؤسسة الإسمنت من الجهة الأخرى شمالاً، تسترخي على قفاها كامرأة أنهكها الطلوع؛ فأسندت ظهرها للجبل، وفشخت ساقيها بارتخاء كسول؛ اليمنى على امتداد الضفة الغربية من العاصي، متغلغلةً في بوابة البساتين، بينما تراخت اليسرى لتشكل حارة التلّ، وبينهما حارة الطاحون القديمة بين جسري العاصي.
وكنت أراها مُلتوية في كلّ شيء؛ بدءاً من التوائها على العاصي، وانتهاء بأزقتها التي لا تعرف الاستقامة ولا الاستواء؛ فأغلبها أدراج حجرية طويلة تقطع الأنفاس؛ ناهيك عن وحشتها ليلاً، وخاصة وأنت تعبر تحت قناطرها القديمة التي عُرفت باسم "السيباطات" وعُرف أكثر من زقاق باسم "تحت السيباط".
وكنت أقول لهم: الجسر بلدة متناقضة حتى في مناخها، تتكوّم في حفرتها على مصبّ الأودية المحيطة بها؛ ليمتطيها الضباب أغلب أيام الشتاء، ويستبيحها الغبارُ والعجاج طوال الصيف، من أضيق أزقتها حتى أوسع شوارعها، وحتى ملاءات النساء السوداء لا تسلم منه، فزوابع الصيف كانت مولعةً بالتغلغل تحتها؛ لتفضح بياض سيقانهنّ. وأؤكد لهم: نعم هي متناقضة فكم تصادفك امرأة تتدحرج كتلة سوداء في عباءتها أو ملاءتها وهي تتأبط ذراع صبية يتطاير شعرها المصبوغ بأكثرَ من لون، ويُخشى من انفجار بنطالها في أية لحظة وسط الزحام.
حتى شوارعها اللاهثة دوماً نحو التلال تفاجئك نهاراً بسيول من الناس هبطوا إليها من ريفها الغربي والشرقي، وليلاً يلفها هدوء غريب وكأنها مقبرة مهجورة.  
وكما يتمازج فيها سكان المشرق والمغرب؛ تتداخل في أسواقها لهجات البدو والحضر، والسنيّ والعلويّ، والجسريّ والضيعجيّ، يتمازج فيها أحياناً صوت المآذن المنتصبة في كلّ حي من أحيائها مع قرع أجراس الكنيسة المنتصبة بكل جلال في الحارة المسيحية، بجوار دير تفوح الهيبة من أسوار ياسمينه منذ أكثرَ من مئة عام. 
(رافيا - قدر الأنهار)

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم