طاهر النور 

الجزء الأول

"1"

دموع العشب

مات "أونكل" موسى منذ سنة خلت، وعلى إثر ذكراه غادر أبي ويمّم شطر الشمال. قال إنه سيعود بعد شهر.

حدث الأمر كلّه فجأة بصورة عجيبة، هكذا حدث. حتى أنني لم أختزن أيّ تصوّر عنه، يشبه الأمر ولوج طائر مهاجر إلى غابةٍ منسية للمرة الأولى، مثل الأشياء التي تحدث في العالم الصاخب الذي يضج بذاكرتي، أشياء تظهر وتغيب، حيناً خاطفة، وحيناً بطيئة. تزدحم بصورة كبيرة في رأسي، وحين أحاول استحضار تفاصيلها لإعطاء صورةٍ واضحة عن ما مضى، يخونني منطق الأشياء ذاته، مع أنه يمكن للذاكرة أن تحفر عميقا في بئْرِ أزْمنةٍ عبرتْ، ورستْ في أعماقها، ينزع الزمن إلى نسيانها، ودفنها في الأغوارِ العميقة للماضي.

ها هي ذي هذه الأشياء، تنتشر فوق الظلام المُدْلهم، أو تنْبثق منه مثل طيور رمادية، يطلقها الفراق والفقدان المرِيرَان.

هذه الأشياء، تشِع، تومِض، ثم لا تلبث أن تغيب في ظلمةِ هذه الغربة، غُربة هذا العالم الداعِر.

حدث في الأيام التي عبرتْ، الأيام التي تشبه الطُّيوف، أنْ خرجتُ برفقةِ أبي إلى مزرعتنا، التي لا تبعد كثيراً عن القرية. كان الوقتُ ضحى، الناس يجفِّفون الطين من مصنوعاتهم الفخارية في الشمس، كؤوس، وأقداح، وقدور، ومخابر، وأزْيار صغيرة، بينما الأطفال حولهم يصنعون أكوابا، وفناجين، وطاسات، وكنائس صغيرة من الطين أيضا، ثم يخوضون في الوحل حتى ركبهم، يغمسون أيديهم، كما لو أنهم يغمسونها في دمِ النُّذور، يشْتمُّونه، يدهنون وجوههم، ويتراشقون. ملابسهم بلون الصدأ، وجوههم مثل التماسيح.

"مريام، إيري إيري[1]". نادتني كيومو.

خطوتُ خطوات خفيفة نحوها، كي أتبيّن ملامحها المكسوّة بالطين جيداً، لكنها رشقتْني بالطين الذي تشتَّتَ شمله عند قدمي.

تقهقرتُ حينئِذ.

أردتُ أن آخذ أيّ شيء أجده مُلقى على الأرض، وأرميه صوبها، لكن أبي جذبني بأصابعه، فتبعته أوتوماتيكياً، مثل حبْلٍ مربوط بفرس.

مشينا صامتين، في دربٍ ملتوٍ كثعبان، نتفادى الأشجار الشوكية الصغيرة، نتحاشى أعشاب الحسْكنِيت والدرِّيسة الطاعنة.. أحيانا كنتُ أتخلّف عنه لاصطياد جراد "أُم سِمسْمان" أو " أم بُكْبُك"، ثم أركض خلفه، أطوي الدرب الرقيق كالصّراط الذي ابتلعه. هو لا يلتفتُ أبداً، يعتبرني موجودة معه، كما لو كنتُ غير مرئية أساساً، بالكاد يتكلّم. لو عثرتُ على مصباحٍ سحري، كمصباح علاء الدين، لتمنيتُ أن يجعل أبي يتكلم، لتمنيتُ أن يُراقصني، أن يُغنّي لي، أن يُرافقني لاصطياد الأرانب والطيور، وهو يشرح لي كيف تجري الأمور، بالنسبة لمللِ الحيوانات، لتمنيتُ أن أكون مثل هؤلاء الجنوبيّين، أن أكون ابنة رجل جنوبي، تلفُ خصرها بقطعة قماش، تسوّر عنقها بأساور نحاسية، تعلّق في أذنيها قرطين نحاسيين أيضاً، ومدورين مثل هالة القمر، دون أن تأخذ معها شارة الصليب الحديدية، التي يزعم الآباء أنها تحمي الأطفال من الشر. ترقص بوحشية، تضرب الأرض بقدميها حتى يستيقظ العجاج من سُباته، وتستيقظ مردة الوجْد من سُكونها، وحتى ترقص رؤوس الشجر.

لحقتُ بأبي.

وصل المزرعة قبلي.

قلتُ له، وأنا أعبث بسلسلة فضية، أهدانِيها أونكل موسى في الخريف الفائت:

  • هل تذكر يا أبي، في مثل هذا اليوم، في الخريف الماضي، كانت قناديلنا قد نضجت.

كان قد بدأ العمل فعلاً، يحرث الأعشاب بمعول وحراثة صغيرين. لم يكن عملا مضنياً، بل كان عبارة عن مسحٍ عام للأعشاب، التي تطاولت في النُّمو مؤخراً. حين سألته كان يغور داخل المزرعة، يفتِّش عن الجوانب المهملة، ولما بلغه سؤالي توقّف فوراً، كأنما أوقفه وتدٌ مصلُوب في جُب الأرض.

لبث دقيقة كاملة، دون أن تصدر منه أيّ نأْمة.

شعرتُ بسكونٍ تام. لا أسمع سوى خشخشة أوراق الذُّرة.

ثم، ثم ذلك الإيقاع المومض للحزن.

الندى يلمع، القلب منفطر في هذه البرهة.

  • نعم أتذكّر

لم يقل غير هذا. صوته تشوبه نبرة شجن. ثم ابتعد وهو يسوِّط الهواء بمعْوَله، ويصفع الأعشاب التائهة كيفما اتّفق.

لحقتُ به، تمسّكتُ بجلابيته الرمادية، لم ينظر إلى عيني، بل إلى الشمس ينظر.. الشمس شعّت بألوان مختلفة، زرقاء، وصفراء، وذهبية، انعكستْ على قناديل الذُّرة.

  • بلى يا أبي. في السنة الماضية في هذا الوقت بالضبط، كانت الذُّرة قد نضجت، وفي كل سُنبلة منها مئة ألف حبّة.

زفرتُ لكي أجعله يدخل في سياق الحديث، يخرج من سياق الزمن الدوّار.

لم يقل شيئاً.

شعرتُ بالحزن عليه، لكنني أردفتُ:

  • كان أونكل موسى يُحب الذُّرة النيّئة، لذا يرسلني لكي أقتطف له القناديل ليشويها فوق النار، ويتلذذ بروائح جمر اللّهب.

ترك التحديق في الشمس هذه المرّة، ومشى متلكِّئاً على عصا الزمن البعيد، البليد، حتى غاص في الجزء المُهمل من المزرعة، حيث مدخل الغابة، والكوخ، وشجرة المانجو التي نعلق عليها أمتعتنا، وحيث الكثير من الأعشاب.

لم أتركه، لا يمكنني ترك أبي أبدا.

قلبي كان يخفق، أسرعتُ، شعرت بالخوف، سقطتُ. تظاهر بتجاهُلي، سار بخطواتٍ سريعة حتى بلغ الكوخ، وبدأ يحرث القش الذي حوله.

يحرث بعنفٍ عجيب، كأنما يود فض بكارة الأرض الأولى، الأرضُ الأم.

خُيّل إليّ أنه يستجيب لشيء غامض، متعلق بالأرض. مأْتاه تسلل غير طبيعي على روحه الصموتة أبدا.

  • أبي ماذا تفعل؟ كُف عن الحرثِ أرجوك. أنت تحرث الغابة.

قلتُ بتوسّل، لكنه لم يسمعني. اعتقدتُ أن شخصاً مجهولاً دلف إلى روحه، وتقمّص شخصية أبي الحقيقية.

اتجهتُ نحوه، وأمسكتُ المِعول الذي كان يصفع به كل شيء، لكن حركاته القوية، غير الواعية، أطاحت بي.

قرصتني أعشاب الحسْكنِيت، خدشني عود في جبهتي، طعنتني أشواك نابتة. غير أني لم أبال. قمتُ وتشبثت به ثانية، حتى خفّت حركاته وهمد كلياً.

دفن رأسه تحت العُشب المُشبع بالنّدى.

رأيتُ الندى يسقط على الأرض، مثل قطرات الماء.

رفعتُ يدَي أبي القابعتين فوق رأسه، كما الحديد والنار.

رأيتُ دموعه تسقط على الأرضِ بشراسة.

  • أنت تبكي يا أبي؟ سألته.

تسلّلتْ أصابعه إلى عينيه، ومسح عنهما قطرات الدمع.

  • لم أبكِ. قال.
  • وهذه الدموع التي تسقط من اتجاه عينيك؟ سألته ثانية.
  • إنها دموع العشب. ردّ وهو يغادر الكوخ.

حدث هذا في مطلع شهر نوفمبر، ثم غادر في اليوم التالي.


[1]- تعالي تعالي . بلغة السارا

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم