سأموت يومًا ما، غداً أو ربّما بعد غد، لست أدري، لكنّني بالتأكيد قد متّ قبل ذلك بسنوات.

ولدتُ ميتاً، أو متُّ قبل أن أولد، أو إذا شئت أن أكون أكثر دقّة، فقد متُّ قبل أن أنعقد حيواناً منويّاً في بويضة أمي، فمن بين كلّ حيوانات أبي المنويَّة كنت أنا الحيوان الأكثر ضعفاً، وهشاشة، وقابليَّة للانكسار.

أنا أحد من ولد كهلاً، أو ولد ميتاً، فالكهولة موت تأخّر عن موعده، لكنّني ما كنت خاضعاً للزمن، فقد ولدت طفلًا وكهلاً وميتاً دون تأخير أو تقديم في اختلال الزمن. الكهول أموات لم تسنح الفرصة لعزرائيل أن يختطف ما تبقّى فيهم من أنفاس متقطّعة تحت تأثير الكحّة واللّعاب وضيق التنفّس والسّلس والتهاب البروستات وانحناء الظهر والروماتيزم والسّكر والضغط وضعف القلب، لكنّه كان مستعداً استعداداً كاملاً لأية فرصة سانحة لينتزع حياة من كانت اللوكيميا تعتور في دمه دون أن يدرك ماذا كان يحدث في مكان ما من جسده، لتتحطّم نسبية ذلك الزمن تماماً عند قدميه ومن ثمّ يتخذ شكلاً واحداً متطابقاً في كلّ أنحاء هذا الكون القاتمة.

ولدت إنسانًا مسعورًا بالحقيقة1. تفاهة كميَّة. صدفة وضرورة2. جائزة كونيَّة كبرى3 في أعظم استعراض هزليّ فوق الأرض4. ولدت بين تسع ولادات لم أكن أعرف ترتيبها على نحو دقيق فقد ولدوا دون أن يكترث أبونا بتسجيل واقعة الولادة في مكتب الأحوال المدنيّة. ولأن أعمارنا متقاربة زمنيّاً فلم يكن ممكناً أن تكتشف فارقاً كبيراً بين ولادة وولادة أخرى. جلّ ما أعرفه أن ابنها الكبير ليس سوى نوح. أمّا آخر تلك الولادات المتبقيّة على قيد الحياة فقد كانت بنتاً. بشّرتها القابلة بأنها أنثى فسمّيت مريم لأنها استعملت كلمة بشارة عندما عرفت من خلال ملامح أمي وزيغ عينيها أنها حبلى بأنثى، وهو ما لم تخطئ فيه تلك القابلة عبر كلّ تاريخها فأحبّت أن تمنح أمي سلوانًا بعد أن استنفدت جلّ أشكال الشعوذات من أجل أن يهبها الله فتاة تعوّضها عن صلف وجفاف الذكورة في منزلنا.

أمام حَذَق تلك القابلة كانت قابلات البلدة جميعاً يطرقن اعترافاً بتفوّق سلمانيّة على جميع من امتهنّ تلك المهنة الشّاقّة.

بين ولادتها الأولى وولادتها الأخيرة ولد يعقوب، وموسى، وإبراهيم، وعيسى، واسماعيل، ويوسف، وما قبل آخرها ولدت ميتًا، أنا يونس بن آدم المهدي. عن طريق أبي قيل لنا إنه أنجب ابنًا لكنّي لم أعرف كيف أنجبه. زمنيّاً، حين بدأتُ سنوات الدّراسة الأولى في مدرسة قرطبة الابتدائيّة في حي الجميمة كان أبي قد تزوّج امرأة عرفت بعد سنين طويلة أن اسمها سدّوم5 أنجبت سدّوم ولداً واحداً لم نعرف شيئاً من تفاصيل حياته فقد نشأ بين جدّته وأخواله بعدما تطلّقت من أبي، وعادت لتقطن من جديد منزل جدّها عن طريق أمّها الذي كان من بلدة السنابس لكنّه يقطن في تاروت حاليّاً، تحديداً بمحاذاة قلعتها التاريخية الخالدة6.

بالأمس. كنت أرتشف شاياً أطلّ لونه الأحمر القاني كالدّم من وراء الزجاج الشفّاف. اجتهدت أمّي كي يكون لائقاً من حيث دقة مقدار السّكر ودرجة الغليان والنّسبة الدَّقيقة لمقدار الشاي والماء. أعدّته أمّي في الأصل لأبي الذي كانت جلسة الشاي بعد الغداء بالنسبة إليه طقساً يومياً ثابتاً.

كان أبي معروفاً بين أبناء جيله باسم آدابا قبل أن يكنّى باسم ابنه الأكبر نوح. لم يتّفقوا على سبب تسميته بتلك التّسمية الغريبة، بذلك الميزان الصّرفي غير الخاضع لقواعد الصياغة العربيّة. بعضهم قال إن تلك الكلمة لم يقصد بها إلا نبزاً ساخراً استهزائياً أطلقه آخرون يكنّون له الكراهية والعداء. بعض أنكر ذلك تماماً. من بين هؤلاء بعض ممن له اهتمامات ابتدائيّة في الإيتمولوجيا وقد أشار أن التَّسمية ما هي إلا صياغة غير عربيّة لاسم آدم، كان منتشرة فترة السَّيطرة العثمانيّة على القطيف وهو ما تمّ نفيه بشدّة من قبل آخرين. هؤلاء الآخرون قالوا بأنّ تلك التَّسمية من تأثيرات التجارة مع بلاد الهند وهو ما أكّده بعض المثقفين من الأدباء خصوصاً، من حيث تشابه صياغة الاسم مع صيغة اسم مؤلف كليلة ودمنة7. بعض آخر ممن جايله سنّاً أو ممّن يكبره بسنين معدودة، أكّد جازماً أن أبي كان يردّ في طفولته، حينما يُسأل عن اسمه بهذا الاسم، لعدم قدرته على نطق اسم آدم بصيغته الصحيحة، أي إن اسم آدابا لم يكن سوى خطأ طفوليّ بات علماً محصوراً لتلك الكتلة الافتراضيَّة من العظام واللحم.

ظلّ الجدل طويلاً حول سبب تلك التّسمية لكنّ الفكرة المتَّفق عليها بين أغلب من تناول أصلها أنّ أول من جعلها علماً لآدم كان شخصاً عاش زمناً طويلاً في لبنان، ولم تعرف الغاية من عيشته هناك سوى أن ذلك الشّخص عاد يحمل كمّاً هائلاً من الألفاظ غير المألوفة، إضافة لزوجة قيل إنها فدائيَّة فلسطينيَّة انخرطت في الكفاح المسلّح ضمن منظمة التحرير الفلسطينيَّة. أكّد بعض رجال الدين حينما سئلوا عن دلالة تلك الألفاظ بأن ذاك الشخص قد أصيب بمسّ من الجنّ في مغارة جعيتا المسكونة بشتّى قبائل الجان وبأنّ كلّ تلك الكلمات عبارة عن ألفاظ مفهومة تماماً في مجموعة متنوّعة من لغات الجنّ.

تجرأ أحد رجال الدّين الكهول مفصّلًا تلك الفكرة الإجماليَّة بأن نبر الإمالة في كثير من الألفاظ يدلّ على لهجة محدّدة من لهجات الجنّ، شبيهة لحد كبير بالإمالة في بعض قبائل العرب، ولأنه أوضح ذلك في ظل تواجد عدد من المراهقين فقد عقّب قائلاً بأن الإمالة الصّوتية تسمّى أيضاً بالإضجاع والبطح. ابتسم أحد المراهقين عندما سمع الشيخ ينطق هذين اللفظين فبادله الشيخ بابتسامة حانية.

ليس مهّماً ما إذا كان أحد تلك الآراء صحيحاً بل المهمّ أن آدابا، أو آدم، أو أبا نوح، كان بحكم القانون والشريعة والعرف أبي. سواء كان آدابا أو آدم، وسواء كان فيسلوفاً هندياً، أو دركياً عثمانيّاً، أو كسلاناً منقرضاً من أرخبيل الغالاباغوس8.

في مواجهة تجاعيد أمّي رفعت تلك الكأس لأرتشف آخر ما تبقّى في قاعها من قطرات قليلة باردة. ارتشفت تلك القطرات بصوت تعمّدت به استفزاز أبي الذي كان يتقيأ قرفاً، وغثياناً، من صوت ارتشافة أي سائل. صرخ فيّ باشمئزاز أن أكفّ عن إصدار مثل تلك الأصوات. ابتسمت له دون أن أكترث لصراخه الذي كان مشاكلاً لنباح كلب مسعور صوتياً، لكنه مجوّف، مذعور قلبيّاً، منخورة أساساته كلّياً.

في لحظة نادرة خلعت أمي تلك القماشة السّوداء التي تلفّ بها رأسها دائماً دون أن تترك المجال متاحاً لبعض شعيرات طائشة أن تتسلّل من وراء تلك القماشة. لم تكتفِ بذلك بل إنها دأبت أيضاً على ارتداء مشمرها في المنزل9. كانت تتعمّد على ما يبدو أن يكون ذا ألوان قاتمة دون أن أدرك سبباً منطقيّاً لذلك. دأبت على تلك الألوان حتى في مناسبات الفرح بولادة أحد أئمة أهل البيت أو زواج أحد الأقارب أو بنات أحد الجيران والمعارف. ما يستثير السّؤال والدّهشة أن ملابسها أصلاً ما كانت تشفّ عن شيء أو تتيح بروزًا لانحناءات جسدها فكان وجود المشمر من عدمه ليس ذا أهميّة. السبب الوحيد الذي كان يخطر في ذهني لسلوكها أن أمي لم يعد بمقدورها أن تطلّ على ما آل إليه جسدها.

اقتنصت فرصة أن أحدّق في بياض شعرها الذي ارتسمت عليه وحشيّة الزمن بكلّ ما يستدعيه من هزل، وسخرية، وتراجيديا مضحكة، فما دمنا كائنات منذورة للكهولة، والضّعف، والعجز، والمرض، والسَّلس، والهشاشة، وهبوط المثانة، والجلوكوما، والشّلل الرعّاش، فلم وجدنا دون رغبة منّا؟!!. دون أن يستشيرنا أحد عما إذا كنا نرغب أن نكون أو نرغب ألا نكون، رغم أن اللغة بحدودها الضيّقة، وخضوعها للمقاييس العقلية الإنسانيّة، والتجربة المحدودة للبشريَّة، وعدم قدرتها على أن تنفكّ من قيود مكانها وزمانها ومألوفاتها وحسّيّاتها، لا يمكن أن تصف حقيقة الأمر بشكل دقيق وكامل، فلسنا وقتذاك إلا عدماً محضاً. عدماً لا يمكن أن نرغب أو لا نرغب.

ناحية أبي كانت تتطلّع بين لحظة وأخرى. كان راقداً، ليس بمقدوره أن يرفع رأسه من وسادة شيخوخته بعدما أثقلت الحياة حركة جسده. جسده الذي احدودب ناحية الأرض تحت وطأة السنين والحسّ بالمسؤولية.

في الجانب المقابل من الصّالة كنت مستندًا باسترخاء ظاهريّ لكنّ الباطن أمسى يعتور بشكل كلّي بكل ذلك القلق والخشية والأسئلة. كنت أحدّق حيناً في شيخوخة أبي وأحياناً أخرى في بياض شعر أمّي. كان على الشمال منها جسداً محطّماً، انتهت صلاحيته تقريبًا، حتى بات غير قابل للاستخدام سوى للتبوّل والتغوّط والتجشؤ. كذلك كانت أمّي عن يمينه غير أنها ما كانت تتقن دائماً مواعيد تبوّلها. كان ذاك الجسد المثخن بشيخوخته يمارس شتّى أشكال الحركات البهلوانيّة على جسد أمّي لحظة كانت صبيّة بضَّة، تتغنّج بكلّ أنوثتها في مواجهة رغباته الساديَّة.

عمل أبي حارساً للأمن في مستوصف حكوميّ صغير من بين أوائل المستوصفات التي أنشئت في مدينة القطيف. دأبت أمّي على زيارته بين حين وآخر إذا وجدت في جسدها عارضاً يستدعيها لزيارته، أمّا بعد التقائها بأبي فقد باتت قبل أن تغفو ليلاً، تجدّ بحثاً في ذهنها عن ذريعة أو أخرى للخروج من المنزل.

ابتدأت الحكاية بمحاولة أمّي غواية حارس الأمن الذي لم يستطع السيطرة على رغباته في مواجهة صوت أنثويّ حادّ. كان يلمحها تمشي بخطوات واثقة مغناج، وقد تجلببت بكامل عباءتها من أعلى رأسها حتى أخمص قدميها. عباءة كانت آنذاك مطموسة تماماً في السّواد قبل أن تبدأ الفتيات مسيرة تنويعهنّ في أشكال العباءة، للتعبير عن الرغبة في الاختلاف أولاً، وممارسة ما يتاح للإعلان عن هوية كانت غائبة غياباً تامّاً عن الحياة ثانياً، فإذا كانت السياسة بالتعريف فناً لإدارة الممكن، فالعباءة تتجسَّد من خلال هذا التعريف بكونها فعلاً سياسيّاً احتجاجيّاً.

قدّمت أمّي تفّاحتها الحمراء النَّاضجة، فما كان من أبي بكلّ غبائه وسذاجته ورغباته العمياء وهيولى الضعف في تكوينه إلا أن قضم أول قضمة منها ليأتي على آخرها.

استجاب بارتباك في كلماته التي ما كانت عصية على الفهم بالنسبة إليها، فقد أدركت بحدس الأنثى ومجسّاتها وبلل استشعارها أنّه يكاد يتفطّر عشقاً، وشهوة، وارتباكاً ذكورياً أمام سطوتها، فسطوة الرَّجل مصطنعة، زائفة، ليست سمة تكوينيّة فيه إلا ظاهرياً فقط. تلك السّطوة الزائفة تتكشّف عن مدى زيفها عندما تتلاشى بكلّ ما تحمله من صلف وعنجهيّة واعتداد كاذب بالذات القادرة المتجبّرة المتعالية على شرط الجسد. حينذاك يصبح هذا الطاغية أو ذاك بكلّ جبروته حملاً وديعاً، مستسلماً استسلاماً نهائياً، يتصفّد تشفّعاً، واسترحاماً أبدياً أمام سكّين سطوة هذه الأنثى أو تلك شريطة أن تتقن أنوثتها ذلك.

لهذا السبب تحديداً يكون غياب الأنثى عن حياتنا بمثابة اغتيال. انتزاع للجوهر والهيولى من داخلنا. أو بمثابة حكم بالأحزان الشّاقة المؤبّدة على الأقلّ. لأنّها عندما أتقنت مراوغة ظاهرنا واستكانت هناك في الباطن كانت تضعنا في مواجهة حقيقتنا وجهًا لوجه خلوًا من الأقنعة. ومن كانت هذه سمتها فبالتَّأكيد كانت في العمق تجعل من وجودها بديلاً عن الحقيقة والباطن والكينونة. وعندما تنزع وجودها دون شفقة أو تهيئة نفسية مسبقة نكون في مواجهة الفراغ التامّ. نبات كياناً مجوّفاً في داخلنا. لهذا السبب تحديدًا تظهر أعراض الفقد دائمًا ضعفًا واصفرارًا وخمولًا وانهيارًا في قدرة الجسد على ممارسة وظائفه الطبيعيَّة عند من بات في مواجهة فراغه التام وتجويفاته الباطنيَّة الخالية من وجود تلك الأنثى.

بعد عدّة تجارب ناجعة أدركت أمّي ذلك من خلال مؤشّرات عديدة ما كانت لتغيب عنها حتى لو لم يكن لها سابق تجربة بميكانزمات الشهوة وامتحانات الغواية لكنّها بكينونتها وهيولى أنوثتها أدركت ذلك، كونها خلقت من اعوجاجه فكانت الأقدر على فهم ضعفه، بينما لم يستطع رغم ادعاءاته أن يفهم تكوينها وضعفها، لأنها جزء منه ولم يكن جزءاً منها. لهذا فهمت ما يستشيط في قلبه من رغبات طائشة ونبض مجنون. ما يفكّر فيه. كيف ستكون استجاباته، وما الدافع الذي يقطن وراء كلّ سلوك وما معنى زيغ هذه النظرة أو حيرة تلك الابتسامة.

هناك في مستوصف ما راودته عن نفسه فانحنى في مهبّ أنوثتها كي يقدّ عباءتها من قبل وتقدّ قميصه بذات الطريقة أيضاً. شغفها حبّاً وشغف بها أضعاف ذلك10، تماماً كما سيحدث بشكل مشابه بعد سنوات طويلة من تلك الحادثة الاستثنائية بين أحداث البلدة المنسيّة، وكأنّ التاريخ ليس سوى عود أبديّ مطلق من التكرار وإعادة التكرار في متوالية لا نهائيّة. ولأنّها اتخذت تلك السِّمة الاستثنائيّة كأوّل حادثة من نوعها فقد أرّخت الأحداث والشخصيّات بربطها بتلك الحادثة.

منذ ذلك الزمن الموغل في الذاكرة والعصي على النسيان أصبحت كلّ من يُشتبَه في عذرية سلوكها أو يتمّ رصدها في موقف شبيه من الغواية تربط دوماً بتلك الأنثى التي أتقنت شكل غوايتها لآدم، وأحدقت شباكها من حوله بجدارة لامتناهية كانت امتداداً طبيعياً لهيولى الأنثى في أسلافنا.

بدأت تفتّش في ذهنها عن أيّة مبرّرات لزيارة المستوصف. غالبيتها كانت أسبابًا ومبررات واهية وغير مقنعة. فمرّة تتذرع بصداع شديد في رأسها كان من الممكن أن يبرأ بكلّ سهولة في المنزل بالاسترخاء قليلاً أو بالاستحمام في ماء ساخن، ومرّة تتذرّع بآلام في أسفل ظهرها. ومرّة تتذرّع بالتهابات مهبليّة لم تطلب أمّها أو أبوها تفصيلاً لذلك تحت تأثير الخجل والحياء الذي كان يحكم علاقة الأمّهات بالبنات، فلم تكن الفتاة العذراء تعرف كثيراً ممّا يعنيه كلّ ما يتعلق بأعضائها الجنسيَّة وأمراضها إلا بعد عقد قرانها، فلم يكن للعذراء وقت ذاك من معرفة سوى ما تتيحه الِمْعَلْمَة11 من دروس بسيطة في الحساب، وحفظ السّور القصار، والقراءة والكتابة، وبعض من مسائل الفقه المرتبطة بعبادات المرأة، وطهارتها، وتكاليفها الشرعيّة، ولم يكن للرجل من حظ أكبر من ذلك سوى ما كانت توفّره عائلات الإقطاعيّين لبعض أبنائها من السفر للنَّجف من أجل التعمّق في دراسة العلوم الدينية في الحوزة العلميَّة ذات النمط الدينيّ التقليديّ.

مثل تلك الدّراسة كانت لدى غالبيّة الناس الكادحين في البساتين والحقول ترفاً ذهنياً وأسلوباً برجوازياً في الحياة. بالطبع لم تدخل كلمة برجوازيّ حيّز الاستخدام اللغويّ بين أولئك الكادحين ممّن لم يصيبوا شيئاً من الثقافة بل كانت توصف بأنّها حياة الكبار فقط، تمييزًا عمّن يستشعرون صغارًا تحت تأثير الفقر والحاجة. للكدح وعدم توفّر المال والوقت باتت القدرة على متابعة الدراسة والعلوم الدينية محصورة فيمن كانوا يعيشون يسراً ماديّاً، ووفرة اقتصادية، من أبناء تلك العائلات الإقطاعية. لهذا ارتبط الدين بالإقطاع في هذه المنطقة وما هو ما أصبح نسياً منسياً إلى حدّ كبير بعد قيام الدولة الحديثة، وارتباط المجتمع بنمط الدولة الريعيّة، وانتهاء عصر الإقطاع، وإن ما زال مستمراً كثقافة وسلوك، يتمظهر في الزيجات، ونمط العلاقات الاجتماعيّة بين السيّد والعبد، وهو ما أكّده أحد كبار أحفاد الإقطاعيين بقوله، بأن ليس ذنباً من ذنوبهم كعائلة أن جعلهم الله أسياداً وجعل الآخرين عبيداً، وهو ما أثار غضب أناس كثر دون أن يجرؤ أحد على مواجهته على ما قيل من عبارة اصطفائية متشدّقة.

بعض من أبناء تلك العائلات انخرط في حياة العراق، في بغداد خصوصاً، بكلّ التباساتها، وتحولاتها، وصراعاتها، وإيديولوجياتها، وتشظّياتها، فتبنّى فكراً مغايراً تماماً لما أرسل إليه. بعضهم عاد شيوعياً وأقل من ذلك من عاد لوطنه بعثياً صدّامياً. أما نمط المثقف البوهيميّ، اللامنتمي، الصّعلوك، فلم يجد له امتداداً قطيفياً، ذلك أن هذا النوع من المثقف لم يكن حاضراً إلا في عقد الثمانينات وهي الفترة التي اتّجهت فيها رحلات طلب العلم إلى قم بعد قيام الثورة الإيرانية، والسيطرة الإسلاميّة على مقاليد الحكم هناك.

السّبب الثاني في انتقال الدراسة الدينية لقم آنذاك أن منظمة الثورة الإسلامية في الجزيرة العربيّة تشكّلت في تلك الفترة لمعارضة نظام الحكم في شبه الجزيرة العربيّة بعد أن انتقلت من الكويت، وقد اتخذت من إيران مقرّاً لقياداتها وكوادرها، فاتجهت أنظار الدارسين الحوزويين لهناك، ومن الواضح أن الدراسة في تلك الفترة، أو قيادات المعارضة، لم يكن من ضمنها أحد من عائلات الإقطاعيين في القطيف، بل إن تلك العائلات لم تشترك في نشاطات المنظمة أبداً، خشية على مصالحها الاقتصاديّة في علاقتها الجيّدة بنظام الحكم. بعض من أفراد تلك العائلات اتخذ خطاباً حكوميّاً في مهاجمة نشاطات المنظمة أما من لم يكن يهتمّ للسياسة فقد انشغل بحياته الشخصيّة. وذلك مما لم ينطبق على بعض العائلات الإقطاعيّة في العواميّة لكونها اصطدمت منذ تأسيس الدّولة بنظام الحكم.

إضافة لذلك فقد بدأت آفاق الدراسة قبيل تلك الفترة تتّسع بعدما أدخلت السّلطة التعليم النظامي والأكاديميّ عبر وزارة المعارف ووزارة التعليم العاليّ ممّا جعل أبناء تلك العائلات ينخرطون في الدراسة الأكاديميّة، وبسبب توفّر المال واتساع الأفق الذي تشكّله الوفرة الاقتصاديّة، فقد سافر الكثير لبعض من دول العالم من أجل متابعة الدراسة بينما تُرِكت الدِّراسة الدينيّة لعائلات الكادحين. عدد من أفراد تلك العائلات سافر ناحية لبنان ومصر مما جعله ينخرط في السجالات الثقافيّة والسياسيّة فتشبّع بأفكار خارجة عن إطار الفكر الديني السائد في القطيف. لهذا سجّل التّاريخ أن أوّل الأطباء والمهندسين والمثقفين والشعراء في القطيف من تلك العائلات.

تأسيس منظمة الثورة الإسلاميّة في الجزيرة العربيّة ضمن حركة الطلائع الرسالية. تشكّل الدولة الحديثة قبل ذلك. الطفرة الاقتصاديَّة. وفرة المال عند أفراد تصنّف خارج إطار عائلات الإقطاع التاريخية بعد أن استطاعوا استغلال ضعف المؤسّسة البيوقراطيّة وبدائيّتها ونسبة الفساد العالية فيها. كلّ تلك الأسباب أحدثت خلخلة في طبيعة العلاقة التي حكمت الإقطاعيين بالكادحين تاريخياً. شيء واحد ظلّ صلباً لم يتخلخل كثيراً وهو الثقافة السائدة بين الطرفين فما زال السيّد الإقطاعي ينظر لذاته كونه سيّداً وما زال الكادح ينظر لتلك العائلات باعتبار أفرادها إكباريَّة القطيف.

غالبية من سافر، سواء إلى النجف أو إلى قم بعد ذلك، كان يذهب سنين عديدة، ومن ثمّ يعود ليكرّس ذات النمط التقليدي في الحياة والفكر والدّين إن لم يكن بشكل أكثر تزمّتاً في أحكام الشريعة، وأشدّ تمسّكاً بالتقاليد والأعراف الاجتماعيّة، ذعراً وخوفاً من أن يصل الحال في القطيف بما كان حادثاً في بغداد فترة سيطرة المدّ الشيوعيّ وثورة 14 تمّوز وحكم الزعيم عبدالكريم قاسم، أو انقلاب البعثيين بعد ذلك وحكم البعث الدمويّ بعد إزاحة أحمد حسن البكر من قبل النائب صدّام حسين، أو بما كان حادثاً في إيران بعد الثورة بعدّة سنين، من جيل متأمرك ومتفرنس، ونساء لم يتقنّ وضع إيشارباتهن على رؤوسهنّ بالطريقة المحددّة تحديداً صارماً في رسائل الفقه.

بطبيعة الحال كانت التحوّلات الثقافيّة للأفراد مرتبطة بالسّفر للنّجف للدّراسة والتماسّ مع الأفكار السائدة في حياة العراقيين، أما بعد أن اتّجهت الدّراسة لمدينة قم فلم يشهد أحد تلك التحوّلات بعدما ألقت الثّورة الإسلاميّة تأثيراتها الدينيّة في السّلوك، فأصبحت الشروط الموضوعيّة في القطيف للتّأثر بأفكار غير دينية غير مهيأة أساساً. بالتّأكيد ليس هذا الظرف محصوراً في القطيف فانتصار الثورة الإسلاميّة في إيران والنّكسة قبل ذلك وفشل مشاريع الوحدة العربية أيضاً، هيأ الظروف لانحسار الأفكار العلمانيّة والوطنيَّة وسيطرة الأفكار الدينية بما تحمله من وعود للخلاص في الدنيا كيوتوبيا وفي الآخرة كفردوس أزليّ.

في القطيف أصبحت شخصية الملتزم بتعاليم الدين ومدونة الشريعة تحظى بالاحترام والإيجابية المطلقة بعد أن كانت قبل قيام الثورة الإسلامية توصم غالباً بكلّ مترادفات السّخرية والاستهزاء. أسقط الشاه لكنّ سقوطه المدوّي من عرش إيران ترافق مع سقوط أشياء أخرى في أمكنة أخرى من العالم. في القطيف أسقطت من الجدار صور الرئيس جمال عبد الناصر عند بعض العائلات، بينما أسقطت صور الزعيم عبد الكريم قاسم من منازل أخرى. ثبّتت مكان تلك الصور صورة أكبر حجماً لآية الله روح الله الخمينيّ، بينما ثبّتت صورة السيد محمد الشيرازي لدى كثير من عائلات العواميّة وتاروت وصفوى. أما بالنسبة للنساء فقد أسقط بعضهنّ صورة عبد الحليم حافظ لتبدل بخطاطات منسوخة لأشهر الخطاطين الأتراك والفرس تتضمّن بعض الآيات القرآنية، أو صور فوتوغرافيَّة تتضمّن صور قباب العتبات المقدّسة في كربلاء أو النجف أو مشهد.

بدأت ملابس النّاس تتّخذ نمطًا مغايراً أيضاً، فإبّان السبعينات كان نموذج اللّباس امتداداً لأزياء الممثلين والممثلات في الأفلام المصريَّة. سعاد حسني وزبيدة ثروت ونجلاء فتحي وميرفت أمين وشمس البارودي كانت نماذج تحتذى في الأزياء والسلوك والغنج بالنسبة للغالبية من الفتيات آنذاك. الرجل كان يرتدي بنطلونا واسعاً من أسفله، ضيّقاً عند الأرداف والفخذين، بقميص مفتوح الأزار غالباً، ليستبدل ذلك بالثوب الأبيض الفضفاض. أضاف بعضهم على ذلك غترة بيضاء مسدلة دون عقال، بعد أن كان شعراً منفوشاً بالطريقة التي كان ينفش فيها في سبعينات القرن العشرين. للتّأكيد على الطابع الدينيّ للزّي أمسك الرجل منذ ذلك سبحة طويلة بين يديه، تحتوي على أربع وثلاثين خرزة بعدد تسبيحة الزّهراء.

منذ ذلك الحين أصبح مألوفًا أن تجد الرجال يسيرون عبر الشوارع والأزقّة متمتمين بشتى ألفاظ الاستغفار ويلهجون ببعض ما حفظ في الذاكرة من الأدعية والمناجيات الدينية. كان الرجل أيضاً، يستخدم للتطيّب التقليدية من أنواعه كالمسك والعود ولهذا أصبح للملتزمين دينياً في القطيف رائحة متطابقة.

بالنسبة للنّساء فقد احتجبن منذ ذلك الحين في المنزل بعد أن كنّ طوال فترة العصر يوميًّا يتجمّعن عند جدران أحد منازل الحيّ في تجمّعات نسائيّة، كانت مألوفة تماماً قبل قيام الثورة الإسلاميّة. في تلك التّجمّعات أمام المنازل لم يكنّ يرتدين سوى مشمرهنّ دون أن يكون فعلاً مستنكراً من قبل السيّارة من الرّجال. أما في المنزل فقد كانت الأقمصة الضيّقة، والبنطلون، والتنانير القصيرة جدّاً، زيّاً مألوفاً مستحسناً من قبل الرجال والنساء على السّواء.

بعد قيام الثَّورة أصبحت النساء يرتدين ثوباً فضفاضاً، ولم يكن للرجال أن يمتلكوا معرفة دقيقة عن عدد الفتيات في كلّ منزل إلا من خلال أحاديث أمّه أثناء عملية البحث عن زوجة مناسبة، بل كانت معرفة بعض تلك المعلومات الأساسيّة العامّة تثير حساسية الآباء والأخوة. كثيرًا ما تسبّب ذلك النوع من المعرفة في مشاجرات بين أفراد البلدة لم تكن تقتصر على من عرف وأخ من عرفت من بين الفتيات بل إنها تمتدّ أحيانًا لتشمل مجموعات تابعة للطرفين المتشاجرين. بالطبع أصبحت العطور منذ ذلك بالنسبة للنساء فعلاً جنسيّاً مقتصراً على غرفة النوم فقط ووقت الممارسة الجنسيّة. أمّا من تجرؤ على أن تتعطّر أثناء خروجها من المنزل فتوضع مباشرة في دائرة الشبهة والريبة من قبل الرجال أولاً، وفي دائرة الاستهجان والغيبة من قبل المرأة ثانياً12.

أحد أبناء تلك العائلات الإقطاعيّة ممّن كان يقطن على مقربة أمتار عديدة من منزلنا المتهالك في الطّرف من مسوّرة العواميّة13 كنّي قبل قيام الثورة الإسلاميَّة من قبل أفراد البلدة بعبد الكريم أبي جنّية. كنّي بذلك في إشارة واضحة بأنّ ما يسبّب إليه جنوناً، كان جنيّة متمرّدة على قبائل الجنّ خرجت عن طاعة القبيلة بأن عشقت إنسيًّا. منذ ذاك باتت تسيطر على ذهنه سيطرة كاملة ممّا يجعلها في لحظات اشتداد العشق والرَّغبة تتمدّد في دماغه وجسده تمدداً مادياً، عمودياً وأفقياً، ومعنوياً أيضاً.

تحت تأثير تلك السيطرة الكليَّة تكون النتيجة أن يتصرف عبد الكريم بتصرفات صُنّفت من قبل كثيرين من أبناء البلدة ورجال الدين خصوصاً على أنّها تصرفات مجنونة. بعضهم ممّن تعرض سابقاً لمشاكساته، وصفعاته، أشاع أنّ عبد الكريم قد تعرض هناك على يد كثير من العراقيين لما تعرضوا له من قِبَلِهِ تماماً فكانت النتيجة أن عقله لم يحتمل تصوّر أن يصبح هدفاً مستضعفاً بين يدي من هم أشد عنفاً ومشاكسة فاتخذ من الجنون وسيلة دفاعية في مواجهة تحطم صورته عن ذاته.

في مواجهة ما مورس عليه من عنف مضاد بات عبدالكريم يتصرّف بهذه الطريقة حسب أكثر الآراء شيوعًا لكنّ عدداً ضئيلاً من الناس أكّد سخف مثل تلك الفكرة. أكّدت هذه المجموعة استدراكًا أنّه جنّ تماماً بسبب شاعرة عراقية كان قد رآها تلقي قصائدها التفعيليَّة بملابس ضيقة وتنورة قصيرة وخصلات شقراء طائشة وثقة أنثوية مفرطة في أحد التجمّعات الثقافية.

يقال إنّ تلك الشاعرة ذات الأصول الآشوريَّة خلبت عقله وجنّ تحت تأثيرها وخصوصاً حينما ألقت قصيدة ذات إيحاء إيروتيكيّ صارخ. انحازت المجموعة الأولى لهذه الفكرة إلا إنها لم تتقبّل فكرة الانحياز التّام للرأي الجديد والاعتراف بخطأ الرأي الأول. لهذا عملت على المزاوجة بين الفكرتين وقد أكد عدد من أفراد المجموعة الأولى أن تلك الجنيّة عشقت عبدالكريم من خلال تلك الشاعرة. اتفقت المجموعة الأولى والمجموعة الأخيرة على أصول تلك الشّاعرة مؤكّدين دائمًا للمتلقّين أنّها عاشوريَّة أما طبيعة علاقته بها ومدى ما حدث بينهما فكان مجالًا مفتوحًا لتخمينات الخيال.

كلّ ما كان يقال لم يقارب حقيقة ما كان وما هو كائن فأبو جنيّة لم يكن مجنوناً بالفعل. كذلك لم يكن هذا اسمه بل أطلق عليه ذلك رغم أن جميع من في البلدة ما عاد يذكر اسمه الحقيقي. حتى أن أفراد أسرته ممن ولد بعد أن كنّي بتلك الكنية ما كان يعرف أن اسماً حقيقياً يقطن وراءها. هذه الكنية التي باتت علمًا كانت في البدء نبزاً ساخراً من قبل أطفال البلدة. أطلق عليه وأشيع بعد أن نبزه أحد جيرانه من الكهول بكونه مجنونًا فسمعت مجموعة من الأطفال ذلك. نبز من قبل الكهل بالمجنون، فقط لكثرة حديثه عن شخصية الزعيم عبد الكريم قاسم، والذي كان يذكر اسمه دائماً، مشفوعاً بشتى أشكال التبجيل والتعظيم والفخر والخشوع، حتى خيّل لبعض من أطفال البلدة وكهولها وعجائزها أن تلك الشخصية هي أحد الأنبياء. أكّد عدد قليل من النّاس بأنّهم زاروا مقام ذلك النّبي في العراق في منطقة قريبة جدًّا من كربلاء وهو ما لم يحظ بالقبول من قبل غالبية أفراد العواميَّة.

حينما أتذكر شخصيَّة عبد الكريم أستعيد الحكاية التي كانت أمي ترويها لنا عندما كنّا أطفالًا. عندما سمعتها للمرّة الأولى لم أكن قد تجاوزت العاشرة بعد. لم أدرك آنذاك أنها حكاية استلّت من عدّة مصادر تاريخية وكتب تتعلق بدراسة أديان الشرق القديم أساساً. بالتأكيد لم تدرك أمي أصول تلك الحادثة وحقيقة ارتباطها بأديان الشرق بل كانت ترويها باعتبارها حكاية من الحكايات الشفوية المتداولة بين عجائز البلدة وقليل جدًّا من كهولها، فالسرد كان آنذاك فعالية نسويّة ذات طبيعة شفويّة، ما كان للرجل أن ينشغل بها عن محاصيله الزراعية، أو صيده للأسماك أو صناعته للجرار الفخاريّة وغيرها من الأشغال اليدويَّة السائدة.

كانت أمّي تروي الحكاية بالتركيز على أحداثها الرئيسة بغاية واحدة فقط وهي التسلية. بعد سنين طويلة عرفت الحكاية كلها. عرفت ما حذف منها في سرد أمّي. عرفت أصولها. مصادرها. فترتها التاريخية. روايتها جاءت في سرد أمي بكونها تسرد حكاية لملك اعتبر مجنوناً من قبل جميع المجانين كونه العاقل الوحيد بين حشود المجانين تلك فقرّر أن يكون مجنوناً أيضاً.

كانت الحكاية الحقيقيّة تروي سيرة ملك، قرّر أن يجعل من أفراد شعبه جميعاً مجانين حفاظاً على إمبراطوريَّته وعرشه من تمرد محتمل، وثورة تتحيّن الفرصة تحت تأثير الفاقة والجوع والطبقية الحادّة. ولأنّ روحية الشعب كانت ناضجة للقيام بتلك الثورة فقد طلب الملك من مستشاريه أن يدلوه على طريقة ناجعة، سريعة، تعطب عقول الشعب الذي كان هاجساً يومياً يؤرّق حياة الملك ويعكّر صفو أيامه، ويبعده عن الالتذاذ بالموسيقى والجواري والرّقص وشتى أصناف الخمور واللَّحم.

لم يكن الملك في تلك الفترة التي تتابعت فيها بعض مظاهر الرفض والتمرّد المتفرّقة قادراً على أن يغفو دون أن يرى كابوساً مرعباً، كان يعود بتفاصيل مختلفة لكن فكرة الكابوس متطابقة دائماً. كان الكابوس يسرد وقائع متشابهة وهي أن الملك كان يساق في شوارع الإمبراطورية لابساً أسمال أحد الفقراء. أمام عود أبديّ لذلك الكابوس كان الملك يستيقظ مذعوراً وجلاً كل ليلة بمجرد أن يغفو قليلاً فلم يوجد ما هو أشدّ خوفاً بالنسبة إليه سوى أن يرتدي أسمالاً شبيهة بما يرتديه فقراء الإمبراطورية البارثيّة.

تضافرت جهود كلّ من يقطن داخل القصر لتلبية رغبة الملك أرتبانوس الرّابع. خصوصاً أنه قد هجر مجلسه وامتنع عن جلسات الشراب والغناء. بات ندماؤه في يأس مطبق وحالة من الضجر بعيداً عن مجالس اللهو والشراب والشعر وأموال الملك التي كانت في صندوق مذهّب بمحاذاة عرشه دائماً، تتحيّن قصيدة من المديح أو طرفة مضحكة لتبذَل له على سبيل المكافأة والمغالاة في السخاء والأعطيات فقط.

عرف الملك بين ندمائه بالكرم والبذل لكن خارج أسوار القصر فقد اعتبر الشعب ذلك الملك أسوأ الملوك الذين حكموا الإمبراطوريّة البارثية. القتل. السجن. الفقر والفاقة. التشرّد. الجوع. التعذيب. كلّ ذلك كان عنوانًا لاتهامات بدأت تنتقل بين ألسنة الناس خارج أسوار القصر الباذخ.

بمساعدة الخيميائيين ومجموعة مختارة من السحرة وبتوجيه من الندماء والمستشارين استطاعوا التوصّل لمادّة كيميائية تذاب في الماء، وتسبّب إعطاباً دائماً للعقل، فتمّ للملك ما أراد. أذيبت تلك المادّة في آبار المملكة التي كانت مصدراً وحيداً للمياه، ولأنّ المياه ملوّثة أصلًا فلم يلحظ النّاس تغيّرًا في الطعم واللون. اختبرها الأطباء على بعض المحكومين بالسجن مدى الحياة وعدد من المحكومين بالإعدام للتأكّد من عدم إضرارها بالباه الجنسيّ للرجال والخصب للنساء.

في احتفال مهيب باذخ حضره جميع أفراد الطبقة الحاكمة تم تأكيد ذلك بقراءة بعض الأوراد والطلاسم والتعويذات من قبل كبير السَّحرة على تلك المادة الكيميائية. قبل ختام الحفل بعدّة دقائق توّج الكهنةُ جميعًا الملكَ كأعظم ملوك الدولة البارثيّة وأكثرهم مهابة وقداسة لكن النتيجة لم تكن كما توقّعها الوزراء والمستشارون والملك أيضًا. الكهنة أيضًا لم يتوقّعوا ما حدث عبر أنحاء المملكة فأكّدوا بأنّ الحادثة لم تكن سوى تدبير محكم من أهريمان إله الشر والظلام.

جنّ الشعب تماماً. فقاموا بثورة كاسحة، مسلّحة بالعصيّ، والحجارة، والسكاكين، وتمرّد أوشك أن يقتلع الملك من عرشه، وينهي سطوة إمبراطوريّته التي انتشرت النيران في جميع أزقّتها وطرقاتها تقريباً. بعض ممن كان يجيد استخدام الرّماح والسّهام استطاع أن يصيب بعضاً من حرس المراقبة في أبراج القصر العالية مما أصاب قادة الجند بالدهشة والجزع. تلك الأبراج التي وصفت في بعض صفحات ألف ليلة وليلة النسخة الفارسيَّة، المحذوفة من الطبعة الأصليّة العربيّة، جعلت من ذلك الحصن شبيهاً بقلعة أسطوريّة، تستقر أساساتها على مياه دافئة، وتصل أبراجها لدكّة السّماء، وقد قيل في الأساطير والحكايات الشعبيّة أن عمالقة من الجنّ كانوا يقطنون داخل أسوار القلعة.


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* الرواية صادرة عن دار عرب في لندن سنة 2019. 

* يمكن الحصول على نسخة ورقية من الكتاب من خلال الرابط التالي على موقع نيل وفرات:

 https://www.neelwafurat.com/itempage.aspx?id=egb262301-5279203&search=books

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم