عُلا

الخُبر، السعودية


أن تُحِبَ فتاة زميلتها في الصفّ، في المدرسة الثانوية للبنات، في حي البايونية بمحافظة الخُبر حتى وأن لم تسرّ بمشاعرها لأحد، فذلك في حدّ ذاته جريمة، ويعتبر تعدياً على الحدود المسموح بها بين المرء ونفسه، فكيف بالحال لو أنها تجرأت وصرّحتْ علانية بما يهيج به صدرها تجاه زميلتها؟! وهي تدركُ تماماً بأن ذلك لو حصل، فسينتهي بها المطاف، لا محالة، إلى نتيجة واحدة لا غير، الهلاك. لكنني مع ذلك تمنيتُ لو أن تتاح لي الفرصة لأبوح لـ (موضي) بذلك الحب. أختنقُ بالمشاعر التي تتعارك في أعماقي كل ساعة، بل كل لحظة.

«أحبك موضي، أحبك جداً، وأريد أن أعيش معك بقية حياتي، أحبك جداً جداً وأحس بشوق مستمر لا يتوقف نحوك» أُسامر طيفها الوضّاح.

موضي القادمة من عائلة (القعّاض) الميسورة الحال، الفتاة الحلوة ذات الخدود المتوّردة والتي تفوح من أرجاء ملابسها روائح الدخون والعطور الفرنسية، النظيفة التي تتعمد إطلاق روائح النعناع من فمها باتجاه فتحات أنوفنا وهي تلوك برّقة العلكة بين أسنانها اللامعة النظيفة، الرقيقة اليانعة والتي بالنسبة لي لا يكبر ردفيها ولا يصغران عمّا هو مثالي؛ ليست سوى ملاك نزل من السماء في يوم بارد أزهرت فيه البراعم واكتست المساحات بلون الورود. أُكذِّبُ من يقول أنها من جنس البشر وهي بتلك البشرة البيضاء المائلة للحمرة والشفاه الوردية المكتنزة والمرسومة بدقة متناهية والشعر البني الغامق الهاطل على العنق والكتفين مثل شلال من حرير حين تتاح له الفرصة وينفلت محرراً نفسه من بين أسوار الحجاب. هي بما لا يقبل الشك لا تنتمي لنوعية البنات اللاتي عرفتهن على مدى سنوات حياتي التي قضيتها في الخُبر، ولا حتى لبنات عدن وتعزّ الجميلات التي سنحت لي الفرصة لرؤيتهن عن قرب في الصيف الماضي عندما وطأت أقدامي ولأول مرة أرض أخوالي في أقصى جنوب الجزيرة العربية. ينتابني اعتقاد أقرب لليقين، بأنه، مع كل ذلك الجمال الذي منّ الله به عليها، وتلك الرّقة التي لا تملكها سواها، وغمزة العين الواسعة وحبات اللؤلؤ التي تنتظم في ثغرها الوردي الممتلئ؛ سيجري خلفها الآلاف من البشر ليخطبوا ودها.

لكن تلك الفتاة الحلوة والسعيدة أَبَداً، التي لا تحتجب الابتسامة عن وجهها، والتي لا تعير للدراسة كبير اهتمام، لا تبدو في المقابل منتبهة لمشاعري وأحاسيسي، تمضي غير مكترثة بتلك النظرات التي ترسلها زميلتها اليمنية «القصيرة» صاحبة «خدود الطماطم»، المجتهدة والفصيحة، «الدحّاحة»، التي لا يتفوق أحدٌ عليها في النحو والصرف والبلاغة، الصامتة في أغلب الأوقات والتي لا تحتل الابتسامة صفحة وجهها إلا فيما ندر، مثلما يصفنني زميلاتي.

«تبدين دائماً هادئة وحزينة وكأنك يتيمة» تقول لي إحداهن، وتُكمل «الكل يعتقد بأن لديك همّ دائم». أخرى لامست أوتار قلبي حين همست في أذني بصوت خفيض، وابتسامة ماكرة على وجهها «من يراك يجزم بأنك واقعة في الحب، هل وقعتِ في شباكه؟»، خشيت حينها أن تكون قد لاحظت إعجابي بموضي، وأنها من ورائي، تُخبر عني بقية البنات.

لا ألوم موضي على عدم اكتراثها بي، ومن يقدر على لومها؟! فجميع الطالبات في المدرسة يحاولن ما استطعن لفت انتباهها، بل وصل أمر الإعجاب بها للمدرسات اللاتي لا يتورعن في إهدائها درجات النجاح في الامتحانات حتى لو تخلّفت عن الحضور. «عسل يا موضي، أكيد أمك مصرية» تجاملها مديرة المدرسة.

بالليل، حين آوي إلى مخدعي ويكون الكون ساكن عدا من أصوات محركات سيارات الشباب في الشارع البعيد وهم يتسابقون في استعراض مهاراتهم في السرعة والانتحار، واضعة رأسي على المخدّة في محاولة لاستدراج الكرى إلى جفنيّ، يعافني النعاس، ويحتل فكري طيف موضي، ضحكاتها والتفاتاتها، بريق عينيها العسليتين، رسمة وجهها المدوّر والخدود الملساء المتكوّرة والصقيلة مثل تفاحة حمراء، أنفها قصير - وعريض قليلاً في الأسفل - لا يشوّه جمالها كما يشوّه وجه أختها (بيان) الناحل التي تصغُر موضي بسنة والتي تدرس في القسم العلمي من الثانوية.

لكنها بالفعل كانت تعيش حياة لستُ أنا طرفاً فيها، فلا تقضي معي أوقاتاً كما كنتُ أتمنى، ولا حتى تبادر وتسأل عن حالي وأحوالي كما تفعل بقية البنات، تُفضّل علينا جميعاً زميلتنا (وطفة) التي شاركتها إصرارها في أن تكون الثانوية العامة أقصى ما يمكن تحقيقه من مراحل الدراسة «التي لا تنتهي إلا بعد أن يشيب الرأس، ويصعب على المرأة إنجاب أطفال وتربيهم بطريقة صحيحة» تقول موضي وتعقّب وطفة «التعليم لا يفيد المرأة في المستقبل، بلَا تعليم بلَا خرابيط» ، وقد أقنعتا بعضهما البعض أن بيت الزوج أولى بجهدهن ووقتهن من ضياعهما فيما لا طائل منه. لا تكل وطفة تعيد كلامها ذاك، تردد على مسامعنا نفس «الأسطوانة» متى ما كانت ثمة مناسبة، أو حتى من دون مناسبة. لديها ولدى موضي الحديث عن الرجال والزوج موضوع رئيسي يُطرح إلى حد كبير بشكل يومي؛ مرة واثنين وثلاثة بلا ملل أو كلل، طبق رئيسي خلال تجمعنا على الفطائر في فسحة النصف ساعة وسط الحصص «المرأة ما لها غير بيتها وزوجها وإلا فلن يرضى عنها الله سبحانه وتعالى، المرأة لم تخلق للعمل والتعب، جسدها اللين لم يُخلق للكد والكدح، بل لتربية الأولاد ورعاية الزوج»، تقول تلك الجمل وهي تتفحص بعينيها وجوهنا ريثما تتعرف على من في صفها ومن في صف المعارض. تنتفخ بعد ذلك أوداجها ويمتلئ وجهها ثقة وهي تجزم وتقسم بربها بأن ما تقوله ليس سوى «عين العقل»، الصحيح والمنطقي الذي لا يقبل الجدال، الحق الصدوق الذي لا يخالطه باطل زهوق، نور الشمس الذي لا تنكره العين. تضيف مبرهنة «لذلك أبي يعيش في قمة السعادة مع أمي التي لم تشتكِ يوماً منه ولا من حياتها». وفي بعض الأحيان تستشهد بآيات قرآنية وأحاديث نبوية تنقلها عن أبيها، تقول «هكذا أراد لنا الله سبحانه وتعالى (وَقَرنَ فِي بُيُوتِكُنَّ)»، وتردف «وقال أيضا بأن على النساء ألاّ يتمنين أن يصبحن مثل الرجال (وَلا تَتَمَنَّوا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعضَكُم عَلَى بَعض)».

مع ذلك، ومع يقيني المتزايد بأنها لن تلتفت إليّ ولا إلى مشاعري أبداً، ولسبب لا أفهمه، بقيت متعلقة بموضي بشكل كبير، رغم أني أدرك كذلك بأنها في نهاية المطاف، في نهاية العام الدراسي الحالي، وتحديداً بعد سبعة أشهر من الآن، ستذهبُ هي من طريق وسأذهب أنا من طريق آخر.

ساكنة في قلبي هي شئت أم أبيت، كلما رأيتها تدلف الصفّ يدّق قلبي، وتزداد ضرباته إذا ما اقتربت خطواتها من مقعدي، وأحسّ بتوجع في البطن ووخزة في الصدر حين ألمحها تضحك وتتحدث مع وطفة والفرحة تملأ محيّاها، أحسد وطفة وأحياناً أحنق عليها، وأتمنى أن تختفي عنا.

لم تهجم موضي على مشاعري وتحتلها إلا منذ طور قريب، رغم أنها كانت زميلتي في الصف خلال السنتين الماضيتين. أنا نفسي لا أعي سرّ ما يحدث لي، فجأة نبتت في أعماقي كل تلك المشاعر المتداخلة والمعقدّة تجاهها، وها أنا أجدني غير قادرة على التحكم في مشاعري وما تحاول أن تدفعني إليه من هوس!

ليس شعوري المجنون نحوها هو الشيء الجديد الذي حلّ في حياتي وحسب، بل ألفيتني كذلك أكثر انجذاباً لسماع الأغاني التي يدمن عليها أبي (عبدالرحمن)، بخاصة أغاني أم كلثوم وعبدالحليم حافظ وفريد الأطرش. يوم الخميس بالذات، وبعد أن يعود من عمله عند ساعات الغروب، مرهقاً مكدوداً، وبعد أن يستحم ويرّش على ملابسه عطره المفضل، مزيج العود والصندل والهيل - كما يقول - ، يستلقي على كنبة في غرفته وبجانبه تقعد أمي (جواهر)، والتي هي الأخرى تكون قد استعدت للجلسة الأسبوعية بإعداد وجبة العشاء باكراً على غير العادة كي لا تُفوّت على نفسها فرصة مشاركته السهرة ومنذ الدقيقة الأولى لها. عندها يشتعل المكان بصوت أم كلثوم أولاً وقبل البقية، صوت الستّ يؤذن بالبدء، لا أذكر أنه بدأ أي خميس طوال سنوات حياتنا في الخُبر بغير صوتها، خصوصاً أغاني الأطلال وأنت عمري وفات الميعاد والحب كله وليلة حب ويا مسهرني وغداً ألقاك. أغنية «فات الميعاد» عند أبي هي «أروع أغنية سمعتها في حياتي على الإطلاق، كلمة ولحن وغناء» ثم يردد مع الستّ المقطع الغنائي الأول بعد الموال: تفيد بإيه يا ندم يا ندم يا ندم .. وتعمل إيه يا عتاب»، بعدها يصرخ بانتشاء: الله الله عليك يا بليغ حمدي، هذا ملحن ماله مثيل، عبقري وأكثر من عبقري بعد»، ثم يهدأ لينهي جملته «لولا أن الستّ غنتها في سنة النكسة». عندما تصل الأغنية إلى ذلك المقطع «ستاير النسيان.. نزلت بقى لها زمان.. وإن كان على الحب القديم وأساه.. أنا نسيته أنا .. يا ريت كمان تنساه» تتصلب عضلات وجهه، فينوس رأسه طرباً وهو يردد معها الجُمل، إلى أن يبحّ صوته فيكف عن الترديد.

إنما تعوّد كذلك وفي نهاية سهرته، وقبيل أن يتهالك على سريره مستسلماً للنعاس؛ على سماع واحدة أو اثنتين من أغاني بلاده اليمن، بالذات أغنية أيوب طارش «وامفارق بلاد النور» التي أكدّ لي ولمن معي في البيت وفي أكثر من مناسبة بأن تلك الأغنية تحديداً ستكون سبباً رئيساً في عودتنا القريبة إلى اليمن.


«وامفارق بلاد النور وعد اللقاء حان .. الوفاء للوطن يدعوك لبى النداء الآن

لا تغيبوا كفـى غربة ولوعه وأحـزان .. اليمـن ينتظركم يا حبايب بالأحضان

يا غريب الوطـن يكفيك غربة وأسفار .. الوفاء دين يا لله شرّفوا الأهل والدار

لا تردوا الرسائل تطفي الورق نار .. والنقود ما تسلي من معه في الهـوى شان»


أغاني أبو بكر سالم كانت تدّمع مآقيه وتطحن فؤاده المشحون بالحنين وكانت تحفّزه هي الأخرى على العودة إلى اليمن في أقرب وقت ممكن. فينتقل بين أغنية:


«يا طايرة طيري على بندر عدن ... زاد الهوى زاد النوى زاد الشجن

ع الهجر مقدرش أنا، أشوف يومي سنه ... ذي جنة الدنيا .. حواها كل فن»



والأخرى:


«وأنت ياعاشق ديارك قم وهب وأنفض غبارك

المكلا لك ولك صنعاء ولك بندر عدن

اليمن طيب وأطيب ناس حلان اليمن»


نادراً ما كنتُ أركّز على كلمات الأغاني التي أسمعها قبل أن تجتاحني المشاعر تجاه موضي، وبالكاد أنتبه إلى جملة واحدة منها، بل وكنت أستغرب من تأوهات أبي كلما اختتمت «كوكب الشرق» جملة غنائية ما!! الآن، فجأة، تغيّر الحال، صرتُ أنجذب إلى تلك الجمل وتلك التعابير التي بدت لي وكأنها تعبّر عمّا يجيش به داخلي من مشاعر أنا الأخرى. أصيخُ السمع بتركيز وتوتر لـ «أغداً ألقاك، يا خوف فؤادي من غد»، «يا ناسينى، وانت على بالى وخيالك ما يفارق عينى، ريحنى، واعطف على حالى وارحمنى، من كتر ظنونى» و «بعيد عنك حياتي عذاب، ما تبعدنيش بعيد عنك»، وبين حين وآخر، وبلا إرادة، تترقرق عيناي بالدموع.

بقت أمي متنبهة لتلك التغيّرات التي تحصل لي، لاحظت اهتمامي الجديد بالموسيقى مثلما لاحظت نزوحي للصمت والهدوء أكثر مما سبق وكانت قبل هنيهة من الزمن تَسِمني بالهبلة والمعتوهة. ومع تأخر نزول دم الحيض عندي مقارنة بمن هنّ في سني، زاد قلقها عن الأول «أنتِ لم يبقَ لديك الكثير من الوقت قبل أن يطرق باب بيتنا أحد العرسان ذات يوم ومعه أبوه وأمه ويطلبك للزواج»، وكان قلقها ذاك قد بدأ عندها منذ أن تجاوزت الثانية عشر وبقي صدري مسطح لم ينبت عليه شيء.

لا، لا أتمنى أن يأتي ذلك اليوم الذي ذكرته أمي، لستُ في وضع نفسي يسمح لي أن أتخيّل رجل يقاسمني سريري ويقترب مني «ليغازلني ويلمسني ويضمني إليه ويتلذذ بمفاتني» مثلما تكرر وطفة، وتُؤيدها موضي. لا أستطيع أن أتصور أن يقرّب رجل أنفاسه من أنفاسي؟! أشعر بالغثيان وأنا أتخيل ذلك.

لكنني أتساءل أحياناً لماذا لا تسكنني رغبة مماثلة لتلك التي لدى وطفة وموضي؟! لماذا لا يأخذ موضوع الرجل حيزاً ولو بسيطا من تفكيري؟ أولستُ أنثى؟!! أكاد لا أصدق بأن مثل تلك المشاعر لا تأتي إلى بعد سنّ البلوغ، فالحديث عن الأولاد كان حاضراً لدى البنات حتى وأنا في المرحلة الإعدادية، فهل وصلن إلى سن البلوغ في تلك المرحلة المبكرة؟! ثم لا ألبث أن أتراجع عن تفكيري ذلك على سماعي لحقائق الأمور التي تسردها أمي وهي الأخبر والأعلم بتلك الحقائق بلا شكّ «تلك مشاعر المراهقة المبكرة والمخادعة، المشاعر الحقيقة لن تنبت لدى البنت قبل البلوغ ونزول دم العادة الشهرية».

في وضعي الحالي لا أحسُّ سوى بنفورٍ شديدٍ تجاه الرجال، أشعر بتفكيري ييبتعد عنهم أكثر فأكثر يوماً بعد يوم، خصوصاً أولئك الذين يتكاثف الشعر في وجوههم؟!

- أمي تقول أن الرجل قليل الشعر غير مكتمل الرجولة.

- وأمي تقول أنه كلما زاد شعر الرجل كلما زادت فحولته.

أستمع لأحاديثهنّ في الصف فيقشعر بدني وأحسّ بشيء من التقزز يسري في مصاريني وأوشك على التقيؤ. «ميرفت» مدرّسة التربية الإسلامية، التي تكرهُ الرجال «ما بطقش سيرتهم» أكدّت لنا ذات حصة بأن على الرجل أن يكون نظيفاً جداً، وأن عليه ألاّ يُسهب كثيرا في إطالة لحيته حتى لا تتساقط شعيراتها على الأرض والأكل وتختلط بالرز والخبز و «الملوخية». قالت «أنا مبحبش اللحية أبداً، باشمئز منها»، تكُملُ جملتها متسائلة بسخرية «وهو ربنا خلق فينا الشعر عشان نسيبه يطول؟»


***


كنتُ أميل، في سنوات الروضة والسنوات الأولى للدراسة الابتدائية لأن أمضي أوقاتاً أطول مع معلماتي في المدرسة، فلم يكن يجذبني اللعب مع بنات صفّي على كثرهن، أقضي معظم وقت فراغي الذي يتخلل حصص الدروس، في غرف مدرّساتي. في بعض الأحيان كنت أفضلُّ الوقوف خلف نوافذ غرفهن أراقب حركاتهن في الداخل وابتسامة صغيرة ترتسم على وجهي كلما انتبهت إحداهن الي على أن أشارك بنات صفي وقت مرحهن، وحين أنكص عائدة إلى البيت كنت لا أبرحه إلا في نهار اليوم التالي لأركب الحافلة المتجهة إلى المدرسة. كان لخوف أمي علي وتحذيرها المستمر لي من مغبّة الخروج من البيت تأثير على رغبتي في الخروج واللعب مع أطفال الجيران الذي تصورتهم وحوش.

الوضع تبدل حين تجاوزت التاسعة من العمر. ضربتُ بعرض الحائط خشيتي من الخروج واللعب خارج أسوار حوش المنزل، وحشرتُ نفسي وسط صبيان الحيّ، ألعب معهم وأتحدث إليهم وكأنني صبي مثلهم، في حين كنتُ أتجنب اللعب مع البنات اللاتي ازداد عددهن حول بيتنا. أمي ظلّت ساكتة في البداية، لم تعترض طالما لم ينبت على صدري «نتوأين». أبي كان أكثر المتفاجئين بمهارات ابنته على لعب «كرة القدم» وسط الصبية. بالنسبة له كنتُ أفوقهم شطارة وأنا أدحرج الكرة بين أقدامي وأسجّل الأهداف بمهارة عالية. قال حينها مازحاً بأن حلمه وأمنيته أن تُبكِّر أمي بولد قد أثرّ على الجينات في دمي، وأنه كان من المفروض أن أكون صبياً كما كان يتمنّى. قال يشدّ من أزري «حتى الأولاد الذين معك لا يستطيعون ركل الكرة بتلك القوة التي تركلين بها، أنتِ أحسن لاعب في العالم، أحسن من بيليه نفسه».

ويوم وصلتُ الثالثة عشر ومُنعت من لعب الكرة مع الصبية، وجدتني أبتعد لا إرادياً عن أخواتي (نُهى وسُهى والعنود وشذا)، أنفرُ من الأحاديث التي «تخص البنات» بالذات، مفضلة على ذلك، اللعب مع أخوتي الذكور (حامد وعاصم) والصغير (مراد)، فأسرق من حامد دراجته الهوائية الصغيرة وأسير بها فوق الحصى والسكك المبلّطة والترابية، أركب أرصفة الشوارع وأسقط على القار أحياناً وتصاب ساقي ويداي بالخدوش وتخرج منها الدماء القانية، أصعد حافية القدمين قدّامهم التلال الترابية وتتلطخ ملابسي بالتراب والغبار ولا أهتم بصراخ أمي وغضبها عليّ. أتسلّق معهم جذع شجرة الجوز العملاقة وسط الحوش، وأسقط منها متألمة و يمتلئ جسدي بالرضوض، ولا أبالي. تنهرني أمي «أنتِ بنت، عيب اللي تسوينه»، وحين تجد اللامبالاة مني جواباً تغضب أكثر، تنعتني بالغباء والحُمق، وأنا أعطيها أُذنا من طين وأخرى من عجين. تعود بعد أن ينتهي مفعول غضبها لتستخدم أسلحة أخرى تظنها تُحدثُ أثراً، تجلسني بجانبها وتقرب وجهها من وجهي وهي تبتسم، تتحدث معي بهدوء تام، تنصحني «أنت فتاة، امرأة، أنثى رقيقة، قريباً سيكتمل حوضك، ويصبح قادراً على حمل البذرة، عليك أن تنتبهي لنفسك، إذا فضضتِ بكارتك بطيشك لا سمح الله فلن تجدي لك من رجل يقبل بك، ستعيشين طوال عمرك بلا زوج، هل تفهمين ما أقول؟»، لكن حديثها ونصائحها تذهبُ مع الريح. تمضي بطيبها وحسن ظنّها «لا مانع من اللعب، ولكن إياك من الجري السريع وركوب الدرّاجات وفتح ساقيك على مصراعيها» فلا تجد مني أذناً صاغية. تعود تستنجد بأبي، تشتكيني «بنتك بتطلّع ليّه قرون»، لكن ذلك لم يجد معي نفعاً هو الآخر. مضيتُ أشعر بأنني نوع مختلف من البنات «أنا غير عن كل البنات يا أمي» فتهزّ رأسها رافضة ما أقول ليأتي حامد ويؤكد لها كلامي «هذه بنت عن ولد، بل عن عشرة أولاد».

حين بلغت الرابعة عشر، داهمني مغص في بطني، ظلّ يأتي ويروح على غير انتظام مرة كل ثلاثة أو أربعة أيام، ففرحت أمي به وعاد التهلل إلى وجهها المكتئب، فعكفت على إسكات آلامي بالمسكنات وهي تصرّ بأن تلك العلامات ما هي إلا بداية أعراض العادة «يبدو أنك من البنات اللاتي سيتأذين في أيام الدورة، ستتعبين، الأمر واضح من الآن»، تقولها بسرور وتتمم «لكنها ستختفي بعد الزواج، أنا كنتُ مثلك».

لم ينبجس الدم ولم تختف الآلام التي بقيت ترافقني مرافقة ظلّي. أقعد لوحدي قدّام المرآة، أتلمس وجهي، أتحسس الشعيرات الصغيرة التي بدأت في النمو فوق شفتي وأسفل فكّي «ستكبرين وسينبت على وجهك شعر خفيف يشبه اللحية» يسترسل طبيب الغدد السوداني (عبدالغفار)، الذي عكف على متابعة حالتي منذ أن بدأ القلق لدى أمي، دون أن يعثر على تفسير مقنع لعلتي. غمغم لأمي وأنا وسطهما، وأصابعه تهرش بشيء من التوتر والحيرة صلعته وخده الأيمن الذي حفُر عليه ما يشبه علامة (+) «ذلك أمر طبيعي لا يدعو للقلق لمن هو في وضع ابنتك (عُلا)، فجسمها يفرز هرمونات ذكورية غزيرة، وهذا أيضاً طبيعي لمن في مرحلتها العمرية، سيزول كل ذلك عندما تصل سن البلوغ»، كنتُ يومها قد وصلت للخامسة عشر. تأكد لي عندها صحة ما أخبرتنا به مدرّسة مادة «العلوم العامة» من أن مشاعر المراهقة المرتبكة من حب وهيام وتعلق بالآخرين في سنّ المراهقة، ليست سوى عرضية من شأنها أن تختفي وتضمحل مع الأيام ومع التقدم في العمر. قالت تنصحنا «يصير أن تحب الفتاة فتاة مثلها والشاب شاب مثله في هذه المرحلة العمرية والتي تختلط فيها المشاعر بين الحب العادي مثل الحب بين الأخوة والأصدقاء، وغير العادي، غير المسموح، فعليكن أن تبقين حذرات وواعيات مما يحدث حولكن، وعليكن عدم التردد في إبلاغ أمهاتكن إذا ما شعرتن بخطر من أحد ما». ثم حذّرتنا مغلّظة في كلماتها وعيناها مفتوحتان على محجريهما «إياكن ثم إياكن الاقتراب من الشباب، فهم في هذه السنّ كلاب مسعورة تنهش لحم من تقابله، نار متقدة تلتهم الأخضر واليابس». لكنني لم أمِلْ عاطفياً حتى وأنا في سنّ مبكرة للأولاد، كان شعور الاهتمام بالبنات هو الذي يسري في دمي، ومع التقدم في العمر كبر عندي ذلك الاهتمام، قبل سنتين من الآن كانت «نسمة» الطالبة المصريّة لطيفة كاسمها، فاقعة البياض، وردية الخدود رهيفة الأصابع، أعجبت بها أيما إعجاب، وكانت تصغرني بعام، تزنرت بالشجاعة ذات صباح وحدّثتها لأول مرة فأخذت قلبي معها بسحر ابتسامتها ولصفة خديها، لكنها سرعان ما غادرت المدرسة والخُبر بعد ذلك بأيام متجهة إلى جدّة. بقيتُ حزينة لأيام، وظلّت هي تزور أحلامي لفترة طويلة من الزمن.

وحين باغتت الدورة أختي العنود التي تصغرني بثلاثة أعوام، وكانت حينها في الثالثة عشر، شعرتُ بالغضب في داخلي على وضعي البائس ذاك، تناولت دفتر مذكراتي من خزانة الكُتب وكتبتُ ألعن حالي وأتوسل ربي أن ينقذني بعد أن قرر هو ولا عداه أن أكون على تلك الحالة. كتبتُ «هذا ليس عدلا، فكيف تعيش العنود وبقية أخواتي حياة خالية من أي خوف أو قلق، وأعيش أنا كل أنواع الخوف والقلق؟! لماذا حُكم علي بهذا العذاب؟!» ثم ندمتُ على ما كتبته ومزقتُ الورقة خوفاً من بطش ربي.


***

* الرواية صادرة عن دار عرب في لندن سنة 2019. 

* يمكن الحصول على نسخة من الرواية من خلال موقع نيل وفرات على الرابط التالي: 

https://www.neelwafurat.com/itempage.aspx?id=egb262304-5279206&search=books

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم